ماذا لو حاولنا إحصاء عدد الندوات واللقاءات العلمية والمؤتمرات التي تعقد هنا وهناك وكلها تبحث في التنمية وفي كيفية النهوض بهذا الوطن أو ذاك؟ ماذا لو أحصينا تصريحات العديد من المسؤولين الذين تولوا ماضيا أو يتولون حاضرا تدبير الشأن العام وهم يُسوقون الوهم لعموم المواطنين، عن وعي أو عن غير وعي؟ ماذا لو حاولنا أن نبحث جميعا في: من المسؤول عن هذا التردي المتزايد يوما عن يوم؟ جوابا على هذه الأسئلة، وعلى أسئلة أخرى من نوعها، أستحضر مقولة عظيمة للفاروق عمر رضي الله عنه يقول فيها: "عجبتُ لجلد الفاجر وعجز الثقة" وهذه قولة سديدة حكيمة وكأن عمر (ض) حي يعيش بيننا. مشكلتنا في كثير من الأحيان، حتى لا أسقط في التعميم، أننا نتكلم كثيرا ولا نفعل إلا القليل، والذين يتكلمون ليس بالضرورة أن يكونوا "فجرة" بالمفهوم الذي تحدث عنه عمر (ض) ولكن هم أولائك الذين يحملون مشاريع تسير في الاتجاه المعاكس لرغبة غالبية المواطنين وطموحاتهم، أو ليست ذات أهمية ولا أولوية بالنسبة إليهم، ومع ذلك يتشبثون بها ويناضلون من أجل تحقيقها، فيتحدثون عنها في كل مكان ويستغلون كل منبر. هذا التقدم بالحديث والتظاهر بمظهر الواثق من صدقية القول هو نوع من "استغفال" الجماهير المتابعة والواعية في كثير من الأحيان، حيث درجة الوعي لا ترتبط بالضرورة بدرجة التعلم أو بالمستويات الدراسية للأفراد، فكثيرون منا هم واعون وعيا حقيقيا بما يقع، بل يتوقعون أيضا ما قد يحدث، وإن لم يسبق لهم أن تابعوا دراساتهم بمؤسسات الدولة. فحين يتحدث المتحدث بكل ثقة واعتزاز وهو مؤمن حتما بأنه لن يفي بما وعد به الناس، وإن أراد ذلك وسعى إليه، لأنه ربما مدفوع إلى غيره دفعا، أو من منطلق سعيه نحو الشهرة والثروة والجاه، أو ليظهر بمظهر المظلوم، فإنه فعلا يبتغي صناعة الغفلة بين الناس. وعندما يُكثر من ترديد كلامه وشعاره، والناس واعون مدركون ل"كذبه" أو ل"عجزه"، فإنه يستحق بجدارة أن يصنف ضمن خانة "المفوهين من أمتنا" فما أكثر ما نجد خطباء مفوهين لكنهم لا يعملون، وبالمقابل ما أكثر ما نجد في أمتنا وفي وطننا رجالا عظاما لهم من الحكمة والرأي السديد ما يسهمون به بشكل فعال في إخراج الناس من ضنك العيش وبؤس الواقع، لكنهم اختاروا الصمت وتواروا إلى الوراء، منهم من اختاره اختيارا عن قناعة وبعد تجربة ومعاينة، ومنهم من اختاره كفرا بمناهج التغيير القائمة وإيمانا منه بأن لا جديد تحت الشمس، وبأن صمته وابتعاده عن الأنظار وإن كان ضررا، وهو كذلك بالفعل، فإنه أخف، حسب رأيه، من أن يتحدث فيكشف جهل وسذاجة، بل وسطحية "المفوه" منا، فيكون بكلامه قد عرضه للسخرية والشماتة، ولعل هذا الموقف بني على قواعد منها: "أرض الله واسعة" و "كل ميسر لما خلق له" و "كم حاجة قضيناها بتركها"، و"هذا أخف الضررين" وما إلى ذلك. إن الإنصات لنبض الشعوب الآن أصبح ضرورة وواجبا آنيا لإنجاح ما صار يصطلح عليه تجاوزا ب "الربيع العربي"، وإن الإخلاص في النصح والصدق