شكل تدخل الجيش الملكي المغربي بمعبر الكركارات مؤخرا نقطة تحول في مسار النزاع حول الصحراء ولا شك، منهيا بذلك تهور عناصر البوليساريو ورعونتهم. وإن كان المداد قد سال حول هذا التدخل ونتائجه الآنية التي بدت واضحة للعيان، فإن مآلاته المرتقبة وسيناريوهاته غابت عن كثيرين، ولم يتم تناولها إلا فيما ندر. محمد الزهراوي، أستاذ العلوم السياسية، يتناول في مقاله هذا التحولات المرتقبة بالمنطقة على صعيد العلاقة مع الجارة الجزائر، وكذا على صعيد التسوية الأممية. وهذا نص المقال: إن تدخل الجيش الملكي المغربي فجر الجمعة 13 نونبر 2020 لتأمين معبر الكركارات بشكل نهائي، شكل نقطة تحول نوعية في مسار النزاع حول الصحراء؛ إذ أنهى هذا التدخل سلسلة من الاستفزازات والممارسات التي اتسمت بالعداء والتصعيد، وطوى بشكل نهائي أطروحة "الأراضي المحررة" على مستوى هذا المعبر، مما أكسب المغرب مساحات ميدانية لم يكن ممكننا تحقيقها بالاعتماد على الاشتباك الدبلوماسي. هذا التحول الميداني من المحتمل أن ينعكس على سقف ومحددات مسار التسوية الأممي. ثمة مؤشرات تؤكد أن خيار التدخل العسكري المغربي وإن كان بخلفية غير قتالية أو هجومية لم يكن مطروحا على أجندة المملكة التي راهنت منذ بداية المسار السياسي على الدبلوماسية الناعمة، لكن سوف يصبح هذا الخيار مطروحا بقوة عندما ظهرت بوادر على الأرض تروم خلق واقع جديد، ومحاولة عزل المغرب عن محيطه الإقليمي والقاري. إن قيام المملكة المغربية بإنشاء حزام أمني يطوق الحدود مع موريتانيا بقدر ما يخدم الأمن القومي المغربي، هو يؤشر على بداية مرحلة جديدة فيما يتعلق بمحددات وقواعد إدارة النزاع دبلوماسيا وميدانيا، سواء على مستوى مسار التسوية الأممية، أو على مستوى الاشتباك الدبلوماسي أوروبيا وقاريا وإقليميا، أو فيما يتعلق بتعقيدات الجغرافيا ومستقبل اتفاقية وقف إطلاق النار. تساؤلات عدة تفرض نفسها فيما يتعلق بتداعيات وارتدادات التحرك العسكري المغربي الذي أغلق قوس المنطقة العازلة من خلال تمديد الجدار الأمني الدفاعي إلى غاية الحدود مع موريتانيا، ويمكن التساؤل واستحضار بعض التحولات والإشكالات المطروحة على النحو التالي: ما هي السياقات والخلفيات التي دفعت الجزائر والبوليساريو إلى المراهنة على "ثغرة الكركارات"؟ وما هي نتائج وانعكاسات تمديد الحزام الأمني على مسار النزاع عامة بحمولاته السياسية والإقليمية والرمزية وعلى مسار التسوية الأممي خاصة؟ ما هو سقف ردود الفعل على المستوى الدبلوماسي والميداني؟ هل سيناريو الحرب يظل قائما رغم إصرار المغرب على التشبث باتفاق وقف إطلاق النار؟ الجزائر وصراع الجيش ومأزق المخيمات ليس من المبالغة القول أو الإقرار ولو بشكل مجازي بأن محاذير وتعقيدات الجغرافيا لم تنصف المغرب؛ إذ لم يكن الحظ في صالحه على الإطلاق وهو يواجه قدرا لم تنفع معه كل المحاولات، فما إن تظهر بوادر الانفراج عند الجارة الشرقية حتى تعود الأمور إلى نقطة الصفر، حراك سلمي شعبي استمر لمدة سنة وهو يطالب بدولة مدنية لم تنفع معه مناورات الجيش وظل عصيا على التطويع، مما جعل البعض يعتقد بحماسة مفرطة أن عهد العسكر قد ولى بغير رجعة، لكن فجأة ظهرت جائحة "كوفيد-19" التي تكلفت بإخماده. صعود رئيس جديد سرعان ما انتهى به الأمر مثل الرئيس السابق؛ إذ عادة ما ينتهي المشهد بالرئيس في ألمانيا في رحلة البحث عن الاستشفاء، لكن لا أحد يستطيع التنبؤ بعودته أم لا، لكنه يظل الرئيس الذي يحكم من هناك أو فوق الكرسي المتحرك أو سرير المرض، بحسب وسائل الإعلام، هو مشهد سوريالي يتكرر دون وجود ما يفيد التبيان أو أجوبة أولية قد تساعد على فهم "نسق قائم" أريد له أن يكون "دولة الجيش" عوض أن يكون جيش الدولة. لقد اعتاد النظام العسكري الجزائري على اللجوء إلى منطق الاستفزاز كلما أحس بأن ملف الصحراء يتجه نحو الجمود والنسيان على المستوى الدولي؛ إذ يتم الزج بالصحراويين في كل مرة في مغامرات غير محسوبة، تارة باستعراض القوة في المناطق العازلة، وتارة أخرى من خلال الدفع بالبعض منهم لعرقلة حركية المرور مثل ما حدث على مستوى معبر الكركارات. لا يختلف اثنان على أن المشهد يبدو ضبابيا داخل الجزائر، اقتتال وصراع داخل مراكز السلطة، جنرالات يحكمون اليوم بقبضة من حديد، لكنهم في اليوم الموالي من غير المستبعد أن يجدوا أنفسهم داخل السجون، فلا شيء يسود غير منطق القوة داخل رقعة السلطة والنفوذ؛ إذ تحولت "جماعة الجيش" إلى طوائف تتصارع حول السلطة بطريقة تكاد تكون متكررة ومفتوحة، فبعد دخول جماعة الجنرال توفيق إلى السجن، لم يكد قبر الجنرال القوي في عهد بوتفليقة قايد صالح يجف حتى تم إدخال ذراعه الأيمن وعلبته السوداء الجنرال بوعزة واسيني إلى السجن، بل وصل الأمر إلى التنكيل به وتعذبيه بطريقة وحشية، بحسب الشهادات التي تأتي تباعا من الجار. وضع داخلي يعقد مهمة المغرب في إيجاد محاور جدي أو أطراف جزائرية على الأقل يمكن أن تتحمل مسؤولية القرارات التي يجري التحضير لها في كل مرة، تصرفات طائشة لها ارتدادات على الداخل والخارج، وقرارات وسياسات لا يرى فيها النظام العسكري سوى أداة لتصريف أزمة داخلية تنذر بعودة الحراك الشبابي، أو لحل "عقدة المراركة"، بحسب المخيال الثقافي والنفسي الذي بات يشكل عقيدة بائدة ومتجاوزة ترتبط برواسب الماضي والحرب الباردة. إن توظيف ورقة البوليساريو لتقزيم ولإضعاف المغرب من طرف قيادات الجيش الجزائري، باتت رهانا خاسرا، وتحولت هذه الورقة مع مرور ما يقارب أربعة عقود ونصف إلى عبئ ثقيل على مالية الجزائر، كما أنهكت دبلوماسيتها بعدما أفقدتها حلفاء أساسيين، وما الاصطفاف العربي الأخير مع المغرب إلا الجزء الظاهر الذي يؤشر على عزلة دولية غير مسبوقة. هذا بالإضافة إلى أن المخيمات في تندوف أصبحت بمثابة عود الثقاب الذي قد ينفجر في أي لحظة، لا سيما في ظل انحسار وتآكل أطروحة الانفصال على الصعيد الدولي والأممي. وضع مضطرب ومقلق، وربما يستدعي، بحسب عقلية الماسكين بالسلطة في