وأنا ألج "المدينة" أجد نفسي غير ما مرّة أحس بالاغتراب وعدم الأمان في مواقف كثيرة، هنا في "المدينة" جلّ السلوكات مباحة مهما بدت للوافدين الجدد مثلي رعناء هوجاء، هنا في "المدينة" لا معنى لكثير من القيم التي طالما اعتقدت أننا نشترك فيها جميعا، هنا في "المدينة" لا جدوى من الضمير الجمعي الذي تعدمه الفردانية لحظة لحظة. لا أريد أن أكون سوداويا متشائما في رؤيتي لكن بشاعة الصور وشناعتها تشفع لي في أحكامي. لاشك في أن لكل مجتمع خصائصه الاجتماعية والنفسية والحضارية، وهنا يتوجب الوقوف على مفهوم المجتمع لتفسير البون الشاسع بين طباع "البدويين" و"المدينيين"، وقبل ذلك، وجب التنبيه إلى أن المقصود هنا بالبداوة، ليس مجتمعات عدم الاستقرار والتنقل سعياً وراء الماء والشعب والصيد العشوائي كما قد يفهم، بل فقط نمط الحياة المجتمعية الذي نجده يسود بوجه خاص خارج الحواضر. يرى "Robert Maclever" ومعه "Charles Page" أن "أي مجتمع يتكون من من تجمعات وأقسام عديدة من ضوابط السلوك الانساني والحريات، وهو نسق من العادات والإجراءات والسلطة والمعونة المتبادلة"، في حين يرى " Maurice Ginsberg " أن كلمة مجتمع تعني "مجموعة من الأفراد تربطهم أو تجمعهم صلات معينة أو طرق من سلوك تميزهم عن أفراد آخرين لا تشملهم أو تربطهم هذه الصلات أو يختلفون عنهم في السلوك". ومن خلال هذين التعريفين قد أزعم أننا أمام مجتمع "بدوي" وآخر "مديني" يتقاطعان في عدد كبير من الضوابط والمواقف والسلوكات وإن كانا يشتركان في المجال والتاريخ، فإذا كانت عقلية إنسان الحواضرتتسم بسموّ المصلحة الشخصية في كلّ المواقف، وتغليب المقاربة الفردانية "individualiste" على كلّ الاختيارات، فإن نمط الحياة المجتمعية البدوية لايزال يحتفظ بالحياة التقليدية التي تتأسس على البساطة وعدم التعقيد، حياة تقدّر العلاقات وتحترم النظم الاجتماعية والأدوار ويسود فيها الضمير الجمعي، صمّام أمان القيم والسلوك المدني والمسؤولية المشتركة. وهنا أجد نفسي أمام خيارين اثنين، خيار عقلية "البداوة" بما تكفله من التفكير الجماعي والتدبير التشاركي والغنى القيمي وكل مظاهر المروءة، ثم خيار عقلية "التمدن" حتى لا نقول الحضارة وما يرافقها من إعدام للقيم والمبادئ والفطرة السليمة في المواقف والأحكام وكل أشكال التلوّن والتطبّع. ولا أعتقد أن الاختيار بين العقليتين يحتاج إلى طول تفكير، فبداوتي أفضل بكثير من "حضارة" مفترى عليها، وسأقول أنني البدوي وأفتخر. لايسعني إلا أن أشكر أمي التي علمتني أن أكون عفويا بسيطا ولو أني اكتفشت أن العفوية والبساطة أقرب إلى الكراهة من الاستحباب في مجتمع المظاهر والخلفيات، أشكرها لأنها ربّتني على استحضار الآخر في كل حساباتي ولو أني وجدت نفسي مع قوم "متوحشين" – بمنطق ابن خلدون- لا يقيمون وزنا لأحد ولا يهتمون إلا بذواتهم، أشكرها لأنها أكسبتني الحس النقدي ولو أنه أصبح عملة غير معمول بها في زمن "الصمت حكمة"، وأشكرها أخيرا لأنها علمتني الأمانة والمروءة، ولو أن خيانة الذات في تربيتها وثقافتها وفطرتها السليمة أضحت "مفتاح السلم". إن السوسيولوجيين -المغاربة بالخصوص- مدعوون إلى النبش في مختلف القوانين التي تحكم السلوك "البدوي" من خلال رصد السلوكات والمواقف في المجتمعات البدوية، وذلك قصد استثمار الصالح واعتماده في مؤسسات التنشئة.