الحمد لله أولاً، و للزمن الجميل الذي مضى ثانياً... كُنَّا وكان العلم لا يُأخذ إلا من أفواه العلماء، لا من بطون المتون ولا من أمهات الكتب ولا حتى من تضاعيف الحواشي... وكان طالب العلم، إذا ما دُفِع دفعاُ إلى جدال قائم بينه وبين أقرانه، يستنكف عن الاستدلال برأي قرأه أو اطلع عليه. لا تواضعاً مصطنعاُ يبغي من وراءه خُلقا زائفاً، ولا لشكٍّ عابرٍ خالج فكره وخالط سُوَيْداء قلبه أو لعقدة حالت بين لسانه وعقله، بل خوفاً من السقوط في آفة الجهل و عدم إدراك ما ذهب إليه صاحب الرأي، و فَهْمِ غير ما قصده... فَهُوَ هُوَ، طُويْلب العلم، عَرفَ قدر نفسه فوقف عندها... وكان طالب العلم يؤمن إيمان العجائز أنَّ العلم أبيٌّ عزيز، لو أعطيته كُلَّك أعطاك بعضه، و إن أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً...فجاد بنفسه التي بين جنبيه، و أذاب دماغه وزاحم العلماء بركبتيه... و ارتمى على أعتابهم طالباً رضوان الله في رضاهم عنه، يتسابق في اقتياد بغلة أستاذه وتسريجها... لا يُنقص ذلك من همَّته شيئاً و لا يزيد أستاذه إلا تواضعاً... فها هو حُجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي، بعد أن ذاع صيته و سارت بذكره الركبان، يَحْضُرُ دَرْسَهُ في بغداد أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم، لو وُزِّعَ علم كل واحد منهم على رؤوس الخلق لكفاهم... و قد صادف دخوله يوماً الجامع فوجد المدرِّس يقول: " قال الغزالي... " فوقع ذلك في قلبه موقعاً حسناً، فخشي على نفسه العُجْبَ والرياء، ففارق بغداد نجاة بنفسه... فيقول لنا حاكياً عن خروجه منها: "...ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من كل الجوانب، وأنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة... ثم تفكرت في نية التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله؛ بل باعثها ومحرِّكها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جُرْفٍ هارٍ، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المُقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وسمعة... فلم أزل أتردد بين تجاذب الدنيا ودواعي الآخرة، حتى إذا تحسست بعجزي وسَقَطَ بالكلية اختياري، تلطفت بلطائف الحِيَلِ في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً، ففارقت بغداد..." يروي لنا أحد تلاميذه و قد صادفه في صحراء دمشق و بيده عكازاً، و عليه مرقعة و على عاتقه ركوة، بين يديه غِلمان يُحفِّظهم قِصَارَ السُّور... فدنا منه و سلم عليه و قال له: " يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خير من هذا؟ " فنظر إليه، ثم قال: "تركت هوى ليلى وسعدي بمعزل *** وعدت إلى تصحيح أول منزل ونادت بي الأشواق مهلا فهذه *** منازل من تهوى رويدك فانزل غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد *** لغزلي نسَّاجاً فكسَّرت مغزلي" ولقد سَألَ أحد الأئمة العظماء تلميذه وكان نجيباً: " أي غاية تطلب في حياتك يا بُنيَّ، وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكونه؟ " فأجابه: "أحب أن أكون مثلك. " فقال: "ويحك يا بُنَّي لقد صَغُرت نفسك، وسقطت همَّتك، فَلْتَبْْكِ على عقلك البواكي ! لقد قدَّرتُ لنفسي يا بنَّي في مبدأ نشأتي أن أكون كعليِّ بن أبي طالب، فما زلت أجدُّ وأكدح حتى بلغتُ المنزلة التي تراها، وبيني وبين عليٍّ ما تعلم من الشَّأو البعيد والمدى الشاسع، فهل يسرُّك، وقد طلبت منزلتي أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عليّ؟ " فهُمْ هُمْ، علماء الزهد و التعفُّف، عرفوا قدر أنفسهم فوقفوا عندها... نعم، هو ذاك الزمن الجميل الذي نبكيه... فسلام عليك أيها الماضي الجميل... سلام على دَوْحتك الفَيْنَانَة الغَنَّاء التي نمرح في ظلالها عند سماع ذكرك... فنطير في أجوائك البديعة طيران الحمائم البيضاء في آفاق السماء... أبكيك يا ماضينا الجميل و أبكي عهدك الزاهر، لا لأني استأنست بمنظرك، بل لأنك كنت الماضي و كفى... أما اليوم و بعد أن ضرب الدهر ضرباته و صرنا في حكم الأمم المغلوبة، أصبحنا نسمع بالتلميذ يضرب مدرِّسه، أعزَّكم الله، لا يقيم وزناً لقداسة العلم و حرمته... وأمسينا نسمع العامة والغوغاء تتطاول على العلماء بألسنة حدادٍ أشحَّة على الخير، تصل حد التكفير و الإخراج من الملَّة. كيف لا وعصرنا هو عصر ثقافة الويكيبيديا؟ نحشو بها عقولنا كما نحشو بطوننا بالوجبات السريعة... نلتهم ثقافة الأطباق الجاهزة بدون تمحيص في المكونات و ما تدس من سموم مسرطنة للعقول... سحقاًً لموسوعة قد استحللت صفحاتها العذراء ليطأها من هب و دب... و بعداً لمعرفة مكنَّت نفسها للسوقة و المبتذلين، فهي أشبه بدور الدعارة من أي شيءٍ آخر فهي بتعريف صاحبها "موسوعة يمكن لأي مستخدم تعديل وتحرير وإنشاء مقالات جديدة فيها... تُكتب المقالات تعاونيا بواسطة متطوعين من حول العالم والغالبية العظمى من محتويات الموسوعة يمكن تعديلها بواسطة أي شخص يمتلك اتصالاً بالإنترنت." أنا لا أدعو الجمود عند كل ما هو قديم و نبذ كل ما هو جديد. و لكني أرى أن رُقيَّ الأمَّة أو دُنوها مرهون بمكانة العلم و المعرفة بين عامة الناس و خاصتهم. فلن يستوي لنا أمر حتى يسترجع العلم عرشه المسلوب و تاجه الضائع، فيسمو طالب العلم في الآفاق ينفض عن الأمة غبار الخمول و يستنهض الهمم الفاترة... فيا طالب العلم كن عالي الهمة، و قف عند دوحة المعرفة وقوف الدارس المتعلم، لا وقوف المتنزه المتفرج، فلا يمنعك فهم ما فهمته من معاودته و التغلغل في أحشائه فإنك لابدُّ ماخض زبدته... وهُزَّ إليك هذه الدوحة هزَّة يتناثر حولك ثمرات ناضجات... *أستاذ مساعد في علوم الطاقات المتجددة بجامعة بازل بسويسرا [email protected]