الجزائر، تجريب كافة الوصفات والاستفزازات التي من الممكن أن تساعد على تصريف الأزمة الداخلية من جهة، وحلحلة الملف وتعيين مبعوث أممي جديد من جهة أخرى، وإن اقتضى الأمر جر المملكة جرا إلى ساحة الحرب. انسداد مسار التسوية الأممية.. وخيار الحرب رغم انخراط الأطراف في مسار التسوية الأممي في الصحراء، إلا أن استعراض القوة في كل مناسبة في منطقة تفاريتي وغيرها من المناطق العازلة التي تسميها بروباكاندا البوليساريو ب"المناطق المحررة"، كان جزء من الإستراتيجية التي تعتمدها الجبهة لامتصاص الاحتقان داخل المخيمات، ولخلق اصطفاف داخلي مصطنع غايته إطالة أمد النزاع. على امتداد عقود من الزمن، ظلت الجبهة حبيسة الأطروحة الانفصالية وفق الأسس والمرتكزات الدعائية البائدة، حيث عملت طوال هذه الفترة على إعادة إنتاج المقولات والشعارات نفسها التي ارتبطت بالحرب الباردة؛ إذ رغم سقوط جدار برلين، وبروز تحولات وتغيرات عالمية كبرى، إلا أن نسماتها لم تكن لتصل إلى المخيمات بفعل سطوة الجيش الجزائري. إن عدم انسياق المملكة وراء هذه الاستفزازات ونزوعها إلى ضبط النفس وعدم الانجرار والتسرع في اتخاذ ردود فعل غير مدروسة، وإن كان الأمر يرتبط بوجود مسوغات موضوعية وتكتيكية صرفة، والتجاهل في بعض الأحيان والتركيز على المعالجة الدبلوماسية، ضيع على الجزائر فرصة استدراج المغرب إلى المواجهة المباشرة التي تسعى من خلالها إلى تحقيق مجموعة من المكاسب النفسية والاستراتيجية. لكن عرقلة معبر الكركارات الذي يعتبر شريان المملكة ومنفذها الوحيد تجاه عمقها الإفريقي لما يزيد عن ثلاثة أسابيع، لم يكن مكننا التغاضي عنه، لا سيما وأن انقسام مجلس الأمن وتراجع بعض القوى المؤثرة في الساحة الدولية دفع بخصوم المغرب إلى السعي إلى تغيير معالم المنطقة العازلة، خاصة على مستوى مناطق الكركارات وبئر لحلو وتفاريتي. إن تدخل الجيش الملكي وتأمين الحدود المغربية الموريتانية بشكل كامل، يعتبر فرصة مواتية للمغرب لمراجعة مسار التسوية الأممي ولفرض سيادته كاملة على إقليم لكويرة وإعادة إعماره؛ إذ باتت الاتفاقيات العسكرية متجاوزة ومناقضة للواقع الميداني، رغم تشبث المملكة باتفاقية وقف إطلاق النار، بحسب ما ورد في بلاغ الديوان الملكي الصادر يوم 16 نونبر من هذه السنة إثر المكالمة الهاتفية بين الملك محمد السادس والأمين العام للأمم المتحدة. حاليا وفي ظل الظروف الراهنة، من الواضح أن الجغرافيا السياسية والتحولات الجيوسياسية في صالح المغرب؛ إذ إن الظروف والأوضاع والبيئة التي ساهمت في بروز واستمرار جبهة البوليساريو تغيرت وتختلف كليا في الوقت الراهن، لا سيما وأن الأدبيات والقواعد والمبادئ التي حكمت النظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودخول العالم مرحلة القطبية الأحادية لم تعد قائمة في ظل بروز عالم جديد متعدد الأقطاب وإن كان في طور التشكل. تحولات قانونية وميدانية أفرزها التدخل العسكري المغربي في معبر الكركارات، قد لا تتناسب