يشكل المغرب٬ بحكم موقعه الجغرافي المتميز وتنوع مناخه وتضاريسه وأنظمته الإيكولوجية٬ وجهة مفضلة لدى أنواع عديدة من الطيور المهاجرة والمستوطنة٬ التي اتخذت من الغابات والأحراش والمناطق الرطبة الكثيرة التي تزخر بها البلاد موطنا مفضلا سكنته وتكاثرت فيه منذ القدم٬ حافزها في ذلك الأمان والسكينة وتوفر طبيعة سخية ما فتئت تمنحها جميع مقومات العيش وعوامل الاستمرارية التي تحفظها من شبح الانقراض. وهكذا ظلت الطيور٬ لاسيما الطيور المغردة٬ تتصدر من حيث تنوع أصنافها وأدوارها الحيوية في حفظ التوازنات البيئية٬ قائمة التنوع البيولوجي الذي يميز المغرب٬ مما جعلها مكونا أساسيا للمنظومة الإيكولوجية ككل٬ بل ومؤشرا بليغا على سلامة الوسط البيئي وخلوه من جميع مظاهر الاختلال٬ الأمر الذي لم يعد قائما كما في السابق بحكم بروز الكثير من المعطيات التي أضحت تدق ناقوس الخطر٬ أكثر من أي وقت مضى٬ حول مستقبل هذه الأصناف وقدرتها على مقاومة العوامل السلبية التي تتهدد وجودها. ففضلا عن ارتفاع حدة التلوث وتزايد وتيرة اندثار الأوساط الطبيعية٬ أضحت الطيور المغردة تواجه شبح الصيد العشوائي٬ الذي تحول ،– حسب الكثير من المهتمين بهذا المجال ،– لإحدى الأخطار الداهمة التي قد تؤدي خلال السنين القليلة القادمة إلى اختفاء عدد من هذه الأنواع٬ لاسيما صنف العصافير الجاثمة أو الجواثم٬ من قبيل الحسون الذهبي والحسون الأخضر وطيور الهزار والبوح والحسنية٬ التي أضحت بضاعة رائجة ومألوفة في أسواق بيع الحيوانات الأليفة. ويكفي القيام بجولة عبر المحلات التجارية والأسواق المخصصة لبيع الطيور٬ بمختلف مدن المملكة٬ لتتراءى لك أعداد كبيرة من الطيور المغردة٬ بمختلف أنواعها٬ وقد وضعت في أقفاص تتراوح بين الكبير والمتوسط وصغير الحجم٬ والتي تضم في أحيان كثيرة ما بين 10 إلى 50 طائرا٬ جلبت قصرا بعد أسرها في أماكن عيشها الطبيعية بأساليب تتنوع ما بين استعمال شباك الصيد واللصاق الاصطناعي والتخدير باستعمال الدخان٬ وذلك في انتظار زبون قد يقتنيها من أجل الاستمتاع بألوانها الجذابة أو بتغاريدها والوصلات الغنائية الشجية التي تؤديها. وفي هذا الصدد٬ يقول عز الدين (28 سنة)٬ وهو شاب من مدينة القنيطرة جعل من صيد الطيور المغردة مورد رزقه الوحيد بعد فشله في الحصول على عمل قار٬ إن "شغفه منقطع النظير بالطيور جعله يترك فصول الدراسة عند سن مبكرة٬ ليزاول صيد وتربية الطيور المغردة٬ التي ما لبثت أن تحولت لديه إلى مهنة يكسب منها قوت يومه"٬ علما أنه أضحى مع مرور الأيام لا يكتفي بمزاولة الصيد في الغابات والمنتزهات والمناطق الخضراء الموجودة بمحيط مدينة القنيطرة٬ لينتقل أحيانا رفقة مجموعة من الشباب الذين يشاطرونه الشغف نفسه٬ إلى المناطق الشمالية التي لا زالت غاباتها وأحراشها تضم أعدادا هامة من هذه الأصناف. ويعترف عز الدين٬ في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء٬ أن أعداد الطيور المغردة٬ ولاسيما طائر الحسون الذهبي المعروف لدى المغاربة بإسمي "المقنين" أو "سطيلة"٬ تناقصت خلال السنوات الأخيرة "بشكل مخيف" بعد أن كان صيدها أمرا يسيرا٬ بل ومتاحا في جميع الأماكن حتى داخل الحدائق والمساحات الخضراء المحاذية للمجالات الحضرية٬ مشيرا في هذا السياق٬ إلى أن هذا المعطى "دفع صيادي الطيور إلى الانتقال لمناطق نائية من أجل الحصول على أعداد وفيرة يتم بيعها بأسواق الطيور٬ تارة للهواة وتارة أخرى لتجار الجملة". ويشير