كان للحكم الصادر في حق جريدة "المساء" وقع الصدمة على كل المغاربة، سواء منهم المشتغلين في الصحافة أو الذين يقرؤون ما تكتبه الصحافة، أو حتى الذين لا يهمهم الأمر، فقد أصبح الجميع يتحدث عن هذا الحكم الجائر الذي يرمي إلى إسكات هذا الصوت المستقل الحر الذي أزعج العديد من الجهات، بسبب مهنية طاقمها واحترافيتهم، هذا الحكم جعل الجميع يشكك في صحة وصدقية الشعارات المرفوعة من قبيل أن المغرب يعيش "عهدا جديدا"، وأن دولة الحق والقانون هي من تسود، وظن الجميع أن المغرب قطع مع ممارسات بائدة أثبثت نهايتها المريرة في مزبلة التاريخ، وحتى نكون من الذين يتحدثون بالشواهد الحقيقية والأدلة الملموسة على أن المغرب مازال ينقصه الكثير لكي يصل فعلا إلى طريق الديمقراطية وسيادة القانون. "" ذات صباح من أيام فرنسا الجنرال ديغول صدرت جريدة فرنسية دأبت على نشر رسوم ساخرة حول الرئيس الفرنسي ديغول، صدرت ذلك الصباح دون أن يكون فيها رسم ساخر يتهكم من عمل الرئيس أو من شخصه، ما أثار حفيظة الرئيس واتصل مباشرة بالجريدة ليخبرها أن عدم نشر هذه الرسوم الساخرة قد يفقد الجريدة قاعدة كبيرة من قرائها المهوسين بمطالعة هذه الرسوم الساخرة، فلكم أن تتصورا المدى الذي وصلت إليه الصحافة الفرنسية في عهد ديغول، وليس في عهد ساركوزي الذي يهاجم فيه كل من يحاول الحديث عن الكيان الصهيوني أو يشكك في ما يسمى "محرقة الهلكوست". وعلى ذكر ساركوزي فهو في ورطة كبيرة منذ أن تزوج بالعارضة والمغنية كارلا، فقد اجتهد الصحافيون في كل أوروبا في البحث في أرشيفاتهم لاستخراج صور السيدة ساركوزي العارية، وشبه العارية التي التقطت لها في سنوات التسعينات بشكل قانوني، ما يجعل نشرها أسهل من شربة ماء، دون الخوف من متابعة السيد ساركوزي المثابر لجعل عارضته سيدة فرنسا الأولى، وفي جميع أوروبا التي لا نبتعد عنها إلا ببضعة كلمترات، يمارس الصحافيون عملهم كسلطة رابعة حقيقية، دون الخوف من أحكام خيالية قد تصدر هنا أو هناك ضدهم أو ضد جرائدهم، ولا غرابة أن نجد المجتمع يتفاعل بشكل قوي مع هذه الصحف ويجعلها في تجاوب تام مع تطلعاته الكبرى وآماله في غد أكثر إشراقا لبلدانهم وإتحادهم دون أدنى وجل أو خوف من سياسة تكميم الأفواه التي يجيدها قضاء العالم الثالث بحرفية عالية. إن حرية التعبير هي من المقدسات التي سعت جميع القوانين والتشريعات السماوية والوضعية إلى احترامها، فمن يرجع إلى القرآن الكريم مثلا، يجد في سورة البقرة ضمانا واضحا لحرية التعبير من الله تعالى، فعندما خلق الله جل شأنه سيدنا آدم عليه السلام، أمر الملائكة أن تسجد له، فسجد كل الملائكة لآدم، إلا الشيطان اللعين إبليس لم يسجد لآدم، ودفعه تكبره وتعاليه إلى رفض الامتثال لأمر الله تعالى، وهنا يورد القرآن الحوار الذي دار بين رب العزة جل وعلا، وبين إبليس، هذا الأخير رغم أنه عصا الله تعالى ولم ينفذ امره، فقد طلب من الله تعالى أن يمهله إلى يوم