منذ نهاية عقد الستينات و بضغط من الرأي العام الذي أشهرته الجماعات العلمية نتيجة لتفاقم الوضع البيئي في العديد من بقاع العالم، نادت مبادرات العديد من الحكومات إلى بلورة بعض القواعد القانونية في المجال البيئي. و بناء عليه، تم وضع العديد من القوانين في هذا المجال بهدف حماية البيئة. و تكاد تكون القواسم المشتركة بين هذه النصوص القانونية هي التدخل من أجل تصحيح الآثار السلبية لبعض الأنشطة البشرية على مختلف مناحي الحياة، ثم تحولت هذه القواعد إلى إعتماد مقاربات حمائية و نسقية وشمولية للمشاكل البيئية. غير أن التطور الأساسي الذي شهده المجال البيئي هو الذي يقود الدول و المنظمات الدولية إلى حماية البيئة ليس فقط من منطلق صياغة بعض النصوص القانونية اللازمة من أجل بلوغ هذا الهدف الذي يحتمل حماية المصلحة العامة، و إنما لإعتباره حقا من حقوق الإنسان. ذلك أن العقيدة القانونية أصبحت تقتضي في هذا الصدد الإعتراف بالحق في البيئة بمثابة النتيجة الأساسية و المنطقية لتنمية و تطور قانون البيئة. و الملاحظ أن هذا التطور الدولي الذي تعرفه قواعد القانون البيئي جاء في سياق العديد من التحولات التي عرفتها بعض المحطات الدولية بدءا بإجتماع الأممالمتحدة حول البيئة بستوكهولم في يونيو من سنة 1972 و التي إعتبرت فيها الدول المشاركة أن الدفاع وحماية البيئة يعد هدفا رئيسيا لفائدة الأجيال الحاضرة و المستقبلة للإنسانية. فإنطلاقا من هذا التاريخ أخذ القانون الدولي للبيئة في التطور، كما تشهد على ذلك قمة الأرض بريوديجانيرو في يونيو من سنة 1992، حيث أكدت جميع الدول عن إلتزامها بحماية البيئة في جميع بقاع العالم. و بعد هذه القمة إستمر تطور القانون الدولي للبيئة، و ذلك في إتجاه النظر إلى عولمة المشاكل البيئية من خلال وضع نصوص قانونية لتصحيح الأوضاع و تفعيل مقتضيات الإتفاقيات الدولية. هكذا فإن القانون الدولي للبيئة ما كان له أن يتطور بدون مساهمة الدول في هذا المجال، و في هذا السياق جاءت مبادرات المغرب التشريعية من خلال وضع مجموعة من القواعد القانونية الرامية إلى إحترام البيئة، ذلك أن هذه الحماية أضحت غاية وطنية عامة. و إن هذه الأهمية لا تشهد على أولوية المعطى البيئي فحسب، بل إنها تقر خلق التقارب بين حماية البيئة و إحترام حقوق الإنسان و تجعل من حماية البيئة جزءا لا يتجزأ من السياسات العمومية. و لئن كان إدراجها بهذا الشكل أمرا يسيرا، فإن إفتقارها إلى المراقبة الفعالة يفرغها من محتواها. ذلك أن الحق في البيئة يبدو حقا شخصيا و بالتالي تصعب حمايته من الناحية الإقتصادية والمالية، غير أن هذا القول يمكن إثبات خلافه إذا ما إستشهدنا بقانون الماء الفرنسي الذي يستفيد من حماية إقتصادية و مالية و الذي أضاف إليه مجلس الشيوخ مقتضى قانوني يسمح بهذا الشكل من الحماية. فالمغرب إهتم بموضوع البيئة و إعتمد مقاربة قانونية مندمجة ترتكز على تدخل الدولة في تدبير المخاطر البيئية و السهر على إحترام المجال البيئي و حمايته و الحفاظ عليه. وقد وضع لأجل ذلك مجموعة من النصوص القانونية المتعلقة بحماية الطبيعة من الأضرار والمحافظة على صحة و سلامة المواطنين، حيث عمل على تقنين الأنشطة الإنتاجية الملوثة، كما كان المغرب من بين الدول السباقة إلى خلق الأجهزة و المؤسسات التي تعنى بحماية البيئة بدءا بإحداث كتابة الدولة في البيئة و ذلك منذ سنة 1972 إلى تأسيس المجلس الوطني للبيئة سنة 1995 ثم المجلس الإقتصادي و الإجتماعي و البيئي بموجب دستور 2011. و في إطار ربط القانون البيئي بالتشريع المالي و بالتالي بالسياسات العمومية، نجد أن إعلان البيئة لريوديجانيرو بتاريخ 1992 يتوجه إلى السلطات الوطنية من أجل دعم تدويل تكاليف حماية البيئة وإستعمال الوسائل الإقتصادية و ذلك من منطلق أن الذي يقوم بتلويث البيئة تقع عليه مبدئيا كلفة التلويث، و ذلك إحتراما للمصلحة العامة و قواعد التجارة الدولية. و عليه فإن تحديد لائحة إقتطاعات ضريبية ترتبط بحماية البيئة لتشمل مجالات الماء والطاقة والنقل و النفايات تعد تعبيرا