هناك قصة قديمة تضمنتها صفحات "التلاوة" -لمن يتذكرها-..عنوانها الأساسي أن ثعلبا نصب على غراب.. وفي التفاصيل أن الثعلب الماكر طلب من الغراب -الذي كان يمسك بمنقاره قطعة جبن- أن يطربه بصوته الشجي..فانخدع الغرب بهذا الإطراء..وفاز الثعلب بالغنيمة بعدما سقطت الجبنة في أحضانه دون أن يخوض معركة حقيقية.. هذه هي الطبعة القديمة من القصة، وهناك طبعة جديدة تقول إن نفس الواقعة تكررت -ربما بين بعض أحفاد ذاك الثعلب وذاك الغراب-.. مفادها أن هذا الأخير عندما طُلب منه "الغناء"، وضع قطعة الجبن تحت جناحه أولاً قبل أن يخاطب الثعلب المتحفز للفوز بالغنيمة الباردة :"هذا ماشي الغراب ديال التلاوة".. لا أدري لم استحضرت هذه القصص القديمة والجديدة، وأنا أتابع السجال الساخن الذي ساد مختلف الأوساط بعد الكشف عن تفاصيل دفاتر التحملات الخاصة بالقنوات العمومية التلفزية والإذاعية. وفي الساحة اليوم غربان كثر وثعالب أكثر.. فقد صدق البعض من فرط التكرار أن الإسلاميين الذين ركبوا موجة الحراك الشعبي فقذفتهم إلى حيث لم يكونوا يتوقعون، لا يفقهون شيئا في السياسة، وأنهم سيغرقون في "شبر من الماء" كما يقول إخواننا المصريون، بل هناك من اقتنع مبكراً بأن حزب العدالة والتنمية الذي دخل تدبير الشأن العام من قمة الهرم، ومن أعلى منصب وأقصى موقع يمكن أن يطمح إليه أي سياسي مغربي، سيحتاجون إلى قرون لتعلم ألف باء الإدارة، ومن ثم راهن كثيرون على أن يكون الفشل مصير كل خطوة يخطوها "الملتحون"، خاصة بعدما منحتهم صناديق الاقتراع تزكية صريحة لقيادة مغرب ما بعد 20 فبراير، وعلق عليهم الشارع أمالا كبيرة سرعان ما ستتحول إلى خيبات أكبر. بالمقابل يرى آخرون أن من حسن حظ الإسلاميين أنهم استلموا الدفة في ظروف خاصة جداً، جعلت تكرار سيناريو "جيوب مقاومة التغيير" التي عرقلت عمل حكومة التناوب التوافقي التي قادها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد، خاصة وأن الشارع مازال قابلاً للاشتعال، وأية شرارة -مهما كانت صغيرة- يمكن أن تؤدي إلى حرائق يصعب التحكم فيها والتغلب عليها. من جانب آخر، كشفت واقعة "دفاتر التحملات"، أن في المغرب ثلاث حكومات، فإضافة إلى "حكومة الظل" الشهيرة التي تمسك بكثير من الخيوط ولم تسمع لحد الآن بشعار "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، والحكومة المنبثقة من البرلمان المنتخب عبر الاقتراع العام المباشر ليكون -نظريا- مُعبرا عن الإرادة الشعبية، هناك حكومة ثالثة هي حكومة المدراء العامين والمدراء وبقية الموظفين الكبار "السامين".. فوق كل شيء.. بما في ذلك القانون والمؤسسات..وحتى الدستور. وقد كان واضحاً من الأسلوب الذي اعتمده "الطرف الثالث" -بتعبير مصر الثورة- للانقضاض على دفاتر التحملات، أن حكومة المدراء، عكس حكومة الظل، مستعدة للمواجهة العلنية، حيث إن سليم الشيخ مدير عام القناة الثانية الذي لم يسبق له نطق ببنت شفة حتى عندما كانت الحرائق مشتعلة في "قناته" بين نائبته وأغلبية الصحفيين، بل إن الرجل لم يكن له وجود أصلاً في ساحة الفعل أو القول، جاءت خرجته الصاخبة لتوحي مبكرا بأن "الحكومة" التي يمثلها، تعتبر الإعلام العمومي أول خندق للالتفاف على المكاسب المحدودة التي تحققت بعد الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب كامتداد للربيع العربي.. وفق منطق "لا تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع"، وفي نظر هذه "الحكومة" فإن المواطن المغربي لا وجود له أصلا..