القيامة لكي ينفذ مخططه الإجرامي في جعل الناس يزيحون عن طريق الله المستقيمة، فقال له الحق سبحانه لك ما أردت، ولكن جهنم هي مأواكم أنت وكل الذين سيتبعونك، والمعاني التي يمكن أن نستخلصها من هذا القصص القرآني، هي أولا أن الله تعالى أورد أقوال إبليس كلها غير منقوصة، وهي دليل على عدم حرمان إبليس من الكلام، وثانيا هي أن الله تعالى كان استجاب لطلب إبليس رغم العصيان، ومنحه كل الحق في الكلام والتعبير، مع تذكيره بأن مصيره معروف ومحدد إذا بقى على هذه الطريق، بل وأمد الله في عمره وأمهله إلى يوم يبعثون لكي يعمل ما بجهده للنيل من عباد الله، وإدخال العديد منهم معه إلى جهنم وبئس المصير. إن ايرادنا لهذه القصة هدفه التأكيد على أن حرية التعبير يجب أن تحترم ويحترم من يحمل وجهة نظر مخالفة، مع الانصياع طبعا إلى القوانين والأعراف التي تؤطر هذه الحرية، وتجعلها في سياق لا يتجاز ثوابت الأمة ومقدساتها، فمثلا الرسوم المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ليست حرية تعبير بل استهداف ماكر لمقدسات الآخرين، والعمل بسوء نية تستهدف المخالفين، وهذه العقلية مرفوضة وغير مقبولة تحت أي مسمى، كما أن استهداف الأشخاص في خصوصياتهم أمر مرفوض كذلك لما يؤدي إليه الأمر من مشاكل وإحراجات لا تمت إلى روح العمل الصحافي والإعلامي في شيء، أما ما دون ذلك من فضح المفسدين والساعين إلى نهب ثروات البلاد، والذين يسعون إلى النيل من توابت الأمة، ومن عاداتها الدينية والاجتماعي، ومن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، بل إن الأمر إن كان كذلك وجب العمل على إخبار الرأي العام به في إطار من المهنية والعمل الصحفي الحقيقي الذي ينضبط للقواعد المنظمة لهذا المجال. إن أحكام القضاء الموجهة إلى النيل المباشر والمادي من جسد الصحافة الحرة، رهان خاسر لا محالة، لأنه مهما سعت جهات تزعجها الأقلام المستقلة من أجل إسكات هذه الأصوات، فهي تجني من وراء ذلك مفعولا عكسيا، يؤدي إلى خروج منابر إعلامية جديدة بأسماء متنوعة تسير في منحى ما سارت فيه الصحيفة أو الجهاز الإعلامي الذي ووجه بالغرامة الكبيرة أو المنع، فخير لهؤلاء إذن أن يتركوا الصحافة تعمل سواء كانت مستقلة، أو حزبية، لأن الأجواء الصحية لعمل المؤسسات الصحافية سينتج عنه وعي جمعي سيؤدي بدوره إلى تنمية البلاد وخلوها من رؤوس الفساد التي تعبث بمصير الأمة، تقول القاعدة "أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فلنأخذ بروح هذه القاعدة لكي ننجح جميعا ونقدم للناس عملا حقيقيا لسلطة رابعة، فالصحافي لا يجب أن يقدم على نشر أي خبر حتى يكون متأكدا منه ومن مصادره، وحتى إذا افترضنا أن الخطأ وقع فيصحح بالاعتذار، أو ببيان حقيقة أو ما شابه، حينها فقط نسلم من الأحكام الخيالية هذه وننجو من أسئلة قضاة يفهمون أحسن من الله، فهل هم أحسن أم الله. بقلم: مولاي محمد اسماعيلي بقلم: مولاي محمد اسماعيلي