عن سياسة بيئية بدل أن يكون الهدف هو مجرد تحصيل موارد لفائدة الخزينة العامة للدولة. غير أن هذه الضرائب المفروضة في بعض الأحيان ينبغي أن تكون ضرائب إيكولوجية بالمعنى الدقيق للمصطلح، و ذلك بأن ينصرف فرض هذه الضرائب إلى حماية البيئة بالأساس، و التي نذكر منها الضريبة الداخلية على المنتوجات البترولية "ITPP"، فهذه الضريبة من شأنها أن تكون إيجابية و لفائدة السياسة البيئية و ذلك من خلال تشجيع مصنعي السيارات على تخفيض حجم إستهلاك محركاتها، حيث تمثل هذه الضريبة 20 مليار أورو أي حوالي 10 % من الموارد الضريبية و 80 % من الموارد الضريبية المرتبطة بحماية البيئة، كما أن هناك الضريبة العامة على الأنشطة الملوثة "TGAP" و التي تم إعتمادها في فرنسا منذ سنة 1999 تمثل بحق تدخلا ضريبيا في المجال البيئي. و في الوقت الذي يجري فيه التشجيع على إعتماد ضرائب من أجل حماية البيئة ينبغي التفكير أيضا في مقاربات تحفيزية إيجابية، و ذلك بهدف تشجيع الأنشطة التي تحمي البيئة من خلال إقرار إعفاءات في حالة اللجوء إلى إستخدام محركات النقل الأقل تلويثا للبيئة. و تجدر الإشارة إلى أنه في المغرب لم ترق القاعدة القانونية البيئية إلى مستوى الدسترة، كما هو الحال عليه في بعض الدول كفرنسا، إلا بعد إقرار دستور فاتح يوليوز 2011 وضمن إشارات متواضعة لا تتعدى ثلاث فصول من هذه الوثيقة الدستورية ( الفصل 31 والفصل 71 و الفصل 151)، بخلاف الوضع بالنسبة للمشرع الفرنسي حيث تم إدماج ميثاق البيئة في الدستور الفرنسي كي يتبوأ هذا القانون مرتبة عليا في سلم تدرج هرمية القواعد القانونية. كما أن القضاء الفرنسي في غرفته الثالثة عرف العديد من القضايا المرتبطة بالبيئة الصناعية، و قد قضى بإختصاصه للنظر في شروط تطبيق المادة 514-20 Lمن مدونة البيئة بهدف ضبط المخاطر التكنولوجية و المفروضة على بائعي الأراضي التي يتم إستغلالها بواسطة المناجم. و عليه يكون المشرع المغربي قد سلك منهجية تدرجية تستهدف إحترام ما جاء في الإتفاقيات الدولية من مبادئ و أسس في مجال المحافظة على البيئة نذكر منها المادة الثانية من القانون رقم 11.03 المتعلق بحماية و إستصلاح البيئة و الذي يؤكد على إحترام المواثيق الدولية المتعلقة بالبيئة و مراعاة مقتضياتها عند وضع المخططات والبرامج التنموية و إعداد التشريع البيئي، و بالتالي نلاحظ من خلال هذه المادة العلاقة العضوية القوية بين التنمية الإقتصادية و البيئة. بل أكثر من ذلك نجد أن المشرع المغربي إعتبر موضوع البيئة وحمايتها جزءا لا يتجزأ من السياسات التنموية حيث أقر ضرورة تحقيق التوازن بين متطلبات التنمية و المحافظة على البيئة، فمفهوم التنمية ينصرف على هذا النحو إلى تحقيق حاجيات الأجيال الحاضرة دون تهديد قدرة الأجيال المقبلة على إشباع رغباتها هي كذلك. و إستحضارا لمبرهنة "رونالد كووز" المتعلقة بالتحليل الإقتصادي للقانون، فإن تحليل الكلفة أو الفائدة من قانون أو سياسة البيئة يقتضي أن من بين العناصر الأساسية و الآليات المهمة في مراقبة سياسة البيئة المتبعة كونها تمكن من معرفة حدود الكلفة و الفائدة من تنظيم هذا المجال لكون المجتمع لا يفرض حماية البيئة بأي ثمن كان، و بالتالي فإن السياسة البيئية تأخذ نصب عينها كون الإستثمارات قد تكون أكثر كلفة من القيمة الإضافية للحد من المخاطر البيئية. و الراجح أن هذه القواعد القانونية الموضوعة في المجال البيئي يتعين أن توضع من لدن الدول النامية على أساس التوازن بين المصالح و التي ينبغي تحقيقها و الأولويات المحددة من لدن التشريعات الخاصة بالبيئة، حيث يتعين إقرار حماية حقيقية في هذه النصوص ليس على أساس أنها موضوعة للإستهلاك الخارجي، و هو أمر يتضح من خلال صياغة النصوص القانونية البيئية التي تتجلى قوية في حمايتها و زجرية في جزاءاتها، غير أنها على مستوى الممارسة و التطبيق لا توجد في حقيقة الأمر أية حماية. و دليل ذلك من قانون تدبير البيئة الأندونيسي لسنة 1982 الذي يعاقب بالسجن لمدة 10 سنوات و غرامة 100 مليون روبية أندونيسية لكل مخالفي