حتى تكون له حقوق وتطلعات.. وهو نفس الاتجاه الذي سارت فيه السيدة سيطايل، التي لم تخف في أية مناسبة أتيحت لها، عداءها للتيار الذي يمثله حزب العدالة والتنمية، بل إن مواقفها معلنة ومعروفة، بدليل خرجتها الأخيرة، التي تناست فيها أن مياها كثيرة جرت تحت الجسور، وأن قاموس 16 ماي 2003 وما بعدها لم يعد مناسبا للمرحلة، وأن الحزب الذي انقضت عليه هي وقناتها يومها بشراسة غير مبررة، قد أصبح اليوم حزبا يقود الحكومة، وفق دستور جديد يمنح صلاحيات كبرى لرئيس السلطة التنفيذية، وفي ظرفية حساسة للغاية جعلت حزب "الملتحين" يمسك بكثير من الخيوط داخل العديد من القطاعات الحكومية، ما يؤهل وزير الاتصال –نظريا على الأقل- لإحالة ملفات الفساد "المزعومة" التي تتخبط فيها القناة الثانية، على زميله وزير العدل بصفته رئيس النيابة العامة، وساعتها إما سيأخذ القانون مجراه، أو سترسل فرنسا بوارجها لقصف "عين السبع"، للمطالبة بدية "بوحمارات" 2012..وسنعرف بالتالي أين نضع أقدامنا.. نحن إذن، أمام منظومة إدارية وسياسية "يدصر" فيها المدير على الوزير ..والموظف الصغير لا يكتفي بعصيان الأوامر، بل يخرج لسانه لرئيسه الأعلى ويستخف به، ويسخر منه على رؤوس الأشهاد..ويتحداه، ويتحدى معه كل ترسانة القوانين التي تنظم علاقة الرئيس بالمرؤوس والتابع بالمتبوع.. والعجيب أكثر في نظري، هو تقاعس الأحزاب السياسية عن مساندة الوزير الخلفي في "معركته". ولا أقصد هنا فقط أحزاب الائتلاف الحكومي، بل جميع الأحزاب سواء الممثلة في البرلمان، أو التي تلك لم يحالفها الحظ لدخوله، فالمعركة ليست معركة وزير أو حزب، بل هي معركة الجميع، معركة تنزيل صحيح لمقتضيات دستور أنقذ المغرب من الفوضى. فحزب العدالة والتنمية لن يخلد في الحكومة، وبالتالي قد تجد الأحزاب الأخرى نفسها في وضع مماثل، وقد يجد الوزراء المنتمون إليها أنفسهم تحت رحمة الموظفين الكبار..اللهم إلا إذا كانت هذه الأحزاب مستعدة بشكل مبكر للعودة إلى مفاعيل دستور 1996 وما قبله، عندما كان أصغر مدير أقوى من أكبر وزير..وعندما كان بعض الموظفين السامين يرفضون الرد على مكالمات الوزراء الأوصياء عليهم، بل ولا يخصصون لهم أي حيز في أجنداتهم الموزعة بين السفريات ومضامير الكولف.. وهنا يتضح بكل تأكيد، حجم الأمية السياسية التي تضرب أطنابها في الساحة الحزبية، وقصر النظر الذي يعاني منه السياسيون في هذا البلد السعيد. فإذا كانت موظفة صغيرة قادرة على تعطيل أحكام الدستور، وعلى القفز على نصوص القانون الصريحة والواضحة، فما الذي يمكن أن يفعله جيش الرؤساء المدراء العامين الذين يقبعون فوق إمبراطوريات لا تغيب عنها الشمس، والتي شهد قضاة المجلس الأعلى للحسابات بأنها تعاني ما تعانيه من اختلالات كبيرة وخطيرة؟ ولهذا فمن الوهم أن يعتقد البعض أن المعركة هي فقط بين وزير الاتصال ومسؤولي الدوزيم أو حتى بين حزب العدالة والتنمية وأقطاب الإعلام العمومي، ومن يقف خلفهم طبعاً من مكونات "اللهو الخفي" -بتعبير مصر الثورة هنا أيضا-. فالمعركة الحقيقية هي ضد التنزيل الديموقراطي للدستور الجديد، الذي يفترض أن يقطع مع منطق "الجُزر" المعزولة الخارجة عن رقابة الشعب من خلال مؤسساته المنتخبة. والذين فرضوا هذه المعركة على الحكومة في هذا التوقيت بالذات، يدركون أن مفاهيم كثيرة توجد على المحك، وأن "انتصار" الوزير الخلفي في فرض "دفاتر التحملات"، قد يكون مجرد بداية لانهيار سلطة الأمر الواقع، واهتزاز كراسي صناع القرار الحقيقيين الذين لا يستمدون سلطاتهم غير المحدودة لا من الدستور ولا من التفويض الشعبي . نعم هناك وجوه أخرى لهذه المعركة، تنصب مثلا على مفارقة مغربية أصيلة، تتمثل في أن شركات التلفزة العمومية التي هي في حكم المفلسة، تبيض ذهبا للقائمين على شؤونها، سواء عبر الأجور والتعويضات التي تفوق في مجملها ما يحصل عليه حتى رئيس الحكومة رغم أنه يدير شؤون دولة، أو عبر شركات الإنتاج المشبوهة التي تحتكر كل شيء، ولعل في ما نشر من تفاصيل ومعطيات في هذا السياق، يغني عن كثير من الكلام الذي لن يغير من واقع الحال شيئا. فهل يعقل أن شركة عمومية تم دفعها إلى الإفلاس عن سبق إصرار، ومع ذلك يتصرف المسؤولون عنها كما لو كانت تحقق أرباحاً مضاعفة، بل ويواجهون الرأي العام بوجوه "مزنكة"؟ وأين الشعارات التي رفعت بعدما عم الخوف من امتداد شرارة الربيع العربي إلى المغرب، وأقر الجميع بأن "البوليس الإعلامي" هو أحد أكبر تجليات الفساد الذي كاد يقود البلاد إلى الهاوية؟ أظن أن الحكومة الحالية عليها أن تدرك أن المعركة أكبر بكثير من مجرد تحرير التلفزة العمومية من قبضة أربعة أو خمسة أشخاص يعتبرون أنفسهم حراس الحداثة والعلمانية، وسدنة المعبد الديموقراطي. وأكبر أيضاً من مجرد "فتح" قناة عين السبع وإلزامها برفع الأذان وعدم تقديم إعلانات القمار والتحريض على الدعارة عبر الهواتف الوردية.. إن حزب العدالة والتنمية الذي يمزج بين "التقوى" و"القانون"، مجبر في هذه اللحظة المفصلية على أن يحدد ما إذا كان يخاف الله فعلا ويتقيه في المال العام، أم أن حسابات السياسة تجعل الخوف من "الطرف الثالث" و"اللهو الخفي" نوعا من الضرورات التي تبيح المحظورات، ويشملها قوله تعالى :"إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.."..ألن يسأل الوزير الخلفي غدا يوم القيامة عن الملايير التي ضخها في حسابات القناة الثانية التي تعتبر الدين مجرد طقس فلكلوري لا يختلف كثيرا عن رقصات أحواش أو أحيدوس؟ بالنسبة إلي، إذا فشل وزير الاتصال حتى في فرض احترام الدستور والقانون داخل التلفزة التي هو مسؤول عنها أمام الخالق قبل الخلق، فأولى له أن يفوض مهمة التوقيع على بطائق الصحافة -وهي المهمة التي لا ينازعه فيها أحد- إلى السيد فرانسوا كزافيي آدم، بما أن المغرب المستقل لم يستطع لحد الآن بسط سيطرته على قناة تلفزية مفلسة يتحمل دافعو الضرائب الكادحون عبء توفير السيولة الكافية ليعيش المسؤولون عنها في ظل "بريستيج" يليق بثقافتهم الفرنسية. عود على بدء.. في الماضي نصب الثعلب على الغراب..فهل استفاد غراب 2012 من سذاجة أسلافه؟.. [email protected]