في العمل والانتصار لقيم المواطنة وإيثار مصلحة الوطن أولا كل ذلك من شأنه إن روعي فعلا أن يخرجنا من دائرة "الكلام" إلى دائرة "الفعل والتنفيذ" فلا يكفي إطلاقا أن ننوي العمل، وإن كان لهذا أجر عند الله تعالى، لكن الأهم منه أن ننتقل إلى التنفيذ بما يضمن مصلحة غالبية الناس من الفقراء والمساكين والطبقة المتوسطة على حد سواء، وإن هؤلاء البسطاء لينتظرون بفارغ الصبر متى يرون مبادرات تصب في صالحهم وتحقق لهم نوعا من العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية المستلبة منذ أمد بعيد. كان الحسن البصري (ض) يوماً جالساً في بيته، فإذا ضجيج وصخب على بابه فلما خرج يتفقد الأمر وجد مجموعة من العبيد في ضيق شديد، وما إن رأوه حتى صاحوا بأعلى أصواتهم: يا إمام نسى الناس عتقنا وتحريرنا فلم يعد في البصرة من يحرر العبيد، أين مواعظ العلماء التي تؤثر في الناس؟ هنا تأثر الإمام بدعواهم وآمن بشرعية مطلبهم ووعدهم أن يخطب في الناس ويحثهم على تحريرهم. لكن الذي وقع هو أن العبيد انصرفوا فرحين يحذوهم الأمل في الانعتاق من ظلم العبودية وصار كل منهم يمني نفسه بالحرية، ويبني في شعوره خيوط حياته لما بعد العبودية هاته، غير أن البصري لم يخطب في الناس ولم يف، حسب زعمهم، بما عاهدهم عليه. مرت جُمَعٌ كثيرة ولم يفعل، ولم يتحدث عن تحرير العبيد الذي أمر الإسلام به حتى ظنوا به ظن السوء وتسرب اليأس إلى نفوسهم وقنطوا من رحمة الله وتقولوا على الإمام الأقاويل فقالوا من جملة ما قالوا: لقد نسينا كما نسيتنا كل الدنيا. وفي يوم جمعة وقد ذهب العبيد إلى الصلاة كعادتهم وقد استسلموا لواقع العبودية، إذا بالإمام الحسن البصري يخطب خطبة لم يسمعها رجل إلا وأسرع يحرر عبداً، واجتمع العبيد أمام بابه واختلط الشكر بالعتاب: إذا كانت تلك قدراتك يا إمام، فلمَ تركتنا تحت ثقل العبودية تلك الأسابيع الطوال؟! ابتسم الإمام الحسن سعيداً بفرحة الأحرار الجدد، وقال بهدوء قبل أن ينصرف: كنت لا أملك عبداً، ولم يكن لدي مال أشتري به واحدا، فانتظرت أن يكون لي مال حتى أشتريه به فاشتريته، وانتظرت قليلا وهو عندي حتى امتلأت نفسي بوجوده وآنست إليه ثم أعتقته، فلما خطبت في الناس كان كلامي عن فعل وسلوك، لا عن قول وموعظة. إنها قصة رائعة تبين فعلا أننا لا نريد "محترفي" الكلام، ولكن نريد مبادرات تعيد للمواطن الثقة في نفسه وفي محيطه وفي إمكانية التغيير نحو الأحسن. وإن كان الأمر كذلك فلماذا لا تصدر مبادرات من سياسيينا وأغنيائنا وزعمائنا كما حدث في مناطق عدة، أصحابها مسلمون وغير مسلمين؟ والأمر هنا لا يرتبط بالمسؤولين الحكوميين فقط، بل يتعداهم ليشمل غيرهم الذين هم من وراء حجاب. إنا منتظرون، ونتمنى ألا يطول هذا الانتظار. "جلد الفاجر وعجز الثقة" حكمة بالغة يمكن أن نحملها باعتبارها قاعدة مؤطرة لسنة التدافع على الأرض بين الحق والباطل، لكن الإشكال هنا هو عندما يتحدث المتحدث وهو يظن نفسه صاحب حق وما هو بذلك، في هذه الحالة يكون الإنصات لنبض الشعب ومطالب السكان أحسن حل لتحقيق التواصل مع المحيط، ففي أذن الجائع لا يسلك إلا صوت ينادي بالخبز. خيار "صناعة الغفلة" عن قصد، الذي يمكن أن نكتشف بعض مظاهره من خلال وسائل الإعلام بشكل عام، يفرض على العلماء الصادقين والمثقفين الأوفياء لوطنهم، والمحيطين بالمسؤولين الملازمين لهم، أن يكونوا أقوياء في قول الحق، أمناء في نقل حقيقة ما يقع وما يجب أن يكون، لا تسويغ وتبرير ما هو واقع وقائم. فالمواطن البسيط يؤمن فعلا بأن المصيبة إذا عمت هانت، لكن يصعب عليه أن يرى الغني يزداد غنى، ولا من يسأله من أين لك بهذا يا عمر؟ المواطن البسيط يؤمن بالتضحية ويؤمن بالصبر بل بالاصطبار والتصبّر، ويؤمن بأن السعادة لا تصنعها الأموال فقط بقدر إيمانه بالقناعة وب "البركة تغلب الرزق" لكنه مع كل هذا وذاك، ما ذكرنا منه وما لم نذكر، لا يستسيغ إطلاقا أن يكون مطية لغيره لتحقيق مصالح مالية أو سياسية أو سلطوية أو ما شابه ذلك، ولا أن يُغرر به ويُستغفل، ومن هنا وجب التعامل مع المواطنين باعتبارهم راشدين ومسؤولين وواعين، قد يصبرون عن قصد واختيار، لكن لا يحبون أبدا أن يُخدعوا. يروى أن معاوية صعد المنبر ذات يوم فخطب في الناس فقال: "إنما المال مالُنا، فمن شئنا أعطيناه، ومن شئنا منعناه"، فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثانية، قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد ولم يعترض عليه أحد، فلمّا كان في الجمعة الثالثة وقال مثل مقالتيه السابقتين، قام إليه رجل ممن حضر الخطبة، فقال: "كلا، إنما المال مالنا، فمن حال بيننا وبينه حاكمناه". فنزل معاوية فأرسل إلى الرجل فأدخله، فقال القوم: هلك الرجل، لكن في واقع الأمر الرجل لم يهلك وإنما نال حظوة عظيمة عند معاوية، ذلك أنهم لما دخلوا على معاوية، وجدوا الرجل معه على سرير الملك. إنها القوة في قول الحق. لذلك كانت الولاية على الناس مسؤولية كبرى أمام الله قبل غيره. يقول (ص) عن هذه المسؤولية: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". لكن الشيء الذي يؤسف له لحد الآن أن مئات التصريحات والندوات واللقاءات والمؤتمرات والمشاريع التغييرية لم تستطع أن تحدد من أهدافها إلا النزر اليسير، بل إن بعض أصحاب هذه التصريحات أو المؤتمرات والمشاريع اكتفوا من أهدافها بقولها أو عقدها أو تحبيرها، فصارت الوسيلة في نظرهم القصير غايةً في حد ذاتها، وأخشى على هؤلاء أن يسقطوا يوما كما سقط خلق كثير في قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة". إن السؤال المهم الآن الذي يعترض الباحثين والدارسين هو: كيف يمكننا التعويل على مثل هذه اللقاءات والمنتديات والندوات والتصريحات والتصريحات المضادة ورفع الأصوات وملء شاشات التلفزيون بالوعد والوعيد والتصديق والتكذيب وإطلاق الوعود ونقضها...وكيف يمكننا الركون إليها لنمنح أصحابها شهادة اعتراف بجدارتهم لقيادة مجتمعهم؟