بلى، فهو بيت الشعر في المغرب، بيت من لا بيت له، بيت اليتامى والمنبوذين، والمهمشين، والمقصيين من الشعراء بحسبان إحدى فقرات بيان التأسيس. بيت أبي سفيان: من دخله فهو آمن. ومن ثم، دخله الشعراء المغاربة – زرافات ووحدانا- ليأمنوا، ويؤتمنوا، يأمنوا "غائلة" الوسواس الحتاس، ومصيبة هجران ربة الشعر لهم، وازورار أرواح وادي عبقر عنهم. مند تأسيس البيت، بعد أن كان فكرة تبلورت ، واكتست لحما وعظما وعصبا، وخلقة "سوية" على يد ثلة من الأصدقاء الشعراء المغاربة، أشرق أمل عريض، أمل أن يشهد الشعر المغربي الحديث والمعاصر، طفرة نوعية، ودينامية على مستوى الشكل والمحتوى، والندوات، والموائد. وتواثب حماس البدايات إلى درجة غير مسبوقة، من إطلاق الوعود والمواعيد، والأماسي، والمناشط الثقافية، والندوات العلمية لفائدة شعراء رواد فيما سمي بأكاديمية بيت الشعر. ولست بمنكر عنفوان البدايات، وصدارة الفعل الشعري تنظيرا، وممارسة، ومساندة، وجمع وضم شتات شعري كان قائما. لست أنكر الحزم والعزم والهمة الوافية عند التأسيس، والسنوات المحسوبة التي تلته، والتي – كما أسلفت – شهدت حراكا إبداعيا، وانتباهة خاصة لهذا النوع من الكلام، هذا السبيل من اللغة الأميرة، اللغة العليا بتعبير جون كوهن cohen، الناقد الأسلوبي الفرنسي. ظهر ذلك، وبرز جليا في طول الوطن وعرضه من حيث حضور الشاعرات والشعراء المغاربة، الفعلي والأدائي في المحافل والمنتديات، والمدن، والبلدات، والمؤسسات التعليمية بخاصة. كان ربيعا شعريا ممدودا زاهيا بالخضرة، وممتدا كنهر لجين رقراق، أدفأ مفاصل الإبداع المقرورة، وأنعش أطرافه المرتعدة، تلك المفاصل التي كانت عبارة عن أكداس، وأكوام تملأ المكتبات والأكشاك، وتغطي الأرصفة، ملقاة، منكفئة على وجهها – أحيانا –في حاويات القمامة والأزبال. عرف التلاميذ والطلبة شعرا ينتمي وينتسب – بحق وحقيق- إلى الوطن . وتدافعوا –بالنعومة كلها، والعطش الحارق – إلى قراءته والإنصات إلى شاعراته وشعرائه داخل أفضية المدارس والمؤسسات التربوية، ومدرجات الجامعات المغربية. وبات –معروفا – ربما لأول مرة – أسماء شعراء كانوا – حتى تلك اللحظة، نسبيا منسيا، أو في عداد المعدومين، غير الواردين بتاتا في النقاش الأدبي المدرسي والجامعي. بل إن العجب العجاب، والإستفهام الغريب، كانا يرتسمان على أوجه بريئة وهي تسمع اسم السرغيني أو المجاطي أو الكنوني أو الطبال أو الميموني أو الجواهري أو بنيس أو بنطلحة أو راجع، أو مليكة العاصمي، على سبيل المثال. علما أن هؤلاء الشعراء كانوا يملأون الرحب والسمع المغريبين، بله والعربيين وإن في حدود معينة. أزهرت شجرة الشعر، وأينعت، وتهادت غصونها المثقلات بناضج الثمار، وطيب العرف والرائحة، وتنادى الشعراء، وتقاربوا، وعقدوا العزم، مستظلين بالبيت، على أن يعيدوا للشعر والفن والأدب بعامة، الألق المطلوب، والإشراق المتوخى، والسطوع المنشود، والمكانة المرغوبة، ليحتل حيزه الواجب والموجوب ضمن حركية الشعر العربي الحديث والمعاصر، إذ خلص النقد "الجديد" العاشق أو المسلح بمناهج العلوم الإنسانية المختلفة، إلى أن شعرنا لا يقل أهمية وشأنا، عن الشعر العربي، وأن شعراءنا وبعض