توالت البيانات الموقعة باسم "حركة التوحيد والجهاد" منذ تنصيب حكومة بنكيران، باتهام هذه الأخيرة بالردة والكفر لرضاها بالأحكام الجاهلية والتحاكم إلى الديمقراطية الكافرة بزعمهم. ثم انتقلت إلى مرحلة التهديد بالتصفية الجسدية لوزير العدل والحريات السيد مصطفى الرميد من خلال "عملية استشهادية". قبل الحديث عن خلفيات هده التهديدات، لابد من إبداء ملاحظتين : الملاحظة الأولى : أن وزير العدل والحريات ليس مستهدفا من المتشددين فحسب، بل أيضا من الحداثيين الذين ملؤوا الدنيا ضجيجا هذهالأيام بسبب تصريحاته الأخيرة لدى زيارته لدار القرآن بمراكش، حول استقبال المدينة الحمراء لزبناء يعلم الجميع، بما فيهم السيدة فاطمة المنصوري عمدة المدينة التي انتقدت بدورها الوزير، أنهم مرّغوا وجه المدينة في الوحل : فهذه فئة تستهدف الأطفال بالاستغلال الجنسي، وأخرى تستهدف القاصرات في الرياضات والمقاهي المخصصة لهن، وصهاينة يعلمون بناتنا الرقص، وقد عبرت مجلة "شوك"الفرنسية منذ سنوات عن استقطاب المدينة لآلاف البغايا،واليوم تستقبل بغايا من دول أوروبا الشرقية، كما تستقبل المدينة الدوري العالمي ل"البوكير"...إلخ. الملاحظة الثانية : كتبت منذ أزيد من خمس سنوات، وأنا أقدم قراءة نقدية لكتاب "الحكومة الملتحية " لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية سابقا الدكتور عبد الكبير المدغري، أن ما سيشكل تهديدا حقيقيا للحكومات ذات المرجعية الإسلامية مستقبلا، ليسوا هم العلمانيون الحداثيون، لا بل " الخوارج الجدد"، الذين يرفضون آليات التداول السلمي على السلطة، ويكفرون باللعبة الديمقراطية، وينظرون للمواقف السياسية بمنظار الحلال والحرام، أو الحق والباطل، لا بمنظار الصواب والخطأ، ويضخمون الجزئيات على حساب الكليات، ولا يفقهون شيئا في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وشعارهم حمل السلاح في وجه المخالف. وسلف هؤلاء المجرمين هم الذين استحلوا دم الخليفة الثالث عثمان بن عفان والخليفة الرابع علي رضي الله عنهما وأهدروه. فلا عجب أن يستهدفوا المناضل الكبير مصطفى الرميد ، لذلكوجب أخذ هذه التهديدات الموجهة لوزير العدل والحريات على محمل الجد، وهو الذي فتح ملفات للفساد، ووعد بفتح أخرى بقيت عالقة منذ سنوات. لنعد الآن لصلب الموضوع : ماهي ياترى خلفيات التهديدات الموجهة لوزير العدل والحريات السيد مصطفى الرميد من "حركة التوحيد والجهاد" ؟ جاءت هذه التهديدات عقب حدثين اثنين : الحدث الأول : الطلب الذي تقدم به السيد وزير العدل لدى جلالة الملك من أجل العفو عن بعض المعتقلين، على رأسهم مااصطلح على تسميتهم بشيوخ السلفية الجهادية، وفعلا استفاذ الشيوخ الكتاني وأبوحفص والحدوشي من هذا العفو، وبعد أيام من إطلاق سراحهم استضافهم وزير العدل في بيته، والرسالة التي وجهها لهم مفادها أن مصير باقي المعتقلين في ملف السلفية الجهادية مرتبط باختياراتهم ومواقفهم واجتهاداتهم تجاه الدولة والمجتمع. الحدث الثاني : الزيارة الأخيرة التي قام بها السيد الوزير لدار القرآن بمراكش، والتقى خلالها الشيخ بن عبد الرحمن المغراوي، وعبر عن تضامنه من أجل إيجاد حل عادل لملف دور القرآن التي يديرها هذا الأخير. لابد أن نقرأ التهديدات بالتصفية الجسدية للسيد الوزير من طرف المتشددين على ضوء هذين الحدثين، فالخاسر الأكبر من أي انفراج في ملف السلفية الجهادية، أو أي مصالحة بين هذا التيار والدولة، هو التيار الذي يتبنى أطروحة تنظيم القاعدة الذي بدأ نشاطه يتنامى أكثر جنوب الصحراء بعد سقوط نظام القدافي وانتعاش السوق السوداء للسلاح. فلا يخفى أن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي يبحث عن موالين له داخل دول المغرب العربي من أجل فك العزلة التي يعاني منها التنظيم، وتنفيذ مخططاته الإجرامية، والجهة المفترضة أن تواليه على الأقل في تقديره هو هي التي كانت ( أو لا زالت) تتقاسم وإياه نفس المرجعية الجهادية التي تنطلق من تكفير الحكام ورفض الديمقراطية كمرجعية لتصريف الخلاف السياسي والتداول على السلطة. إذن فكل احتقان يطال هذا الملف فهو في خدمة أجندة القاعدة، وكل انفراج للملف يضر بالمشروع التخريبي للتنظيم المذكور، خصوصا إذا ما رافقه إدماج للمفرج عنهم داخل المجتمع، وبناء أسس مصالحة تفسح المجال لهذا التيار ليعبر عن قلقه وانشغالاته ومواقفه السياسية بالطرق السلمية الحضارية، من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وعبر هياكل الدولة ومؤسساتها المنتخبة. كذلك التيار السلفي التقليدي، الذي يقود جناحه الأكبر في المغرب الشيخ بن عبد الرحمن المغراوي، وهو الخصم التقليدي للتيار القاعدي، ذلك أن التيارين يقتسمان نفس مفردات الخطاب السلفي الذي يتأسس على تجريد التوحيد واتباع السلف، لكنهما افترقا منذ تباين الموقف من دخول الجيوش الأجنبية لأرض الحرمين على إثر احتلال صدام حسين للكويت. والحاصل أن الخصومة بين السلفية العلمية(أو التقليدية) والسلفية الجهادية عميقة لأنها تقوم على تباين كبير في عقيدة الولاء والبراء، ومفهوم الجهاد وتنزيل مقتضياته على الواقع، وفي الحكم على الحكام ورفض المجتمع من عدمه.فكل انفراج في ملف السلفية العلمية هو بالتأكيد يضر بالفكر الجهادي المتطرف، ويعري اجتهاداته الدالة على جهل فظيع بأحكام ومقتضيات التنزيل، لذا لا تجد عالما معتبرا، سلفيا أو غير سلفي، يتعاطف مع هؤلاء، فضلا عن مساندتهم بالفتوى والتأصيل العلمي، وكذلك كان الصحابة مع الخوارج، وقد احتج عليهم بن عباس رضي الله عنهما، في مناظرته لهم الشهيرة، بغياب أي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حركتهم التخريبية. *عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية