كأننا رهائن عالقون وسط خيوط بيتٍ لا مرئيٍّ لعنكبوتٍ خرافي. كأننا أسرى حربٍ صامتة. هكذا نحسّ اليوم مع هذا الوباء الغامض. وهكذا نعيش يوميات حجر مديد لا يريد أن ينتهي. وأزعم أن قلّة فقط عاشت الحَجْر الكوروني بالانضباط الذي عشتُه به. كان حَجْرًا شاقًّا أشبه بحِمْية طبية قاسية. فمنذ عودتي من معرض الكتاب ببروكسل، في الأسبوع الثاني من شهر مارس المنصرم، وأنا مُعتكِف في مراكش لا أبرحها. كان لديّ مشروع سردي مؤجَّل عكفت عليه. كما كانت أمامي خزانة مزدحمة من الأعمال الأدبية والفكرية الرفيعة حديثة الصّدور لم أجد الوقت حتى لتصفُّحِها خلال السنتين الأخيرتين وأنا شبه منغلق على قراءاتي المُوجَّهة لزوم الإعداد، ثم وأنا في لهاثي الاعتيادي بين مراكشوالقاهرة، بين العواصم والمطارات. هذا دون الحديث عن الكلاسيكيات الأساسية. من ذلك مثلا أنني قرأت "دون كيخوتِ دِي لامانتشا" كاملة من الغلاف إلى الغلاف. كنتُ على الدوام أحسّ بالخجل والتقصير، فالانتماء إلى عالم الأدب والاجتراء على فنّ الرواية لا يستقيمان لمن لم يقرأ تحفة سِرفاتنِس العجيبة. قرأت مترجمات أخرى عديدة في الشعر والرواية. عدت إلى أدونيس وعبد اللطيف اللعبي وآخرين، أعدت قراءتهم بمزاج صافٍ هذه المرّة، وخارج حسابات التّحضير لندوة أو لتصوير. رُبَّ ضارةٍ نافعة، إذن. وحينما استتبَّ الصيف بمراكش، حارًّا كالعادة، لم أجرّب الانفلات لا هنا ولا هناك. اعتبرتُ صبري على قيظ المدينة سلوكًا مُواطِنًا. سافر الأصدقاء تباعًا. والأهل سافروا. وأنا في الحمراء لم أبرحها. كأنّي لستُ العابر.. لست صاحب "دفتر العابر".. ولستُ القائلَ مع المتنبي: "ذَراني وَالفَلاةَ بلا دَليلٍ / ووجهي والهجيرَ بلا لِثام / فإنِّي أستريحُ بِذي وهذا / وَأتعَبُ بالإنَاخَةِ والمُقامِ". انتظرت حتى نهاية أكتوبر، لأحسّ بأن المقام في مدينةٍ حمراءَ لا بحر فيها قد نال مني ولم أعد قادرًا على احتمال البُعد عن الزُّرقة. كيف يمكن للمرء أن يعيش سنة كاملة بدون موجٍ يصطخب أمامه وهديرٍ يدغدغ سمعه ونوارسَ تحلّق فوقه؟ لكننا في نهاية أكتوبر. ونونبر الرّمادي على الأبواب. لا حلّ إلّا أكادير. تذكّرتُ إعلانًا قديمًا صادَفْتُه مرّةً في قلب مطار هيثرو يحرّض على أكادير. شمسٌ ساطعةٌ طوال 300 يوم على مدار السنة. الشاطئ الملكي الممتدّ على ضفة المحيط الأطلسي على امتداد كيلومترات. هناك حيث يمكنك السباحة شتاءً. حسنًا، ما زلنا في عزّ الخريف. والإعلان القديم الذي صادفته قبل عقد في مطار هيثرو يلحُّ عليّ بقوة وكأنني تلقيته بالأمس فقط، فحسمتُ أمري. تركتُ مراكش تعيش انتعاشة سياحية صغيرة بسبب العطلة، فوجدت الانتعاشة ذاتها تدبُّ في أوصال أكادير؛ لكنني كنت سيّء الحظ. فالفندق