شاعراتنا، ليسوا واطئين حيال شعراء عرب مشارقة وشوام رواد ، كانوا لنا معينا، وحياضا لا يفتر ماؤه وظله، منه نهلنا، واستوحينا، واستمددنا، وحذونا، ودخلنا – بعد ذلك معركة التأصيل والمغربة والخصوصية، بعيدا – بطبيعة الحال – عن كل شوفينية وتعصب أعمى، وانغلاقية و استعلاء. لم يتح لهذه الزمنية الشعرية المتوهجة، أن تستمر – للأسف الشديد. شرعت العصي تنحشر في العجلات، والشوك يرمى في الطريق، وطفقت الإحن والسخائم و"الأمراض" و"الزعامات" الكاذبة، و"الكاريزما الشعرية" الزائفة، تطفو على السطح. وسير بالبيت الذي انفتحت بوابته واسعة عريضة تحتضن، وتأوي، وتساعد – في حدود الإمكان- على إظهار من كان مهمشا ومطمورا، سير به إلى الضيق والتضييق، ثم صد الداخلين إليه من خلال الصد والهجر واللامبالاة، وضمور أنشطة ثقافية وشعرية صنعت مجد الإنطلاقة. لم يعد بيت أبي سفيان آمنا. فأبو سفيان المتعدد، أبو سفيان الأخطبوط، صادر بمعية البعض، عنفوان الاستمرارية واللمعان. وانكفأت الهيئة المسيرة ترسم ما يعن لها أجرأة للشعر، وأجرا. فهي من يخطط – في غياب التمثيليات الفرعية التي ظلت فكرة موءودة –ويضع البرنامج من دون استشارة "القاعدة" الشعرية، والنقدية والفنية التي تشكل أعمدة وزوايا وأركان البيت. وهي من يدعم هذا الديوان الشعري الجديد تتويجا وتقديما، وتدفع به إلى الواجهة، ما يعني أن أعضاء المكتب المسير هم من يقرر، ويثمن، ويتوج من دون إشراك شعراء ونقاد لهم قامتهم، ووزنهم، وعدتهم، وعتادهم، حتى إن بعض الأسماء من فرط التكرار.. تكرار وجودها وحضورها في قراءة الأعمال الشعرية المرشحة، أو في تتويج هذه الشاعرة أو تلك بجائزة الأركانة، أصبحت محفوظة ومملولة بحكم أبديتها وتأبيدها، وبحكم أن بعضها متطفل – تماما – على الشعر والنقد، وقليل الحيلة المعرفية والشعرية في أن يقطع بشعرية هذا دون ذاك. كما أن طبع مجموعات شعرية أو مقاربات نقدية، لأسماء مكرسة، يتم غالبا في جنح الظلام، أو من "تحتها" من غير أن يكلف البيت نفسه "عناء" إعلان فكرة وإزماع الطبع، حتى يتسنى للراغبين والراغبات من الشعراء والنقاد، تقديم منتوجهم الإبداعي في ظل التكافؤ، والتساوي في الحظوظ، والتنافسية الشفافة، مع إحداث لجنة علمية قارئة للمجاميع المتبارية. وكباقي الشعراء والنقاد، أتفاجأ – كل مرة- في المعرض الدولي للكتاب، بمنشورات بيت الشعر لأسماء – لا أطعن في شرعيتها الشعرية أو النقدية، ولكني أطعن في التعتيم الذي يمارسه، باقتدار، بيت أبي سفيان في حق الشعر والشعراء، والنقد والنقاد. من جهة أخرى، تخضع مجلة البيت لمزاجية ساكني "البيت". فلا إعلان، ولا إظهار نية في إصدار ملف فكري أو إبداعي ما. ولا استكتاب لأعضاء البيت والمبدعين، والنقاد من خارج البيت. فهل يمكن –بعد هذا – أن نتحدث عن شفافية ما؟ بأية لغة؟ وبأي معيار؟ وكيف؟ ما جدوى أن نكون أعضاء مبعدين، لا يتذكرنا بيت أبي سفيان إلا في المناسبات. وهي –كما نعرف جميعا – مناسبات يتيمة ومتباعدة، لا تزيد عن واحدة أو اثنتين في السنة، هذا إذا جد الجد، وقر العزم، ولعن "الشيطان"؟ وما معنى أن يصدر البيت "أنطولوجيا الشعر المغربي" في بدء خطوه، وظهوره، من دون أن يعيد النظر فيها، ويراجع "فعلته" التي أقصت جمعا من "الشعراء" المغاربة" من دون تقديم حجة مقنعة بين يدي الإقصاء، إذا كان للهيئة التي أصدرت "الأنطولوجيا" وأشرفت عليها، حجة وتفسير. والحال أن مصادرة التنوع والاختلاف، حضر في الاختيار بشكل أو بآخر. والحال أن المزاجية الحادة "لعبت دورا آثما في "اغتيال" بعض الأسماء، ما لم يفصح هؤلاء عن فهمهم للشعر، وأسسه، ولغته، ومقوماته، ورؤيته ورؤياه وحدوسه. بل، إن توجها واحدا وواحديا، تكرس عند وضع "الأنطولوجيا"، واستمر مكرسا في انتقاء الشعراء، والإحتفاء بأولئك الذين يخدمون توجها "انغلاقيا" "إخوانيا"، وتغييب الذين لا يدخلون ضمن هذا "التوجه". لقد تناهى إلينا ما طبخ، وما كان يطبخ ليلا، بل في رابعة النهار خلف جدران معزولة كجدران مارسيل بروست Proust مع الفارق، وخلف أقنعة مكيفة. فما ورد في ديباجة الميثاق، والبيان التأسيسي من أن : "بيت الشعر في المغرب، مكان رمزي لجميع الشعراء المغاربة الذين يدركون بوعي ومسؤولية أن الفعل الشعري هو –بالأساس- فعل حرية تلتقي أجيال من الشعراء، وتتحاور تجارب ولغات"، تحقق –إلى حد ما- كما أسلفت، عند التأسيس مع عطف سنوات محسوبة متتالية عليه؛ وسرعان ما التف القوم عليه، وصادروا منطوقه وروحه، وصير إلى مراوحة وغموض، كأن بيت أبي سفيان بات حكرا على قلة هربت من "الفتح"، وهرولت إلى الإحتماء بالبيت ريثما تمر "العاصفة"، وينقشع النقع المثار؟ وماذا عن الجمع العام؟ متى انعقد آخر جمع؟ ولماذا لم يتم استدعاء الأعضاء إلى جمع آخر، لنقف على مسارالسنوات السمان أو العجاف عبر حيثيات التقريرين "الأدبي" و"المالي"، وننكب "جماعيا" على التفكير في من نسلمه مفاتيح البيت، ودفة السفينة هذه المرة؟ لماذا هذا التزمين والإنساء والإبطاء؟ وكيف نستطيب التحدث عن الديمقراطية، والمسؤولية، والعدالة الاجتماعية، والتدبير التشاركي والحوكمة وبيتنا "عورة" يفضحنا أمام الرأي العام الثقافي، والرأي العام بعامة؟ لم نستبطيء الاحتكام إلى الزمن، وإلى السنوات التي حدد الجمع العام في القانون الداخلي؟ مم نخاف؟ هل –ألسنا آدميين سيقول البعض – استمرأنا "الجلوس" في التسيير، وعز علينا أن نفارق الوضع الاعتباري الذي تمنحه لنا تسمية "القيادة المسيرة" و"المكتب المركزي" و"الهيئة التنفيذية" وهلم تسميات وصفات فيها من القرقعة والضجيج أكثر مما فيها من الصمت والهدوء والعمل المنتج. كلمتي هذه لا تلمز ولا تغمر من قناة أحد، كما لا تشير بطرف خفي متقصدة شخصا بعينه أو أشخاصا معينين ، إن هي إلا كلمة أردت بها "التنبيه" إلى وعما نحن فيه، عسى أن نقطع مع البيروقراطية، والاحتكارية و"الوراثة" المقيتة، ونعطي للرأي العام، نظرة إيجابية عن "المثقف" المغربي، الذي هو ضمير حي، ولسان ذرب في الحق وعلى الحق، وضرورة أنطولوجية وحضارية، والمطالب بالإنغراس في هموم وشجون الشعب، والإنخراط في أسئلة العصر، والحداثة الخلاقة المبدعة، لا الحداثة الهدامة، الاستعرائية، والإنصات إلى ما يريده حاضر وغد الوطن ليكون في الموعد.. هذا إن لم يستبقه. وقبل هذا وذاك، الإلتفات إلى الذات واعتبارها من حيث تقدم للآخرين، للقطاعات الأخرى، ما به تقتدي، وتهتدي، وتحذو، وتتمثل.