خلال العقود الأولى من الاستقلال، ومع الهجرة الكثيفة من البوادي نحو المدن، وجد عدد كبير من المواطنين الأمازيغيي اللسان أنفسهم في وضعية صعبة بسبب لسانهم، حيث يحتاجون إلى شهور أو سنوات لكي يتأقلموا مع السياق الحضري ويتعلموا الكلام بلغة الوسط الجديد، مما كان يلزمهم بأن يبلعوا لسانهم الأصلي، الذي لا تنحل عقدته إلا داخل البيت، أو في أوساط حميمية داخل دائرة تضيق أو تتسع نسبيا حسب أعداد المهاجرين من نفس المنطقة. لم تكن عقدة اللسان هذه تعود إلى كون الكثير من سكان المدن يتكلمون الدراجة المغربية التي كانت تختلف حسب المناطق، بل كانت عائدة أساسا إلى أن لغتي المؤسسات في الدولة الناشئة هي العربية والفرنسية، وهو ما أعطى اللغتين قيمة زائدة في "السوق اللغوية" المغربية، وزاد من تراجع قيمة الأمازيغية ودونيتها، رغم أنها كانت وما تزال لغة الأغلبية الساحقة من سكان المغرب، وقد انعكست هذه الدونية على نظرة الإنسان الأمازيغي إلى ذاته وإلى الدولة. وكان واضحا أن استراتيجية السلطة التي تبنت منظور "الحركة الوطنية" المغربية في اختزال هوية المغرب في "العروبة والإسلام"، هو جعل المدن الكبرى أفرانا لتذويب المكونات المختلفة في بوتقة الثقافة الرسمية للدولة المركزية بهدف "التوحيد"، أي أنّ هدف الدولة كان هو صناعة مواطنين/ رعايا على مقاسها الجديد، وكان التعليم أهمّ الآليات لذلك. ويتذكر الجميع كيف أن "الوطنيين" كانوا يعتبرون أن الأمازيغي "البربري" هو ذلك الذي لم يدخل المدرسة قط (المهدي بنبركة)، وأن على الدولة ألا تكلم أحدا إلا بلغتها (علال الفاسي)، أي أنهم كانوا يربطون الأمازيغية بالبادية وبالأمية، ما معناه أن تمدرس الأمازيغي يعني تحوله من هوية أصلية إلى هوية الدولة. وقد نتج عن ذلك اختياران اثنان توزع بينهما الأمازيغ المتعلمون: الإختيار الأول والأسهل هو الإنخراط في مشروع الدولة المركزية والبحث عبر إتقان لغتي الدولة عن موطئ قدم في سلم الترقي الإجتماعي، وهو ما يعني الإنسلاخ من اللغة الأصلية باعتبارها مظهرا للتخلف والبداوة، والتحول إلى "إطار" للدولة الحديثة ، لا يمكن أن يكسب احترام الآخرين إلا عبر عملية الإنسلاخ المذكورة . أما الإختيار الثاني وهو الأصعب فكان يتمثل في السعي إلى قلب المعادلة من خارج الإطار الرسمي، وانتزاع اعتراف السلطة بالأمازيغية باعتبارها لغة الدولة (أي لغة الجميع)، وباعتبار الأمازيغي إطارا للدولة الحديثة بلغته وثقافته الأصليتين أيضا، هكذا خرج الأمازيغي من عقدة اللسان إلى انتزاع الإعتراف بوجوده في وطنه، وقد احتاج في معركة إثبات الوجود تلك إلى 45 سنة. لكن المفارقة التي تواجهه اليوم هي أنه ما أن انتقل من عقدة اللسان والشعور بالدونية إلى الشعور المواطن بالإنتماء إلى المغرب في كليته، حتى اصطدم بظواهر غريبة منشأها ذهنية الميز التي تربّى عليها الكثيرون، فحتى عندما تصحّح السلطة أخطاءها، فإن الأضرار التي تلحق بعقليات المواطنين بسبب سياساتها السابقة، تظل عامل تعثر وعرقلة لمدة غير يسيرة. ففي العديد من منتديات النقاش العمومي، ما أن يتناول مواطن الكلمة باللغة الأمازيغية حتى