الذي استدرجتني إليه "بوكينغ" كان بلا استقبالات. الكونتوار خاوٍ على عروشه. شرح لي بوّاب الفندق أن ولوج الزّبناء الجدد لا يتمّ قبل الرابعة. لا بأس. فلأنتظر في باحة الاستقبال إذن. كان الزبناء يتوافدون فرادى وزُمرًا ويتوزّعون على ردهات استقبالات الفندق، فيما الكونتوار مهجورٌ إلى أن دقّت الرابعة. الرابعة بالضبط. حينها فقط هلّ هلال موظف الاستقبال. اصطفّ الزبناء في طابور، وبدأ الرجل يشتغل على أقلّ من مهله. كان يشتغل بضجر موظف حكومي يكابد وظيفة روتينية لا راتبُها يكفي ولا البقشيش فيها مُتاح. بعد نصف ساعة تقريبًا، التحق به زميل له. استبشرنا خيرًا. هكذا، صارت الأمور أفضل قليلا. سألت موظف الاستقبال حين حلَّ دوري، بعد أكثر من نصف ساعة في الطابور، على سبيل الفضول: "أما كان أجدر لو شرَّفتُم قبل الرابعة؟ هناك زبناء كانوا موجودين منذ الثالثة وقبلها؟ كان أفضل لو خدمتموهم بأريحية ولينتظروا الرابعة إذا كان موعد ولوج الغرف لديكم مُقدَّسا. على الأقل كي لا نجد أنفسنا في مثل هذا الطابور الغريب. وإلا، فما دام المغادرون مطالبين بإخلاء الغرف في منتصف النهار، فالمؤكد أن بعض الغرف المُخْلاة كانت جاهزة على الواحدة وربما الثانية بعد الظهر أو الثالثة. وكان بالإمكان أن توفِّرُوا لبعض الزبناء غرفهم قبل الموعد. سيكون كرمًا محمودًا منكم وأنتم في النهاية لا تبيعون سوى كرم الضّيافة ولطف الاستقبال. هذه مهنتكم فيما أتصوّر؛ لكن موظف الاستقبال كان منشغلًا بي عنّي، مستغرقًا في "خدمتي" في صمت متجهِّم. لا وقت لديه يضيِّعه في الكلام الفارغ. الظاهر أنني في "كومونة"، قلت في نفسي، إدارتها صارمة والقبضة فيها حديدية. لذا التزمتُ الصمت. وأخيرًا، استلمتُ غرفتي، بعد الخامسة بقليل. فاتني وقت البحر. عليَّ بالمسبح إذن. على الأقل لأزيل عنّي في حوضه بعض وعثاء السفر؛ لكنني اكتشفت أنّ المسبح مزدحمٌ بالأطفال، وشرطُ التَّباعد غير متوفر. انتبَذْتُ مكانا في أقصى المسبح على اليمين وواصلت قراءتي في رواية "هوليود" لشارل بوكوفسكي. إنما في لحظة أثارني شخص غريب خرج من بلكونة غرفته في الطابق الأرضي وتوجّه بخطى ثابتة باتجاه الحوض. وقف أمامه وبدأ يرغي ويزبد، كأنّه يتوعّد الماء. كان يرتدي "كيلوطًا" بيتيًّا حميمًا من النوع الذي لا يصلح للسباحة أو للاستعراض. كان يرتدي "الكيلوط" إلى مستوى مرتفع يكاد يعلو سُرّته. ثم في لحظة هجم على الماء. ارتمى وسط الحوض بضراوةٍ أخافت الأطفال الذين كانوا يسبحون بجواره. توجّستُ أنا الآخر، فغادرتُ المكان. في الصباح، كان الفطور على نغمات موسيقى شعبية. أغاني أعراس راقصة وصاخبة للغاية. كأنَّ الله لم يخلق لنا فيروز بأغانيها التي تفتح الشهية للحياة. كأنه لم