مقتضيات المادة 22 من هذا القانون، في حين أنه على مستوى التطبيق لا نجد إلا حالات قليلة هي التي شملها التطبيق الفعلي لنص هذه المادة. يتعين إذن أن يتم وضع النصوص البيئية بتنسيق و تشاور مع مختلف الهيئات كما يتوجب تحديد سلطات القطاع الحكومي في هذا المجال، و تمكين بعض الهيئات العلمية أو التقنية التابعة للدولة من تخويل التراخيص البيئية بدلا من تمكين جهات سياسية من ذلك. فقانون البيئة لا يمكن أن يتأسس إلا من خلال مبادئ الديموقراطية التي تعبر في عمقها على مشاركة المواطنين في صنع القرار، و هو ما ينم على أهمية و دور المنظمات غير الحكومية و فعاليات المجتمع المدني في صياغة هذا القانون، بالإضافة إلى مبادئ أخرى نذكر منها عولمة قواعد حماية البيئة و التي تقتضي التضامن بدءا من نقل التكنولوجيا ووصولا إلى مسألة المديونية مثلا. فالتشريع المباشر يقتضي الإحترام المطلق للقواعد المحددة على الصعيد الوطني والدولي. ذلك أن الأنشطة ذات التأثير السلبي على البيئة يتعين خضوعها بصفة عامة للتشريع الساري به العمل، إذ أنه على الرغم من وجود العديد من الآليات التي من شأنها محاربة ظاهرة التلوث البيئي إلا أن التشريع المباشر يبقى الوسيلة الأنجع والأمثل في مجال محاربة الأضرار البيئية لكونها تحدد الأهداف المرجوة و الوسائل المستخدمة لبلوغ هذه الأغراض. و الملاحظ أن ما تضمنه مشروع الميثاق الوطني للبيئة و التنمية المستدامة من أحكام يعتبر نقلة نوعية على هذه النصوص في مجال تحديد مبادئ و قيم التنمية المستدامة وأركانها القائمة على الرقي الإجتماعي و المحافظة على البيئة و التراث الطبيعي والثقافي، و التشجيع على تبادل الوسائل، و الولوج إلى المعلومات من خلال البحث العلمي في مجال البيئة و التنمية، إلا أن مشروع هذا النص يعاب عليه أنه لم يستحدث آليات أو أجهزة لتقييم الفعالية و الجودة في التدبير العمومي و التي بدونهما يستعصي تمكين متخذ القرار من وسائل التقرير أو تحقيق التنمية و بالتالي إقرار مبادئ الحكامة الخاصة بالسياسة البيئية. و على الرغم مما تقدم، كان الأجدر بالمشرع المغربي أن يراهن على الدور الذي يمكن أن تلعبه التنمية كصيغة محلية - وطنية لتجاوز السلبيات التي ألحقتها العولمة بالتشريع المالي بأن يعمل على ضمان وضع إطار قانوني و تشريعي يحقق التجانس فيما بين المقتضيات القانونية المالية التي تسجل إلتزامات المغرب الدولية فيما يخص حماية المعطيات التنموية بالشكل الذي يضع القواعد الأساسية لآليات المواكبة للمستجدات الدولية كحلقة أساسية ضمن إشكالية تحقيق التنمية المستدامة، و ذلك إسوة بالظهير الشريف رقم 1-03- 59 الصادر بتنفيذ القانون رقم 11-03 المتعلق بحماية و تقييم البيئة، حيث أرسى الإطار العام لحماية البيئة بالمغرب و الذي من خلاله يمكن أن تتفرع باقي التشريعات القطاعية المتصلة بهذا المجال، كما أن المادة السادسة منه تذكر بالأهمية التي تحتلها التنمية الشاملة في هذا الخصوص. و إذا كان المشرع المغربي لم يتبع خطى نظيره الفرنسي فيما يخص التنصيص صراحة على تبني نموذج خاص به للتنمية يراهن من خلاله على تدليل الإكراهات والتحديات التي تطرحها العولمة، و ذلك في إطار التشريعات التي ينتظم بها أمر الحياة المالية العامة، فإنه قد عمل بالمقابل على طرح مجموعة من التدابير والإجراءات التي تلتقي و إعتماد هذا الخيار من خلال إقراره مجموعة من النصوص القانونية التي تضع الشروط الأساسية لتخليق الحياة المالية العامة من الشوائب التي تعوقها على تحقيق التنمية، كما تتضمن هذه النصوص التشريعية في حد ذاتها المقومات اللازمة لتأسيس أرضية للنقاش العمومي تفيد المشرع المغربي في بلورة إستراتيجية التنمية التي تراعي الخصوصيات المغربية. و لعل مشروع الميثاق الوطني للبيئة و التنمية المستدامة سيشكل المادة القانونية لهذا المفهوم في مرحلته الأولية بالنسبة للتجربة التشريعية المغربية. * أستاذ باحث في المالية العامة بجامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية- أكدال – الرباط [email protected]