مع قدوم شهر رمضان المبارك من كل سنة يتجدد الشوق إلى توحد الأمة في صيامها وليلة قدرها وعيدها وتاريخها الهجري كحد أدنى يضاف إلى مظاهر الوحدة الأخرى الضاربة جذورها في العقيدة والتاريخ، وباعتبار حكم الحاكم يمكن أن يرفع الخلاف الواقع في الفروع فالأمل يقوى في القائمين على أمر السياسة أكثر من التعويل على القائمين على الشأن الديني، ذلك أن فقهاء زماننا في معظمهم يجترون خلافات قديمة كانت مبررة لغياب التواصل مع تباعد الأمصار، أما اليوم حيث أصبح العالم مجموعة سكنية متقاربة حتى يكاد الجار يسمع حديث جيرانه وتبلغه روائح طعامهم، فلم يعد من مبرر لاختلاف الرؤى حول توحيد هلال الصيام ومن ثم توحيد جميع أهلة السنة. فالاعتبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية الشرعية لقول النبي صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " والشهر العربي المعتمد في التوقيت الشرعي يتكون إما من تسعة وعشرين يوما وإما ثلاثين، فإذا ثبت رؤية الهلال يوم التاسع والعشرين من شعبان وجب الإمساك في اليوم الموالي وإلا تم إكمال عدة شهر شعبان ثلاثين وكان اليوم بعده أول رمضان، يقول ابن رشد صاحب "بداية المجتهد وكفاية المقتصد":"إذا غم الهلال فإن الجمهور يرون أن الحكم في ذلك أن تكمل العدة ثلاثين " وبخصوص العدد المعتبر في رؤية الهلال قال مالك رحمه الله "إنه لا يجوز أن يصام ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين عدلين" وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كانت السماء صاحية أي ليس فيها غيوم ببلد كبير لم يقبل إلا شهادة العدد الغفير من الناس. فلا اعتبار برؤية الواحد كما لا اعتبار برؤية الفاسق، ولا بد أن يكون الشاهد مستقيم الحالة أو على الأقل أن يكون مستور الحال بمعنى غير معروف بفسق أو فجور وكذب. وقد وقع خلاف فقهي قديم من زمن الصحابة رضي الله عنهم حول توحيد الرؤية بين بلدان المسلمين، و أجمع العلماء أنه لا يراعى في توحيد الرؤية البلدان النائية والمتباعدة جدا كالمغرب وأندونيسيا مثلا لاختلاف المطالع، وأما إذا لم تختلف مطالعها كل الاختلاف فيجب أن يحمل بعضها على بعض لأنها في قياس الأفق والبلد الواحد، والاختلاف في توحيد الرؤية ليس قائما بين المذاهب الفقهية فحسب وإنما قد تجدها داخل المذهب الواحد، فمثلا في الفقه المالكي هناك خلاف بين المدرسة المصرية والمدرسة الحجازية، يقول ابن رشد في "بداية المجتهد":"هل يجب على أهل بلد ما إذا لم يروه أن يأخذوا في ذلك برؤية بلد آخر أم لكل بلد رؤية فيه خلاف فأما مالك فإن ابن القاسم والمصريين رووا عنه أنه إذا ثبت عند أهل بلد أن أهل بلد آخر رأوا الهلال أن عليهم قضاء ذلك اليوم الذي أفطروه وصامه غيرهم وبه قال الشافعي وأحمد وروى المدنيون عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك". وما أميل إليه انطلاقا مما أراه من مقاصد الشرع ومن باب قدرة أولياء الأمور على حسم الخلاف لصالح رأي على آخر، هو توحيد الرؤية وفي ذلك توحيد لمشاعر المسلمين في الصيام وليلة القدر والعيد والتأريخ الهجري وغير ذلك، ونأخذ بعين الاعتبار اختلاف الزمان بيننا وبين أجدادنا من حيث سهولة التواصل والإخبار بين مشرق الأمة ومغربها بخلاف ما كان في الماضي، وأقدر لو كنا في اتحاد مغاربي أو عربي أو إسلامي لتغيرت المعادلة وأصبحنا نصوم مع أول بلد تثبت فيه الرؤية لنفهم أن القضية في عمقها سياسية أكثر منها مسألة فقهية. وبخصوص الجدل القائم بين الفلكيين والفقهاء أعتقد أن الراجح والمناسب لظاهر الشرع وطبيعة الأمة المسلمة "الأمية" هو اعتماد الرؤية لثبوت الأهلة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته . فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين" وكما قال أيضا في علاقة بالموضوع الذي نحن بصدده في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر "إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا . يعني مرة تسعة وعشرين ، ومرة ثلاثين ." وحتى من يستند في ترجيح اعتماد الحساب على لفظة "فاقدروا له" الواردة في العديد من الأحاديث الصحيحة يمكن رد اجتهاده بما جاء مما يشبه شرحا لها في موطن صحيح آخر، بأنه إتمام عدة الشهر ثلاثين، روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة فصوموا لرؤيته . وأفطروا لرؤيته . فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين . وفي رواية : فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين ". وإذا سلمنا بمبدأ الرؤية بدل الحساب اعتمدنا بعد ذلك أيسر السبل وأكثرها علمية وأنجعها لتحقيق ذلك، والمهم هو التأكد والتثبت سواء بالطرق التقليدية أو الوسائل المعاصرة، ثم الأخذ برأي توحيد الرؤية فنصوم ونفطر مع أول بلد تثبت فيه الرؤية ثبوتا شرعيا بشروطه المعتبرة، وإذا تم ترجيح هذا النظر من طرف أولياء الأمور واتخذوا قرارا شجاعا في منظمة المؤتمر الإسلامي بتوحيد الرؤية زال الخلاف تلقائيا بين الفلكيين والفقهاء. الفقهاء يؤصلون للرؤية الشرعية وتوحيدها والفلكيون يؤكدون بالطرق العلمية ثبوت الرؤية من عدمها. فالشرع حاكم والعقل الرشيد المسدد يحسن التنزيل والتطبيق، وفي انتظار تحقق هذا الحلم لا بد من المحافظة على الوحدة في كل بلد ريثما ترفع عن الأمة غمة الفرقة والاختلاف المذموم.