"محمد السادس يصالح المغاربة مع البحر"، مقولة أطلقتها عنوانا لمقال صحفي مفترض منذ أزيد من سنتين من على سطح برج الملاك بالقلعة البرتغالية بالجديدة وكنت رفقة طاقم تلفزي للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، بعد أن كانت الفكرة جاءتني قبل ذلك منذ تمكنت من معاينة تصميم مشروع تهيئة ضفتي أبي رقراق. طرب أعضاء الطاقم الصحفي لهذا الوصف/العنوان وعبروا عن شغفهم بقراءة المقال يوما ما. تكاسلت في أمر هام كهذا، لكن الفكرة لم تفارقني يوما. الواجب الوطني لا يسقط أبدا بالتقادم. لقد تخاصم المغاربة مع النهر والبحر على حد سواء لعدة قرون، قبل أن ينعم الله على البلد بمشاريع الملك محمد السادس فور اعتلاءه عرش أسلافه الميامين. فمشروع المخطط الأزرق شمل أساسا المدن الشاطئية وجاءت منشئاته على جنبات البحر والمحيط. وتهيئة ميناء طنجة المتوسط، مشروع القرن كما هو معمل رونو-نيسان كذلك، دخل في البحر المتوسط طولا وعرضا، وكذلك الشأن مع تهيئة بحيرة مرشيكا بالناظور وما ينجز بالوليدية والصويرة وأكادير والعرائش وسيدي إفني والداخلة وغير ذلك من المشاريع الإنمائية التي أنجزت أو ستنجز من دون شك مباشرة على جنبات الأنهار والبحرين اللذان يحضنان المغرب بكل دفء وحنان. غير أن ما شد خلدي بعمق واستأثر أكثر بوجداني هو مشروع تهيئة ضفتي أبي رقراق، فقد كان لي حساب مع هذا النهر. المكان سكنني وآلمني ذات يوم من ربيع سنة 1985 في ثاني حلول بدوي بالعاصمة قادما من ثانوية ابن الياسمين بحثا عن ملف منحة دراسة السوسيولوجيا أو الصحافة بجامعة ستراسبورغ، ولست أدري كيف اخترت هذه الجامعة دون أخريات، ولم أفلح في شيء على أية حال. عبرت أبي رقراق جيئا وذهابا على متن القطار (الدرجة الاقتصادية = الكاطريام ديال الخشب التي يشدنا إليها الحنين اليوم) فخطفني بهاء أبي رقراق أنا المستأنس فقط بإيناون المسكين، لكن آلمني كثيرا انتشار جنباته في شكل رث ومملق بمرجات لا تجمع سوى القوارض من الحشرات الضارة. وشاءت صدف حياتي الكثيرة أن أحل بالرباط خريف 1986 للدراسة بمعهد الآثار. كنت دوما أزور الاوداية وحسان وشالة وأبي رقراق وأركب قواربه. قلت لكثير من زملائي وكثيرا من المرات : لماذا لا نجعل لأبي رقراق جنبات قائمة تحده من اليسرى واليمنى بدل أن تنتشر مرجاته إلى حدود أسوار الملعب البلدي بسلا ؟ وفي كل مرة كنت مدعاة للسخرية والاستهجان. وبعد أزيد من عشرين سنة، طلع علينا عاهل البلاد بمشروع لم يحلم به حتى أكثر المتفائلين، ولشدة عناية جلالته به جعل له وكالة خاصة تعمل تحت إمرته وتعليماته وتوجيهاته المباشرة وهو الشغوف بالبحر والبطل في الرياضات البحرية. لكن، رغم فرادته وضخامته وأهميته، فلم يحظى المشروع بما يكفي من مقالات صحفية تقنية ولا خصه، في حدود علمي، المهندسون والمتخصصون بمقالات مستفيضة بجرائد أو بمجلات متخصصة، بينما هو يستحق وبامتياز كتابات رصينة تنشر بكبريات المجلات العالمة والعالمية. المشروع هذا يا سادة قطع الشك باليقين ورسخ قدرة الإنسان والعلم على تطويع الطبيعة وتسخيرها لصالح عيش كريم وبيئة سليمة وتجميل وجه المدينة والحضارة. هذا المشروع الملكي الضخم والاستثنائي، في زمن سخافة التهيئة العمرانية والحضرية لمدننا على امتداد ربوع الوطن، أعطى المعنى الحقيقي للرباط التي أنا دوما معجب بها لكنني أنتقد دوما وعلنا تهيئتها الحضرية التي لا تناسب عاصمة بلد عريق. اليوم وغدا يحق لنا جميعا، بل