الكثير من المهتمين بهذا المجال٬ إلى أن العصافير المغردة المصطادة بكيفية عشوائية أضحت تملأ الأسواق والمحلات التجارية المختصة في بيع الطيور٬ حتى خلال فترة التفريخ التي يتوجب معها عادة التوقف عن عمليات الصيد٬ الأمر الذي أدى إلى تناقص أعدادها بكيفية ملحوظة بالموازاة مع ارتفاع الطلب عليها٬ والذي جعل أثمنتها تقفز بشكل غير مسبوق من 5 و10 دراهم للطائر الواحد إلى أزيد من 60 درهما حاليا. حقائق ومعطيات تدق ناقوس الخطر مع ازدهار تجارة الطيور المغردة خلال السنوات الأخيرة٬ أصبحت أنشطة الصيد الجائر أكثر كثافة من ذي قبل٬ وأضحى الصيادون يتفننون في طرق الصيد التي تظل أبرزها وأفضلها أداء "الشبكة ذات الدفتين"٬ التي قد تتيح في قفلة واحدة إمساك أزيد من 15 طائرا٬ علما أن الكثير من الطيور تنفق خلال عملية الصيد أو مباشرة بعد وضعها في الأقفاص٬ وذلك نتيجة للازدحام والتكدس ونقص التهوية الضرورية لبقائها على قيد الحياة. وفي هذا الصدد٬ يقول رئيس الجامعة المغربية لعلم الطيور٬ السيد عبد الحق الزهويلي٬ في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء٬ إن "العصافير المغردة المصطادة عشوائيا لم تعد موجهة للسوق الوطنية وحسب٬ أي من أجل تلبية حاجيات هواة ومحبي هذه الأصناف٬ بل أضحت بضاعة تهرب إلى الخارج بأساليب غير مشروعة٬ لاسيما عبر الحدود الشرقية للمملكة"٬ مشيرا إلى "وجود مجموعات منظمة تعمل في الخفاء على تجميع أعداد كبيرة من هذه الطيور٬ حتى خلال فترتي التزاوج والتفريخ٬ لتقوم بعد ذلك بشحنها إلى وجهات غير معلومة خارج البلاد٬ حيث تباع بأثمنة قد تصل إلى 500 درهم للطير الواحد". وحسب مصادر موثوقة ،– يضيف السيد الزهويلي ،– فإن هذه الطيور٬ ولاسيما صنف الحسون الذهبي٬ توضع في صناديق تضم ما بين 80 و100 طائر٬ وذلك في وضعية سيئة تجعل الكثير منها تنفق قبل بلوغ وجهتها٬ حيث يتم بعد ذلك تهريبها عبر الحدود الشرقية لتباع هناك بأثمنة تفوق بعشرين مرة ثمنها المرجعي٬ حتى أن الطيور الميتة ،– حسب رئيس الجامعة ،– تباع كذلك من أجل استعمالها في أغراض السحر والشعوذة. ويتذكر السيد الزهويلي بنبرة ملأها الأسف على الوضعية الراهنة٬ كيف كانت بعض حدائق مدينة الدارالبيضاء من قبيل حديقة "أرميتاج" و"مردوخ" و"عين السبع" تعج بمختلف أصناف الطيور المغردة٬ وعلى رأسها الحسون الذهبي المعروف كذلك بطائر الملوك٬ في الوقت الذي أضحت فيه مشاهدة واحد من هذه الطيور أو سماع تغريدها أمر شبه مستحيل حتى على بعد 200 أو 300 كلم من المجال الحضري. وارتباطا بهذا المعطى٬ يعود عز الدين ليؤكد أن صيد الطيور المغردة أضحى خلال الآونة الأخيرة نشاطا مضنيا للغاية بالنظر إلى ندرة الطيور بل واختفائها من أماكن ظلت حتى وقت قريب موطنا لها٬ مشيرا إلى أنه "قد يمضي في أحيان كثيرة يوما بكامله دون الحصول على طائر واحد٬ مما حذا به إلى التفكير في التوجه إلى أماكن أبعد اشتهرت باستقطابها لأعداد هامة من هذه الأصناف٬ لاسيما بمنطقة الغرب وإقليمي تاونات ووزان". وحسب عز الدين٬ فإن الطلب على الطيور المغردة بشتى أنواعها ازداد بكيفية ملحوظة نتيجة انتشار ممارسة هذه الهواية بشكل غير مسبوق٬ غير أن الأعداد المصطادة بدأت تقل شيئا فشيئا٬ وفي المقابل تكاثرت أعداد الصيادين الذين يعملون بكيفية عشوائية٬ مشيرا إلى أن هؤلاء الصيادين في بحث مستمر عن أساليب جديدة تتيح لهم إمساك أكبر عدد من الطيور في ظل تناقص أعدادها خلال السنين