تعد التحديات التي تقف في وجه أي نظام لصنع السياسات هائلة، ففي عالمنا الحديث تعتبر القضايا المرتبطة بالسياسات معقدة، وتتحول الأحزاب السياسية في مختلف أنحاء العالم، أكثر فأكثر، من أجل صياغة السياسات، في حين تتنوع الخيارات التي تتيح للأحزاب السياسية معالجة مسألة صياغة السياسات ضمن قوانينها الرسمية، وهي تتخذ غالبا شكل نظام داخلي أو أساسي للحزب. من هذا المنطلق، تميل الأنظمة الحزبية إلى انتهاج مقاربة تساهم في عملية صياغة السياسات. فكيف يبدو المشهد السياسي الأمريكي؟ وهل بايدن مكان ترامب سيغير وجه الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ في الولاياتالمتحدةالأمريكية، الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري هما القوتان الرئيسيتان اللتان طبعتا الحياة السياسية للبلاد منذ القرن التاسع عشر، وما يثير الاهتمام هو أن الرؤساء الديمقراطيين والجمهوريين يتناوبون باستمرار على رئاسة البلد، ما يبرز أن المجتمع الأمريكي منقسم حول القضايا الرئيسية. باستثناء الجمهوري والديمقراطي يمكن القول بغياب أحزاب أخرى عن المشهد السياسي الأمريكي، أو يكاد، رغم أن حكم الحزبين في الولاياتالمتحدة غير مؤسس له في الدستور... فالديمقراطيون والجمهوريون أكبر حزبين في التاريخ يحتفظان بأغلبية المقاعد في مجلس الشيوخ ومجلس النواب. رغم بروز على الساحة أحزاب صغيرة، تمثل أيديولوجيا أو مطالب أو أقليات معينة، حتى نشأ في العرف السياسي الأمريكي مصطلح الأحزاب الثالثة. وتتضح أهداف وتوجهات كل حزب، من خلال قيام الحزب الديمقراطي والجمهوري، كل على حدة، بالمصادقة على برنامج سياسي كل أربع سنوات. وجهات النظر والمواقف تختلف حول مختلف القضايا، بما في ذلك الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية... يتبنى الحزب الديمقراطي الخط الليبرالي داخليا، فهو حزب يساري ليبرالي وعادة ما يرتبط بالتقدمية والمساواة، واحتضن الحزب على مر التاريخ تيارا معارضا للتجارة الحرة. كما يؤمن الديمقراطيون برفع الضرائب على الطبقة العليا وخفضها على الطبقة الدنيا والوسطى، للسماح للحكومة بزيادة الإنفاق على البرامج الاجتماعية لهذه الطبقات. ويعتقد الديمقراطيون أنه يجب أن يكون للحكومة دور قوي في مساعدة ودعم الأمريكيين. كما يدعمون الرعاية الصحية العامة للجميع وهم أكثر تفضيلا لسياسات الهجرة المفتوحة. يؤيد الديمقراطيون زيادة السيطرة على السلاح وأنه يجب الحفاظ على حق استخدام الأسلحة النارية وعلى صعيد الانتماءات الدينية المسيحية للأحزاب، فإن الكاثوليك يميلون بشكل أكبر إلى الحزب الديمقراطي، كما هو الشأن بالنسبة إلى الناخبين ذوي البشرة السوداء يميلون إلى الحزب الديمقراطي، ويتوافقون بشكل كبير على مبادئه. بايدن، سيكون الرئيس الكاثوليكي الثاني فقط في تاريخ الولاياتالمتحدة بعد جون كينيدي ما يعكس خشية النخبة السياسية الأمريكية من تدخل الفاتيكان بالشؤون الداخلية لبلادهم، عكس ترامب الذي يحظى بشعبية كبيرة وسط الإنجيليين المتجددين. أما الحزب الجمهوري فهو يميل نحو اليمين والتقليد ويرتبط بالعدالة والحرية الاقتصادية ويمثل البقاء للأصلح، يتبنى سياسات محافظة تميل إلى اليمين، ويركز على خدمة مصالح السوق والأعمال... ويربط خطابه بين المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والدين. يؤمن الجمهوريون بالمساواة في الضرائب ويعارضون رفع الحد الأدنى للأجور وقوانين مراقبة الأسلحة والتحكم فيها، كما يعتقدون أنه يجب أن تتحمل الحكومة مسؤوليات أقل، ويؤيدون فرض رقابة أشد على الهجرة، كما يدعم الجمهوريون أيضا أنظمة الرعاية الصحية الخاصة. وعلى الرغم من أن السياسة الأمريكية تقوم على مبدأ الفصل التام بين الكنيسة والدولة، إلا أن تأثير المتدينين واضح في اختيار الرؤساء. والصراع بين الحزبين بمثابة حرب ثقافية يعتمد فيها الحزب الجمهوري على خاصية محورية واستراتيجية تقوم على وصم الأفكار والأعراف الليبرالية بأنها مضللة ولا أخلاقية، باستخدام كافة الوسائل. إن الانقسام الديني والثقافي يتسع بين الناخبين الديمقراطيين والجمهوريين، وسط مزيد من الاستقطاب الحزبي والتوترات المجتمعية بحيث تتداخل الأمور الدينية والسياسية في البلاد إلى حد كبير في ما يخص التصويت لبعض القضايا ذات الطابع الجدلي. إن فترة حكم أوباما الأولى تشهد على زوال الاختلافات الجوهرية بين الحزبين، بحيث كشفت سياسات أوباما المحافظة على أنه لا يختلف عن الجمهوريين فقد كان الدافع السياسي الرئيسي لأوباما حماية الوضع القائم والحفاظ على المؤسسات القائمة. ليس لكل الديمقراطيين نفس الأفكار وليس لكل الجمهوريين نفس المعتقدات التقليدية للحزب. وعلى الرغم من أن الاقتصاد والرعاية الصحية والتقاعد عوامل رئيسة للتصويت الانتخابي، فإن قضايا مثل الإجهاض والمثلية الجنسية تشكل عوامل أخرى مهمة، بالإضافة إلى القضايا التي تتعلق بالعقيدة الدينية بالأساس كما أن ومن جهة أخرى فإن العلاقة بين السياسة والمال والدين وسلطة الإعلام وصناعة الرأي العام هي التي تروج للحزبين الرئيسيين وربما هي التي تمثل الفارق وتفضل هذا الحزب عن الآخر. بايدن سيصبح الرئيس الأكبر سنا في تاريخ الولاياتالمتحدة خبير في السياسة الخارجية وصاحب عقود من الخبرة وابن مؤسسة الحكم في واشنطن، لكن هل سيغير المعادلات الأمريكية التي سبق لترامب أن قلبها في مجال السياسة الخارجية الأمريكية والمرتبطة بالصين وأوروبا وإيران وسوريا والشرق الأوسط، وأيضا التجارة العالمية والمناخ والبيئة؟ وهل سيستعيد الإعلام الأمريكي بعد الانتخابات مكانته وتعدديته ودوره؟ وهل ستتجاوز البلاد آثار كورونا الاقتصادية وتغير التعامل مع كافة القضايا المرتبطة بالتجارة وتحسين الأداء الاقتصادي؟ وكيف سيكون التعاون الأمريكي الأوروبي؟ عموما هل سيتحول السلوك الأمريكي داخليا وخارجيا ممثلا في الرئيس؟ أم أن الدور الأمريكي سيعرف مزيدا من التراجع؟ *باحث مختص في التواصل السياسي