يُنعِم علينا بباقة كاملة من أغاني الصباح. تذكرت أغاني الصباح التي كانت الإذاعة الوطنية تنتقيها بعناية أيام طفولتنا الأولى. تشبّعنا بها ونحن نتناول إفطارنا الصباحي ونحضّر محافظنا الجلدية الصغيرة ثم وهي تصاحبنا منطلقة من راديوهات أصحاب المحلات ونحن في طريقنا إلى المدرسة. هنا الرباط. إذاعة المملكة المغربية. كانت إذاعة يتيمة؛ لكنها عرفت كيف تصنع وجداننا. سقى الله تلك الأيام. أفطَرتُ على عجل، فيما مغني الأعراس المشهور يجلجل وكأننا في ملهى ليلي وليس في فطور صباحي بفندق كنت أتصوّره محترمًا. فإذا به لا يحترم حتى الشروط الاحترازية الخاصّة بكورونا، باستثناء شرط الكمامات التي يضعها العاملون على وجوههم. ومن فرط تجهُّمهم يعطونك الإحساس بأنك تخاطب روبوهات. طردتني موسيقى الأعراس من المطعم. قلت: هي فرصتي لكي أغادر إلى البحر. سألت موظفة الاستقبال عن موقع شاطئهم الخاص، خصوصا أن هذا الفندق ليس على البحر مباشرة. فأجابتني: لست متأكدة من أنّ شاطئنا مفتوح أصلا. غير ممكن، أنا هنا أساسًا من أجل الشاطئ. ولم أحجز عبر "بوكينغ" إلا بعدما تأكّدتُ من هذا التفصيل. وإلا، فأخشى أننا إزاء إعلان إشهاري كاذب. ردّت منزعجة: - عموما ارتح في ردهة الاستقبال. بعد قليل، سيأتي المسؤول وأسأله. استغرقتُ في القراءة حتى العاشرة. هل جاء المسؤول؟ ليس بعد. وقفت مبهوتًا لا أعرف كيف أواصل الحوار مع السيدة. أوّلًا، ما معنى ألّا تعرف موظفة الاستقبال ما إذا كان لديهم شاطئ جاهز لاستقبال الزّبناء أم لا؟ وإذا لم أسألها هي عن مثل هذه التفاصيل، فمن أسأل: طائر العقعق؟ ثم ما معنى أن تجعلك تنتظر أكثر من نصف ساعة؛ لأنها لا تستطيع التواصل المباشر عبر الهاتف أو الواتساب مع المسؤول الغائب، الذي لن يشرِّف على ما يبدو قبل منتصف النهار؟ وكلّ هذا من أجل الإجابة عن سؤال بسيط يكاد يكون بدهيًا. فلأغيِّر الفندق إذن. الحالة ميؤوس منها على ما يبدو. غادرت الفندق لا لشيء إلا لأعود إلى أكادير. لأستعيدها. أكادير التي أعرف. والتي أحب. تذكَّرت كنزة بوعافية، الإعلامية والناشطة الجمعوية. سفيرة مراكش في أكادير. تشتغل كنزة في مؤسسة إعلامية شهيرة في أكادير وترأس أهم نادٍ للقراءة بعاصمة سوس. سبق أن دعتني مرّةً إلى نشاط منذور لتشجيع مرتادي الشاطئ على القراءة ومصاحبة الكتاب. مع كنزة، وبعد استشارة صديقنا رشيد دهماز الفاعل السياحي بأكادير، تمَّ توجيهي إلى فندق أطلس أماديل بيتش. كانت استشارةً من ذهب". "مرحبًا بك في أكادير"، هكذا خاطَبْتُ نفسي منذ موقف السيارات الفسيح أمام الفندق. "الآن أنت في أكادير. كأنّك للتّو وصلت". الفندق فخم وبسيط في الآن ذاته. بالغ النظافة. والأهم أنه يوفّر وصولًا مباشرًا إلى رمل