غريب ما يبدعه العقل البشري في باب "عبقرية التناقضات"، التي تخرج عن ناموس ما هو مألوف، وغريب هذا اللامعقول المباح الذي اختلق "الإفلات من العقاب" نمطا سوسيو سياسيا مكنه من خلق ما يمكن أن نسميه " بالجريمة المقدسة" التي تستلهم من" المجرم المقدس قدسيتها" وهي " الحصانة" يا من لا تعرفون الحصانة. فالحصانة ينسبها الدستوريون للقرون الوسطى كمولود أبريطاني انتقل وتقلب حسب الأحداث السياسية في اوروبا إلى أن دبجت مقوماته في عدة دساتير، و الحصانة في الاصطلاح هي وضعية تجعل الشخص حقيقة في موقع "خارج القانون"، وهي في اللغة الحقوقية "احتيال مَشْروع نَصا مُغَلف بالقانون" يفلت المستفيد منها، من المتابعة والمساءلة ومن العقاب، أي أن المتمتع بالحصانة كليا أو جزئيا يرقى إلى مكانة متناقضة مع كل القواعد الطبيعية في المجتمع بسبب وظيفته أو مكانته الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية، فإما أنها تميزه مسطريا أي تخصص له مسطرة خاصة عند البحث وعند المحاكمة غير تلك الإجراءات التي تطبق في حق المتقاضين، وإما تمنع عليه نهائيا أية ملاحقة أو مساءلة عما يرتكبه من أفعال معاقب عليها رسميا والتي لو قام بارتكابها غيره لطالته المحاكمة و العقاب ومن هنا تمسى جريمته بالجريمة المقدسة. والمصابون بداء الإفلات من العقاب، المتمتعين به، إما أن يكونوا اشخاصا مدنين او عسكريين، وإما أن يستفيدوا من الحصانة بصفة مطلقة كما هو حال العسكريين الذين تحدث عنهم مشروع القانون 01.12المعروض على مجلس الحكومة في أبريل الماضي، أم مستفيدين من الحصانة مؤقتا وفي فترة محددة مثل البرلمانيين خلال فترة نيابتهم. وفي العديد من الدول الديمقراطية والقانون لا يخشى البرلمانيون ولا الأمنيون ولا العسكريون من المحاسبة ومن المراقبة ومن المحاكمة لسبب بسيط وهو أنهم مؤمنون بأن عدالتهم نزيهة وقضاؤهم مستقل ومساواتهم في ضمانات المحاكمة العادلة محترمة، ولذلك عندما يوجد هؤلاء في وضع حتى ولو كان فقط احتمال مطالبتهم الإدلاء بشهادة مثلا أو احتمال انطلاق بحث وتحريات او متابعة قضائية في مواجهتهم، فإننا لا نشعر أنهم متخوفون بل نراهم يبادرون ويقدمون استقالتهم من مهامهم الرسمية وبسرعة، وحينئذ يشعرون براحة أخلاقية لتتحقق مساواتهم مع كل المواطنين ومع كل المتقاضين امام القانون وامام العدالة، وأحيانا ينسحبون من كل وظيفة محمية، حتى لا يعرقلوا البحث أو لمحاكمة وحتى لا يستغلوا مراكزهم وسلطتهم للتستر أو للتلاعب بالوثائق أو بالمعلومات السرية، أو للضغط على القضاء قصد الحصول على قرارات لصالحهم، ومن هذه المثالية في التعامل مع وظيفتهم المدنية أو العسكرية ومع القاعدة القانونية ومع العدالة والقضاء، ومن هذه الهيبة الأخلاقية من الرأي العام ومن مراقبة الإعلام، ومن هذه التربية على احترام المؤسسات، لوحظ أن عدد المتابعين من البرلمانيين ومن المسؤولين الكبار في تلك الدول يقل وينكمش بسبب تخوفهم من قوة القانون الذي يلاحقهم عند الضرورة دون وساطة وعلى قدم المساواة امامه ودون حصانه. وعندنا بالمغرب فإن القاعدة القانونية في يُتْمٍ مستمر من فلسفة الإفلات من العقاب بكل أسف، فقد عودتنا الدولة مبكرا وقبل اليوم أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت من مدنيين وأمنيين وعسكريين في سنوات الرصاص، هي ضمن " الجرائم المقدسة" التي تمتع مرتكبوها من الحماية من المساءلة القضائية دون أن يتطلب الأمر وجود مسطرة أو حصانة، و حتى اليوم لا زالت جرائم التعذيب مثلا وسوء المعاملة التي تجرمها اتفاقية مناهضة التعذيب التي صادق عليها المغرب، ضمن أخريات، تمارس من قبل بعض السلط وبعض رجال القوة العمومية المكلفين بنفاذ القانون ومنهم بعض المكلفين بمجال السجون، وهذا السلوك هو ما يجعل مضمون الحصانة ينقلب من موقعه كمشجع على الجرأة السياسية في انتقاد الحاكمين ومعارضة السياسات العمومية ووقف الانهيار دون خوف من الانتقام والمحاسبة الضيقة، ليصبح آلية سخيفة تمنع من ملاحقة المجرمين المحصنين كما يخبرنا بذلك عدد من الباحثين في الموضوع. عندنا يتمتع البرلمانيون من امتيازات في مجال الحصانة الخاصة، وهي حصانة تمت دسترتها قبل الدستور الجديد التي جعلت من البرلمان حصنا لضمان عدم متابعة البرلمانيين من خلال رفض ملتمسات رفع الحصانة لفائدة عدد كبير منهم، عرفت تطورها بعد أن حصنوا مواقعهم بأيديهم