الأخيرة. الصيد الجائر .. تهديد حقيقي لاستمرارية الطيور المغردة يجمع الكثير من المهتمين بهذا المجال٬ على أن استمرار الصيد الجائر للطيور المغردة بهذه الوتيرة سيفضي خلال وقت وجيز إلى تضائل أعدادها بل واختفائها من مجالها الطبيعي٬ علما أن عمليات الصيد لا تفرق بين الطيور الصغيرة والبالغة وبين الذكور والإناث وبين فترتي التزاوج والتفريخ والفترة العادية٬ وهكذا فإن صنفين من هذه الطيور يصطلح عليهما محليا بطائري "الولوال" و"الحسنية" أصبحا أكثر عرضة لخطر الاختفاء بسبب عمليات الصيد المكثف التي تستهدفهما٬ أكثر من أي وقت مضى٬ اعتبارا لثمنهما المرتفع في سوق الطيور مقارنة مع الأصناف الأخرى. وفي سياق متصل ٬ يقول المنسق الوطني للمنظمة الدولية "بيرد لايف" المعنية بحماية الطيور٬ السيد عماد الشرقاوي٬ في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء٬ إن الصيد الجائر ينضاف إلى عوامل كثيرة تشكل خطرا على الطيور٬ من قبيل التلوث واستعمال المبيدات والتصحر واجتثات الغابات واختلال المنظومات البيئية٬ مشيرا إلى أن هذه الكائنات تعتبر مؤشرا على سلامة الوسط الإيكولوجي وخلوه من مظاهر عدم التوازن٬ ومن ثم فإن تناقص أعدادها وتواري الكثير منها عن الأنظار يتطلب اتخاذ إجراءات سريعة من شأنها إعادة الأمور إلى نصابها قبل فوات الأوان. وبصفة عامة ،– يضيف السيد الشرقاوي ،– فإن وضعية الطيور على المستوى الوطني٬ لاسيما المغردة منها٬ في تراجع ملحوظ٬ علما أن 13 نوعا أصليا من الطيور كانت قد اختفت كليا من المغرب مع مطلع القرن العشرين٬ مؤكدا على أن التطبيق الأمثل لمختلف المعاهدات والاتفاقيات الدولية الموقعة من طرف المغرب في هذا المجال٬ واستصدار قوانين تضبط عمليات الصيد والمتاجرة في هذه الأنواع٬ والقيام بحملات تحسيسية وتوعية مكثفة حول خطورة هذا الوضع٬ لاسيما في صفوف الأجيال الصاعدة٬ تعد إجراءات كفيلة بمعالجة الوضع القائم حاليا. ولعل المعطى الذي يؤكد ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة في هذا الباب٬ هو استهداف الصيادين للطيور المغردة خلال فترة التفريخ التي تتزامن عادة مع فصل الربيع٬ على اعتبار أن الكثير من هذه الطيور تكون قد وضعت بيوضها خلال هذه الفترة الحساسة من السنة بينما تكون طيور أخرى في مرحلة الاعتناء بالصغار بعد خروجها من البيوض٬ ومن ثم فإن إمساكها خلال هذه الفترة يؤدي٬ لا محالة٬ إلى موت الصغار أو عدم فقس البيوض. والحري بالذكر أن الجهات المعنية بحماية المنظومة البيئية٬ ممثلة بالمندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر تبذل بمعية مصالح الأمن والدرك والجمارك جهودا حثيثة من أجل تطويق هذه الظاهرة السلبية وتخفيف تداعياتها الوخيمة على التوازنات البيولوجية٬ وذلك من خلال القيام بعمليات ميدانية هدفها محاربة تهريب هذه الأصناف المحمية خارج البلاد٬ مما مكن من حجز أعداد هامة من هذه الطيور وإطلاق سراحها٬ لاسيما على مستوى الجهة الشرقية. هكذا٬ وفي ضوء مجموع هذه المعطيات٬ تتأكد ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة وفعالة من شأنها وضع حد لظاهرتي الصيد العشوائي وتهريب الطيور المغردة٬ التي بدأت تداعياتها تبرز بشكل أكبر٬ مما يهدد هذه الكائنات الرائعة بخطر الانقراض٬ وبالتالي حرمان الأجيال الصاعدة من التمتع بتغاريدها الشجية وألوانها الزاهية التي طالما أثثت غاباتنا وحدائقنا وأضفت عليها رونقا وبهاء منقطع النظير.