الشاطئ. الشاطئ مبذول أمامي من شرفتي بالطابق الرابع. والشاطئ الخاصُّ بالفندق محروسٌ مُرتّبٌ حسنُ التجهيز. ولجتُ الغرفة، ففاجأني أنّ الفندق يخصِّص لضيوفه كمامتين وعلبة تعقيم. مع أن أجهزة التعقيم مُثبتةٌ بأهم مواقع الفندق: عند المدخل، أمام المطعم، ثم في كل طابق أمام الردهات المقابلة لأبواب المصاعد. حالة الاحتراز قائمة، بقدر ما تذكّرك بأن الوباء ما زال يتربَّص بنا بقدر ما تزرع في نفسك الطمأنينة. كلّ الموظفين هنا بالكمامات تماما كما في الفندق السابق. فقط هنا يسمحون لأعينهم بأن تشرق في وجهك بالابتسام. وهكذا، يمكنك أن ترتدي الكمامة دون أن تتحوّل إلى روبوت. قالت لي كنزة بعدما أطريتُ فندقي الجديد: يمكنك أن تكتب سيناريو فيلم عن الفندق الأول، فابتسمت. أنا أصلا أقرأ رواية "هوليود" التي كتبها بوكوفسكي إثر التجربة التي عاشها في هوليود مع صديقه المخرج الفرنسي باربت شرودر حينما كتب له سيناريو فيلمه "زبون البار". في الرواية، فضح بوكوفسكي فساد هوليود وزيف نجومها، ونشر غسيلها من الداخل. أما روايتي أنا فلا تصلح حتى لسيتكوم؛ لأنّ السيتكومات تحتاج مواقف كوميدية وشخصيات مرحة، وليس روبوهات جامدة بوجوه متجهمة كمستخدمي ذاك الفندق الغريب. إنّما، اِنسَ الأمر، قلت في نفسي. صباح الخير، أكادير. وخرجت إلى البحر. إنها السابعة صباحًا. الحركة نشيطة على الشاطئ. رياضيون يتحرّكون زُمرًا وفُرادى. مقابلات صغيرة في كرة القدم. عشّاق المشي الصباحي على الكورنيش. الكثير من النساء، من مختلف الأعمار. صبايا وعجائز. بالحجاب أو باللباس الرياضي القصير. ثم هناك النوارس. أحدهم ترك كلبه يلهو على الشاطئ، فبدأ هذا الأخير يطارد سرب نوارس بجنون. كانت النوارس تحلق أبعد قليلا ثم تحطّ، فيركض باتجاهها وهو ينبح. تبتعد قليلا ثم تحطّ. والكلب يكاد يُجنّ. فيما النوارس كأنما تتسلّى باستثارته. ركضتُ قليلا باتجاه نهاية الكورنيش. كان نورس فريد يحطُّ على جسمٍ ما. دنَوْتُ منه فحلّق بعيدًا. إنها سمكة كبايلا ضخمة فاجأني حجمُها. لم يسبق لي أن رأيت كبايلا بهذا الحجم. كبايلا التي أعرف تبقى أشبه ما يكون بالسردين، حتى أننا في طفولتنا كنا نجد صعوبة في التمييز بين السمكتين. لولا لون كبايلا الأميل إلى الخضرة وحجمها الأضخم قليلا. لا أعرف من أين جئنا لسمكة الإسقمري بهذا الاسم الغريب: كبايلا؟ عمومًا نحن بارعون في الابتعاد عن الشرق فيما يتعلق بالتَّسميات. وإلا فما معنى "طيبيبت"؟ كيف أطلقنا على الدُّورِيّ، طائر مراكش الأثير، اسم طيبيبت؟ هل هو اسم أمازيغي؟ حتى زهرة القطيفة المخملية هي في لغة المغاربة غنباز. حتى أنني يمكن أن أقرأ عن القطيفة هنا وهناك، فلا أستشعر شيئا ذا بال؛ لكن يكفي أن أقرأ كلمة غنباز لتنتعش روحي بالرائحة النفّاذة لهذه الزهرة ذات الملمس المخملي. ياه يا كبايلا. عدت بذاكرتي إلى الصويرة. زمن الطفولة. حينما كنا نذهب إلى الميناء من أجل السردين. وكانت سلال السردين في الميناء المبذولة بأسعار زهيدة مخلوطة بكبايلا دائما. كنا نحرص على فرز الكبايلات المتسلِّلة إلى سلة السردين، والتّلويح بها للنوارس؛ لكنّ نورسة أكادير فحصت السمكة جيدا ثم حلقت بعيدا. هل عافَتْها، كما كنا نعَافُها زمن الطفولة؟ في أكادير، كان طعامي سمكًا. سواء كان المطعم راقيا أم شعبيا، تحسُّ نفسك بين أيدٍ آمنة. سواء طلبت سردينًا مشويًّا مع سلطة البصل والطماطم، أم فيليه سلمون متبَّلا بالثوم والكزبرة والزنجبيل مع شرمولة مبتكرة، فلَذّة الطبق مضمونة. لا علاقة لذلك بالسعر، أو بنوعية المطعم أو بدرجته السياحية؛ بل أحيانًا تُفاجَأ بأنّ أطباق الصيادين الرّخيصة وطواجين السمك في المطاعم الشعبية ألذّ وأشهى. قصدتُ مطعم سمك جميلًا في منتجع تغازوت للغداء، وكان المطعم يُشرف على البحر من عَلٍ. أسرني المنظر، فاعتصمت بمجلسي هناك منتظرًا الغروب. سأبقى هنا للعشاء أيضًا، بادرتُ النادل الدّمث. سأصِلُ الغداء بالعشاء، فما رأيك؟ غروب أغادير ساحر. حين داهمني أول يوم وأنا على الشاطئ، أحسستُ كما لو أنه يلفّني لفًّا ويشوِّش حواسي. عبثًا حاولتُ القبض عليه، لولا أنه غروبٌ زئبقي يتسرّب من بين الأصابع كالماء. لعلي أحتاج بعض المسافة لأحيط به وأتمكَّن منه. لأراه وأتنسّمه. لهذا، بعد انتقالي إلى فندق أطلس أماديل بيتش جلست أراقبه من الشرفة بلهفة. كمن يراقب في يوم قارسٍ نارًا تستعر في مدفأة. تخبو بالتدريج. تتلظّى. كان غروبًا متلألئ الألوان. الأصفر يصير أحمر. الأحمر الشّفقي يجلد الأزرق الهادر. والأمواج تجدِّد بياضها. كأنّ بياض المويجات يبلغ سن الحكمة قبيل الغروب. ليصفو تمامًا بعده. الأزرق منهَكًا يتشرّب حُمرة الشفق، فيتمازجان. والبياض الصافي يصير مُشربًا بحُمرة حُلمِيَة. لكن، بعد أن تغادر الشمس وقبل أن ينسحب الضوء تمامًا، تشحب الألوان بالتدريج. تبهت شيئا فشيئا. كأنها ظلال ألوانٍ. النوارس تحلِّق في الأعلى غير آبهة بما يحدث. طائرا العقعق اللذان كانا يلهوان جنب شرفتي في الصبيحة غادرا. أمّا النوارس فلا تغادر. على الأقل ليس بعد. ليس قبل أن تنطفئ الشمس. أعدتُ التحديق في الشاطئ أمامي، فرأيت فيما يرى الحالم الرّمل يحتجّ. لماذا تركتَنِي خارج الإطار؟ فعلا، كانت الألوان الباهتة منعكسة على الرمل الذي تدغدغه غلالة الماء.. الماء رائق المزاج الذي يبقى بعد أن تنسحب المُويجات. أطبقت سحب غادرة على عمق السماء الشّفقي المحيط بالمسرب الذي انسحبت منه الشمس. فصار البحر أخضر بالتّدريج. الرمادي يعانق الأخضر، والألوان تبهتُ، والإحساس بالكآبة يتسرّب إلى الوجدان. عليّ أن أغادر الآن. أتمنّى دائما لو اندلعت الأضواء صاخبة في كل مكان بُعيْد انسحاب الشمس. لا أحتمل لحظة اكتمال مغيب الشمس ونهاية مهرجان الألوان. ثم إن الجوّ صار أكثر برودة، بعدما تحركت ريحٌ لاسعة. عليَّ أن أغلق اللابتوب وأنسحب من الشرفة. حتى الشاطئ سيغلق أبوابه على ما يبدو. شرطي يتجوَّل فوق درّاجة "كواد" نارية بأربع عجلات. كان يطلق صافرته في كل الاتجاهات. أوقف مقابلة في كرة القدم كانت تجري أمام شرفتي. حتى الظلام الذي بدأ يُرخي سدوله لم يوقف "الماتش" المحتدم حتى جاء الشرطي. على الجميع أن يصعد إلى الكورنيش، فشاطئ أكادير ممنوع ليلا.. حتى على العشاق. في الصباح، كان الضباب كثيفا؛ لكنني قررت السّباحة مع ذلك. على الأقل الجو هنا دافئ، على الرغم من الضباب المتكاثف المُطبِق على شاطئ سانتا كروز المغربية. البرتغاليون كانوا يسمّون أكادير سانتا كروز. تذكرتُ سانتا كروز الأمريكية. هناك في كاليفورنيا، حيث يتعارك عجوزان ثريان على إدارة الويلات المتحدة في زمن الوباء. كنت مدعوًا قبل بضع سنوات من لدن رابطة الفنانين الأمريكيين إلى سان فرانسيسكو حيث قضيتُ شهرًا كاملا في إقامة أدبية حين قرر أصدقائي في الإقامة من الأمريكيين تزجية يوم كامل في سانتا كروز. خطّطنا ورتّبنا كل شيء؛ لكن في اليوم الموعود تحالف ضدّنا البرد القارس والضباب. هناك، قفزوا إلى الماء جميعًا، إلّاي. لستُ مجنونًا لأسبح في هذا القرّ، أجبتهم بصرامة. راجعتني فنانة تشكيلية أمريكية بلهجة أكثر تحدّيًا: لكنني لا أتصوّرك مجنونًا لكي تعود إلى إفريقيا دون أن تجرِّب السّباحة مع الدّلافين وكلاب البحر في المحيط الهادي. سيكون مؤسفًا أن تقف على رمل هذا الشاطئ المبهر ولا تغطس في مائه. كانت الدّلافين تتقافز أمامنا، وكلاب البحر أيضا. ووجدت أنّ نانسي - كان اسمها نانسي - على حقّ. لا يمكنني أن أقف على شاطئ سانتا كروز ولا أسبح مع دلافينه. ثم ما بال الجميع يسبحون؟ ما معنى أن أكونَ المتخلِّفَ الوحيد عن عبثهم السَّعيد وسط أمواج الهادي العاتية؟ عدتُ إلى السيارة. خلعت معطفي وقبعتي، ثم ملابسي تباعًا. ارتديت الشّورت وأسرعتُ باتجاههم. قفزت إلى الماء لأودِعَ خوفي ورُهابي أوّل موجة. كانت أسناني تصطكّ من البرد؛ لكنني سبحت في سانتا كروز هناك على المحيط الهادي. حسنًا، لقد جرّبنا الأسوأ. فما المانع من أن أخترق الضباب الكثيف لهذه الصبيحة النوفمبرية الباردة وألقي بجسدي في بحر سانتا كروز المغربية، هنا على الساحل الأطلسي؟ اسبَحْ بأمانٍ إذن، وتحرّك في عاصمة سوس بأمان. فهذه مدينتك. أصولي من الصويرة. آسفيمسقط رأسي ومراكشمسقط القلب؛ لكن أكادير مدينتي أيضًا. فجدّتي لوالدي أمازيغية طيّبة من هنا. سوسية من إداوتانان. كانت جدّة شاعرة، لا تكفُّ عن ترديد الشعر والتغنِّي بكلام الرّوايس. كأني ورثت الشعر عنها. فكيف لا أحسُّ بالأمان وأنا في أرض الجدّة. حينما حلّ وقت العودة، أحسست نفسي كمن سيغادر حلمًا ليعود إلى الكابوس. فتحتُ هاتفي وبدأت أطّلع على أخبار كورونا. الأرقام في تصاعُد مخيف. تجاوزنا عتبة الخمسة آلاف مصاب يوميًّا، وتجاوز عدد الوفيات اليومية السِّتين. تفكيرُ المسؤولين في العودة إلى الحجر صار مُلحًّا. أمّا الضّحايا من المعارف والأصحاب ففي ازدياد: الإعلامي الدَّمِث إدريس أوهاب، المبدع الأنيق محمد المليحي، وأخيرًا الأديب الصحافي المغترب حسن السوسي. يا للهول. تذكرت لقائي الأخير مع حسن السوسي في باريس في بداية مارس المنصرم. في الخامس من مارس فيما أذكر. كانت فرنسا قد بدأت تتفاعل مع كورونا بفزع وارتباك. حللتُ ضيفًا على إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية أقدّم الطبعة الفرنسية لروايتي "هوت ماروك" الصادرة في بداية مارس. فاجأني أنني مددتُ يدي لمصافحة الصحافي الفرنسي، فاعتذر. أزعجني الأمر. حينما التقيت حسن السوسي في إحدى مقاهي الحي اللاتيني استقبلني بالأحضان، شكوت له الصحافي الفرنسي وبدأنا نتحدث عن مُبالغات الفرنسيين؛ لكن الأمر لم يكن مبالغة أيها العزيز. وها هي كورونا تخطفك منّا كما خطفت العديد من الأحبّة. كنت في الأوتوروت. أسوق في سرَحانِ من يحتمي بشروده من الكوابيس، وأسمع عائشة رضوان تصدح بابن الفارض: "شربنا على ذكر الحبيب مدامة / سكرنا بها من قبل أن يُخلَق الكرْمُ". كان لي موعد مع عائشة وزوجها حبيب في القاهرة في "بيت ياسين" لولا أنّ البيت مقفل هذه الأيام. كورونا أوقفت الحياة على رِجْلٍ واحدة. صارت حياتنا أشبه بطائر لقلق. ها نحن خانِسُون نترقّب الذي يأتي ولا يأتي والعالم معنا ينتظر. التفتتُ يمينًا، كان سدّ عبد المومن جافًّا. ماءٌ قليل يلوح في قعره. ماء مقهور منكمش على نفسه. أمّا البحيرة مترامية الأطراف فقد أضحت قاحلة. لا أذكر أين قرأت أنَّ شحّ التساقطات المطرية خلال الثلاث سنوات الأخيرة وتراجُع سيلان الأودية قد نالا من حقينة هذا السدّ. كان المنظر مُحبِطًا. لذا، أدرتُ رأسي يسارًا وحدّقت بعيدًا. هناك على بُعد كيلومترات فقط بتحليق الطائر توجد قرية جدتي. القرية التي لم أزرها قطّ.. القرية التي لم أزرها بعد. ربما أزورها قريبا؛ لكن في عام أكثر خصوبة. في عام ماطر لا وباء فيه. تكاثفت الغيوم فوقي. تمنّيت لو أنها أمطرت. فقط لو أمطرت. لكنّ السحب التي تلبَّدت فوق الأوتوروت ظلت على طول طريق مراكش صامتة خرساء. سلامًا أكادير. سلامًا وإلى لقاء. أكادير في 5 فبراير 2020