يجب علينا الافتخار بالرباط وسلا، فنذكر وتذكر الأجيال القادمة هذه النعمة الإلهية التي جاءتنا على الأيادي البيضاء للملك سيدي محمد بن الحسن، خلد الله في الصالحات أعماله. أقول علنا جهارا، لا يجب أن تكون تهيئة ضفتي أبي رقراق، بالرباط وسلا، مشروعا فريدا ومعزولا، لأنه فعلا درس حكيم وعبرة ثمينة لمن يعتبر. يجب على كل التقنيين والمسؤولين في هذا الوطن أن يقرؤوا جيدا درس أبي رقراق ومواعظه وعبره لينطلقوا من اليوم في اقتراح وتنفيذ مشاريع عمرانية بمدنهم وقراهم وبواديهم على جنبات البحر والأنهار والأودية والشعاب،. بل أرى أنه آن الأوان لأن نشيد مدنا وقرى جديدة ونموذجية على ضفافها. اليوم، بعث الملك رسالة سامية إلينا جميعا فصالح المغاربة مع النهر والبحر وأعاد ترميم علاقتنا التراثية بهما. إذ لم يعد المحيط الأطلسي هو بحر الظلمات كما كان قد سماه بذلك المشارقة في زمن غابر. انظروا أيها المغاربة والمغربيات إلى عدد المدن والقرى والحصون والقلاع والمراسي والمرافئ والتجهيزات الحضرية والقروية والصناعية والفلاحية التي أبدع في تشييدها ورفع عمرانها الجميل على مر العصور أجدادنا من الملوك الأمازيغ والأدارسة والمرابطون والموحدون والمرينيون والسعديون والعلويون، وحتى في عهود ما قبل التاريخ. لقد تركوا لنا إنتاجا حضاريا نباهي به الأمم والشعوب، ومنهم من يحسدنا عليه، إلى أن جاءتنا الردة وضعف العزيمة والخيال والإبداع منذ أزيد من قرن فأنتجنا قرى ومدنا سخيفة ورديئة في بناياتها وواجهاتها وشوارعها ومنقولاتها الحضرية، بلا ساحات ولا حدائق ولا غابات وسطها، فلا تصلح حتى للخنازير. لقد كان العلم والتقنيات زمن أجدادنا أقل تطورا من زمننا هذا ومع ذلك تفوقوا علينا في الإبداع وتطويع الطبيعة فداعبوا وتلاعبوا في بنيانهم بضفاف الأنهار وشواطئ البحار وجعلوها لهم لا عليهم كما فعلوا كذلك في الواحات والصحراء والجبال، وها هي آثارهم تشهد على عظمتهم وعزيمتهم وسعة خيالهم وإبداعهم. أما نحن فقد خفنا من الضفاف والشواطئ وتركناها مرتعا للتلوث وذباب المطعم البلدي. وكان المرحوم الحسن الثاني قد نبهنا إلى انسلاخنا هذا عن عمراننا المغربي الأصيل وأعطى فيه المثال بمدينة أزمور وأم الربيع في رسالة سامية كان قد وجهها إلى المهندسين المعماريين، ولم نتعظ، بينما كان علينا أن نجعل تلك الرسالة السامية هي ميثاق الهندسة والتعمير لأنها لم تترك شأنا إلا وكانت له نبراسا. وها هو اليوم محمد السادس وريث سره الأمين يوجه إلينا وبالعمل الميداني التطبيقي رسالة تاريخية لا يجدر أبدا أن لا نتعظ بها هذه المرة، من فضلكم. ولنا في كل مشاريعه الملكية بالبحر المتوسط وأبي رقراق والمحيط الأطلسي، من السعيدية إلى الكويرة قدوة لا يجود الزمان بمثلها على الشعوب عادة إلا مرة في قرنين. تهيئة ضفتي أبي رقراق جعلت هذا النهر المحمل بالتاريخ السلاوي الرباطي المغربي والأجنبي فعلا نهرا رقراقا وأعطت معنى ومذاقا وهبة لمدينة يعقوب المنصور ومدينة العياشي. أما الفوائد الاقتصادية لهذه التهيئة ودورها في استقطاب السياح فتلكم نعم لا تحصى وستظل الأجيال القادمة تجني حسناتها وثمارها. وبعد أمد قصير سيتغنى الشعراء من جديد بأبي رقراق وسيقال في حق الرباط ما يقال في أجمل مدن العالم : "زرها ومت". فأقل ما يمكن أن يقوله هذا العبد الضعيف هو تدوين هذه العبارة للتاريخ : الملك محمد السادس يصالح المغاربة مع البحر. *متخصص في الآثار والتراث