يهبّ وينتفض في وجهه من يعمل على إسكاته على الفور، في نرفزة وهياج غير طبيعي، مطالبا إياه الحديث بالعربية، في الوقت الذي لا يحرك أحد ساكنا إزاء من يتحدث باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلا، حتى وإن كان الكثيرون لا يفهمون شيئا مما يقال. هذه الظاهرة أدّت إلى إفساد العديد من اللقاءات التي تنفضّ بشكل غير ودّي، مخلفة آثارا سلبية غريبة عن جوّ الحوار الهادئ والمسؤول، في الوقت الذي يمكن فيه الإنصات إلى مواطن باحترام تام لمدة دقيقتين وهو يتكلم اللغة التي يريد ويختار، ثم الإستماع إلى مضمون ما طرحه عبر الترجمة بالنسبة لمن لا يعرف لغة المتكلم، وهو الإختيار الوحيد الممكن والعادل والديمقراطي، وما سواه يعدّ انتهاكا لحق مواطن في التحدث بلغته الأصلية التي هي اليوم لغة رسمية للبلاد، أي لغة المؤسسات أيضا. وقد زاد الطين بلة أن رئيس مؤسسة عمومية استضافت لقاء ثقافيا بالعاصمة الرباط، قام بنفسه قبل أيام لمؤازرة من اعتدى على مواطن بإسكاته ومنعه من الكلام بالأمازيغية، بحجّة أن القانون الداخلي للمؤسسة التي يرأسها لا يسمح باستعمال أكثر من لغتين هما العربية والفرنسية، مضيفا أن من حق الأمازيغ أن يستعملوا لغتهم فيما بينهم عندما يكونون في لقاء مغلق وخاص بهم (كذا!). ونظرا لتكاثر مثل هذه الوقائع في الآونة الأخيرة بشكل غريب ومثير للتساؤل، نرى ضرورة التأكيد على ما يلي: 1) أن الأمازيغ لا يقبلون وهم في وطنهم، أن ينتقلوا من عقدة اللسان إلى قطع اللسان من جديد، وبشكل متهور وعبثي، لأن ذلك لا يساعد على فضّ النزاع في قضايا الهوية، بقدر ما يزيد الأمر تعقيدا ويشيع مناخ عدم التفاهم، مع ما قد يرافق ذلك من مشاعر الغبن أو الكراهية غير المبرّرة. 2) أنّ سلوك هؤلاء المواطنين الذين لا يريدون سماع الأمازيغية، علاوة على المشكل الأخلاقي الذي يقعون فيه، يتعارض مع الدستور الذي هو القانون الأسمى للبلاد، والذي ينصّ على أن اللغة الأمازيغية لغة رسمية للدولة، وأن القوانين الداخلية للمؤسسات لا يمكن أن تكون فوق الدستور بل على العكس من ذلك ينبغي ملاءمتها معه. 3) أن الأمازيغ قد تنازلوا تحت إرهاب السلطة القمعية عن حقهم في استعمال لغتهم الأصلية في الأوساط الرسمية لأزيد من نصف قرن، وهو حق مبدئي لهم حتى قبل الإعتراف الدستوري، إذ كان واجب الدولة أن تتكلم مع مواطنيها بلغتهم احتراما لهم ومن أجل إشراكهم في برامجها ومشاريعها، وقد آن الأوان لإنصاف الناطقين بالأمازيغية من مواطنين وفاعلين مدنيين وسياسيين وفنانين مبدعين في كل مناحي الحياة العامة، ضمانا للمساواة بين جميع المغاربة. 3) أن إنجاح تعليم اللغة الأمازيغية من شأنه أن ينهي سوء التفاهم المذكور، فمثلما لا يشعر الأمازيغي بأية مشاعر سلبية تجاه العربية أو من يتكلمها لأنه تعلمها في المدرسة المغربية، فكذلك ينبغي أن يكون الأمر بالنسبة للأمازيغية لدى الأجيال القادمة. 4) أن أساس الحياة الديمقراطية هو احترام الآخر المختلف، دينيا أو عرقيا أو لغويا أو في اللون والجنس، وأن أي ميز بسبب هذه العناصر يؤشر إلى عدم الإحترام وإلى التحقير وعدم النضج الديمقراطي.