وبأنفسهم على الملأ دون حرج أو حاجة لمفاوضات ولا لكواليس الليل والنهار وما بينهما طبقا لقانون 17-01 . وهاهو مشروع قانون 01.12، الذي عرضته أخيرا إدارة الدفاع امام الحكومة والخاص بحماية العسكريين وضمان حقوقهم، وإن كانت عدد من قواعده من الناحية المبدئية لا تطرح إشكالات معقدة، لكنه سيطرح للحكومة وبعدها للبرلمان خلال المناقشة عدد الصعوبات السياسية والحقوقية و عدد من التناقضات القانونية التي لا يليق أن تكون قائمة في نص يتعلق بالعسكريين وبمؤسسة لا ينتظر منها أن ترتكب جرائم لتحتاج ‘لى نص كيفما كان. فمن الصعوبات السياسة تاتي مسألة منع الإفلات من العقاب كاختيار سياسي يحدد توجه المغرب نحو بناء دولة القانون، وتتبعها مسألة إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتاتي اخيرا قضية من الأهمية بمكان وهي التي ترتبط "بالتقديس" الذي فلح واضعو الدستور من إلغائه اتجاه شخص الملك نفسه، وهذه الاعتبارات هي من أسس الدستور الأخير لا يمكن لمشروع القانون المذكور أن ياتي لإلغائها علنيا أو ضمنيا. ومن الإشكالات القانونية التي يثيرها المشروع المذكور مسالة دستورية المشروع المقترح، اي هل تتوافق نصوصه كلها معه أم تخالف في جوهرها أحكامه ومبادئه، وبالخصوص مقتضيات المادتين السابعة والثامنة منه، عندما تتحدث هذه الأخيرة على عدم مساءلة العسكريين جنائيا عن أفعال يقومون بها بصفة عادية تنفيذا للأوامر، لأن نص المشروع أعطى حصانة اتجاه الأعمال ذات الطبيعة الجنائية امام نص المادة 37 من الدستور الذي يفرض على الجميع احترام احكامه والتقيد بالقانون ولا يستثني في ذلك أحدا، والدستور اعطى بالمادة 19 منه مكانة من حيث التطبيق للاتفاقيات الدولية التي وقعها المغرب ومن تلك الاتفاقيات ما يتعارض ومضمون مشروع القانون المذكور، وعندما جاء المشروع على الإطلاق وتحدث عن " تمتع العسكريين بحماية الدولة" في الوقت الذي ينص الدستور أن القانون هو الذي يحمي الحقوق وهو الذي يسود بين المواطن والدولة و القضاء هو ضامن تطبيق القانون وحماية الحقوق، وهذه كلها ضمانات حقيقية ودستورية لا تضمنها الدولة بل يضمنها القانون بصريح نص الدستور علما أن الدولة نفسها تخضع لحكم القانون والدولة ليست فوق القانون وليست هي التي تمتع المواطن بضمانات القانون لانه بكل بساطة يمكنها ان ترتكب هي نقسها مخالفات للقانون ولقواعد الدستور ليأتي القضاء فيطبق في حقها القانون بسبب تحكمها او شطط موظفيها، ومن هنا يتضح ان العسكريين لابد ان يتمتعوا بالضمانات القانونية دون شك وليس ضمانات الدولة، كما هو الشأن بالنسبة للموظفين والمواطنين كل حسب محيطه، مما يدل ان النص يخالف الدستور. ولما يضفي المشروع المشار إليه حماية الدولة على باقي أفراد عائلة العسكريين، فإنه يطرح مسالة قانونية أساسية وهي تأكيده وجود تمييز بين المواطنين ومشروعية التمييز خلافا للدستور في منطوقه ومضمونه، والتمييز كما هو معلوم جريمة في ظل القانون الجنائي، فلا يتأتى لنص أو مشروع نص أن يقنن مشروعية جريمة معاقب عليها في القانون نفسه، فإما تعديل القانون الجنائي وإما إلغاء نص المشروع. من الضروري الإشارة أن المشروع ياتي في وقت غير مناسب، أي ياتي قبل أي تفعيل للدستور الجديد، وقبل أية إصلاحيات في مجال العدالة التي تستعد لها وزارة العدل والحريات، وفي وقت توجد فيه قوانين سارية تمنع المساس والقذف بالأشخاص مدنيين او عسكريين أو بالمؤسسات ومنها المؤسسة العسكرية من خلال مواد من قانون الصحافة ومن القانون الجنائي المغربي. إن "الحصانة" السياسية والمدنية والعسكرية موضوع حساس ودقيق، وقد كانت ضمن مواضع النقاش من قبل عدد من المنظمات المدنية والجمعيات الحقوقية بالمغرب، وخلال احتجاجات الشباب السلمية في حركة العشرين فبراير اتجاه تفشي الجرائم ضد المال العام وبعض الجرائم ضد حقوق الإنسان والجرائم ضد الضمانات القضائية وحقوق المواطنىن التي استفاد مرتكبوها من الحصانة السياسية دون حاجة لا إلى نص قانوني ولا إلى مسطرة، عن جرائم اقترفوها ويتمتعون معها بالحصانة المطلقة. أهلا بحصانة السادة البرلمانيين، والسادة العسكريين، والسادة الوزراء الحكوميين، وأهلا بالإفلات من المساءلة، وأهلا من التخوف من العدالة، وأهلا بغل يد القضاء عن أية متابعة، وأهلا بانتهاك الدستور أمام الأحياء منا وحتى الموتى بالقبور، ومرحبا بالجريمة المقدسة.