وتتناقض ولا تنسجم مع اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعها المغرب سنة 1991، مما يستدعي إيجاد بدائل ومقترحات جديدة ومسوغات قانونية ترافعية تراعي هذه التحولات بالشكل الذي يتناسب مع الواقع ويساير تعقيدات الساحة الدولية. كما أن الرباط مقبلة على خوض معركة دبلوماسية وفق أسس ومقاربات جديدة لتثبيت الوضع الميداني على المستوى الدولي والأممي، وهو المكسب الذي يتطلب استنفار جميع الإمكانات والدعامات الدبلوماسية الناعمة والصلبة، قبل أن تجد المملكة نفسها في مواجهة مجلس الأمن على غرار ما وقع سنة 2017 عندما اضطرت لسحب الجنود من الكركارات، مع العلم أنه من السابق لأوانه جس نبض الإدارة الأمريكيةالجديدة قبل شهرين على تسلم جو بايدن مفاتيح البيت الأبيض. وبالحديث عن التحولات الراهنة وعلاقتها بالتوازنات الدولية، يبدو أن ملف الصحراء المغربية يتجه نحو مسارات جديدة يمكن قراءتها من خلال ثلاثة سيناريوهات: الأول، استمرار وضعية الستاتيكو؛ إذ ستعمل جبهة البوليساريو على محاولة ترميم صورتها التي اهتزت من خلال الاستمرار في توجيه رشاشاتها بشكل عشوائي من نقط بعيدة تجاه الجدار الدفاعي، وذلك بغية احتواء الغضب وحالة الاحتقان، لا سيما وأن ما كانت تمسيها "ثغرة الكركرات" ارتدت عليها وخسرتها بشكل نهائي، لذلك من غير المستبعد أن تستمر في توجهها العدائي المؤطر وفق سقف محدد لا يتجاوز قواعد الاشتباك المليئة بالتهويل الإعلامي أكثر من التصعيد الميداني إلى أن يعين مبعوث أممي جديد. المغرب بدوره من المحتمل أن ينخرط في هذه "المسرحية" إن كانت لن تغير ولن تمس الواقع الميداني الجديد، على اعتبار أن تعيين مبعوث وعودة الطاولة الرباعية لن يساهم إلا في إعادة النزاع إلى نقطة الصفر، وهوما يخدم مصالح المملكة. السيناريو الثاني، استثمار الزخم الدبلوماسي والدعم العربي والدولي من طرف المغرب للدفع في اتجاه إعادة النظر في مخطط التسوية السياسية وفق قواعد وأسس جديدة، سواء من خلال إنهاء مهام المينورسو أو إعادة رسم وتحديد مهامها بعدما ثبت فشلها ومحدودية دورها في مراقبة إطلاق النار. وما يستدعي إعادة النظر كذلك في وظائفها هو استحالة إجراء استفتاء، وهو الدور المحوري الذي أنشئت لأجله سنة 1991. الثالث، سيناريو الحرب وإن كان مستبعدا، لكنه يظل خيارا قائما، خاصة في ظل صمت القوى الكبرى وما يرتبط به من فوضى عالمية غير معلنة تشكل مخاض بروز نظام عالمي جديد، حيث إذا ما أصرت قيادة الجيش الجزائري على الدفع بمليشيات البوليساريو إلى التصعيد واستعمال أسلحة ثقيلة وفتح جبهات عدائية على طول الجدار الدفاعي، فالمغرب قد يكون مضطرا لاعتماد تكتيكات ميدانية برية وجوية متقدمة تتجاوز الجدار، مما قد يؤدي إلى وقوع تصادم واشتباك مع القوات الجزائرية. هذا السيناريو رغم تكلفته الإنسانية والاقتصادية، من شأنه أن يعطل مسار التنمية في المنطقة المغاربية ويدخل المنطقة إلى المجهول. *أستاذ العلوم السياسية-جامعة شعيب الدكالي