أرزٌ، وماء، وقليل من اللبن، وقطع من الخبز المكسر.. هذا هو الزاد اليومي لهادي الناجم في رحلته النهارية الطويلة لرعي الإبل بصحراء طانطان الشاسعة جنوب المغرب. يقف الناجم ذو الثلاثين سنة، منتصب القامة يتأمل في الدخان المتصاعد للذخيرة الحيّة من مناورات "الأسد الإفريقي" بين الجيشين الأمريكي والمغربي قرب واد درعة، دون أن تغفل عيناه عن إبله الباحثة بشغف عن الكلأ في كل ناحية. ينظر هادي الناجم بعيدا حيث يوجد الحزام الأمني المشكل من الدرك الملكي والجيش المغربي حول ساحة المناورات العسكرية المغربية الأمريكية، وعيونه تشي بأكثر من غضب حول هذه المناورات التي أفسّدت برنامجه اليومي لرعي إبله الجائعة. يقول الناجم ل"هسبريس" لم نعد اليوم قادرين على الاقتراب من واد درعة بفعل الحزام الأمني المشكل حول المناورات العسكرية، وهو ما يشكل لي هاجسا يوميا بفعل قلة الكلأ في المساحات المتبقية لرعي إبلي، يضيف هادي الناجم الذي يتحدث لغة أنيقة، لا تخلو من لكنة صحراوية ضاربة في عمق ثقافة الصحراء. يشرب الناجم بعض الماء، ويضع حقيبته الظهرية على الأرض، قبل أن يبدأ في سرد تاريخ المنطقة بتفاصيل دقيقة تدعو للفضول. يحكي الناجم عن الصحراء وعن تاريخ قبيلة آيت لحسن التي ينتمي إليها، وعن الصراعات القبيلة التي تعرفها الكثبان الرملية المنبسطة على امتداد البصر، وعن حزازات بين الصحراويين مازالت تنتعش كلما قلّت الحلول الكفيلة بتذويب المشاكل الاجتماعية في الصحراء. ثقافة الناجم الواسعة، وحكمته النابعة من سكون الصحراء، وشهادة الإجازة التي يحملها في "التاريخ والحضارة" بجامعة ابن زهر بأكادير، كلها عوامل جعلت من هادي الناجم يرى الصحراء ومشاكلها بعيون فاحصة مختلفة عن من يرى الصحراء من الرباط أو الدارالبيضاء. بطالة، وفقر، ومشاكل اجتماعية تتفاقم.. هذا باختصار الواقع الذي يعيش فيه هذا الشاب، ومعه عشرات الشبّان في مدينة طانطان الشاسعة، في حين أن مظاهر الغنى الفاحش بادية على بعض رموز اقتصاد الريع ممن منحتهم الدولة "ثدي" ثروة الصحراء ليحلبوها.. قصور فاحشة ودور بسيطة تتعايش بشكل نشاز جنبا إلى جنب بطانطان التي تتلحف تناقضات مجتمعها الصغير، دون أن يزعج ذلك أي أحد.. لحد الآن. هذه ببساطة، تناقضات هذه المدينة، وحكاية هادي الناجم الذي يطل على الثلاثين من عمره.. بسيطة وغير معقدة.. ملكي حتى النخاع، ووطني دون مزايدة.. ومغربي دون أن يرهن وطنيته بمطالبة الدولة بوظيفة مباشرة لأنه يحمل شهادة جامعية.. ثقافته عالية.. عميق في تحليله...بسيط في حياته... خجول في حديثه.. مُتّكل على نفسه في صنع حياته في عمق الصحراء مع إبله التي يقطع بها 25 كلم في اليوم ليرعاها، لمدة 13 ساعة يوميا، باحثا لها عن الكلأ، وله عن لقمة خبز يصنعها تحت شمس حارقة بكبرياء رجال الصحراء. [email protected]