عبر معاذ البودعاتي التعثر الدراسي للوصول إلى التدبير المحلي في بلجيكا، مستعينا بدراسة العلوم السياسية والعمل الاجتماعي لتحضر هذه الطفرة البارزة في حياته، بينما عيناه لا تتوقفان عن تحين فرصة مواتية لدفع هذه التجربة إلى أبعد مدى. يصر معاذ على أن إفلاته من دخول مدارس خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة وحيلولة والديه دون مس حظوظه التعليمية بناء على تقارير خاطئة قد سنده وزاد اعتزازه بهويته المغربية، على الرغم من نشأته في بلجيكا، كما أقنعه بعدم الاستعجال في اتخاذ أي قرار. تشتت لغوي عانق معاذ البودعاتي الحياة سنة 1990 في "فيلفورت"، ضواحي العاصمة البلجيكية بروكسيل، وبالضبط في التجمع السكاني "هوتم" المعروف باحتضانه مساكن اجتماعية يستقر فيها عدد كبير من أفراد الجالية المغربية. يقول البودعاتي، المنتمي إلى أسرة مهاجرة من إقليمالحسيمة، إن إقباله على ارتياد المدرسة اتصل بمشاكل منذ البداية، إذ لم يكن قادرا على الإتقان التام للتواصل باللغة الهولندية الرائجة في هذه المنطقة الفلامانية. "وسطي العائلي لم يكن يضبط هذه اللغة أيضا، وبالتالي انعكس المعطى عليّ.. كنا نتكلم الأمازيغية الريفية في المنزل واللغة العربية عند الإقبال على دروس مسجدية، وارتبطت اللغة الفرنسية بالشارع والهولندية بالقسم"، يذكر معاذ. جهل وميز تشتتُ معاذ البودعاتي بين 4 لغات دفعة واحدة، وهو في الربيع ال6 من عمره، أثّر على انطلاقته الدراسية وحال دون مواكبته المحتويات التعليمية بسلاسة؛ بينما مدرسوه لم يكونوا واعين بما يجري وهم يقارنونه بأبناء الفلامانيين الذين يتواصلون بلغة واحدة. "هذا الجهل بالخصوصية دفع الأطر الإدارية والتعليمية إلى اعتباري، بمعية مغاربة آخرين، من المتخلفين ذهنيا.. وبالتالي لم يتم ادخار أي جهد لمحاولة إقناع أسرتي بضرورة إرسالي صوب مدارس مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة"، يستحضر معاذ. ويضيف المتحدث نفسه: "على الرغم من هذه المساعي المؤسسة على ميز واضح فإن والديّ رفضا توجيهي نحو مؤسسات مدرسية ليست لديها آفاق مستقبلية، وقد سانداني في مساري التعليمي حتى أضبط اللغة الهولندية وأتخطى التعثر البدئي". العلوم السياسية أكمل معاذ البودعاتي المرحلة الثانوية وتحصل على الباكالوريا، ثم ولج النسخة الفلامانية من جامعة بروكسيل الحرة خلال طور التعليم العالي؛ مختارا التعاطي مع العلوم القانونية بتركيز شديد على التخصص في العلوم السياسية. اعتبر ذو الأصل المغربي أن الولوج إلى الجامعة يجعله أمام فرصة إضافية لإبراز الذات، مستجمعا كل الجهد للحصول على نقاط جيدة تصنفه بين المتميزين في التحصيل، كما أسس جمعية "ميكسومنيا" التي لا تزال فاعلة في المؤسسة ذاتها. يقول البودعاتي إن توسيع الآفاق دفعه إلى التوجه نحو سويسرا للتعمق في العلوم السياسية، ويشدد على أن هذا التحرك خارج بلجيكا مكنه من تكوين نظري أرقى، زيادة على ضبط ميداني والتعرف على شخصيات دولية والانضمام إلى تشبيكات فاعلة. لمسات في "فيلفورت" بدأ معاذ البودعاتي الاشتغال من خلال توعية الشباب لتجنب الوقوع في مشاكل، والسعي إلى حلحلة بعض الاختلالات التي يرزحون تحتها، ثم حظي بثقة السلطة البلدية لتنفيذ برنامج عمل ميداني خاص بمكافحة التطرف والحيلولة دون تنقل أناس إلى القتال في سوريا. يتذكر الفاعل المغربي ما جرى وقتها بالقول: "ما قمت به حظي بتقييم إيجابي من طرف الحكومة الفلامانية. لذلك، عرض عليّ أن أصيغ برنامجا خاصا بمكافحة المد الأصولي وسط نزلاء المؤسسات السجنية، وقد قبلت هذا التحدي الجديد ونجحت في تحقيق الأهداف". كما يشدد البودعاتي على أن المقاربة التي انتهجها، بدعم وازن من أخصائية سوسيولوجية في مواجهة التشدد، قد أفضت إلى وضع مخطط عمل متكامل جرى تنفيذه في سجون الجهة الفلامانية وجهة بروكسيل، وأثبتت دراسات مساهمته في تراجع متطرفين عن مواقفهم. أحضان السياسة عرفت سنة 2011 شروع معاذ في التفكير في دخول المعترك السياسي ب"فيلفورت"، وإن كانت نشأته في "هوتم" لم تسعفه في هذا النهج سابقا رغم التكوين بالعلوم السياسية، إلا أن عمدة المدينة "هونز بزنته"، حينها، شجعه على الانضمام إلى الحزب الاشتراكي. امتنع البودعاتي عن قبول عرض بالترشح في الانتخابات المحلية، مقررا إرجاء هذه الخطوة حتى حلول عام 2018، ليعمل على تطوير نفسه قبل الالتحاق بلائحة "الاشتراكيين والبيئيين"، ليبرز فرز البطائق الانتخابية حصولها على رابعة أعلى عدد أصوات ب"فيلفورت". يقول الفاعل السياسي عينه: "كانت النتيجة مفاجئة، على الرغم من تموقعي في المرتبة السابعة باللائحة التي ترشحت فيها، ولم يعني ذلك بالنسبة لي سوى ضرورة تقدير الثقة الكبيرة التي وضعها في الناس لأعمل على حل أكبر كمّ من مشاكلهم، والتركيز على السير معا نحو مستقبل أفضل". مهام تدبيرية يكتسب معاذ البودعاتي صفة نائب عمدة مدينة "فيلفورت" حاليا، وترتبط مهامه التدبيرية بقطاعات الشباب والثقافة والتنشيط والرياضة؛ ما يجعله مسؤولا عن وضع التصورات الإستراتيجية المحلية للاشتغال في جميع هذه الميادين بالنجاعة المطلوبة. ويقر المنتمي إلى صف "مغاربة العالم" أن انخراطه في العمل السياسي طيلة عقد من الزمن، ونجاحه في أول محطة انتخابية عام 2018، يشعره بغبطة بالغة ويحفزه لمواجهة العثرات بروح إيجابية، تماما مثلما فعل حين كان محط ميز سلبي في المدرسة الابتدائية. يضيف البودعاتي بهذا الخصوص: "لدي فترة تمثيلية علي أن أستثمرها لإبراز قدراتي الميدانية، وتطبيق ما أومن به من خلال ضبطي للعلوم السياسية .. وفي المستقبل، أبتغي مناصب وطنية على الصعيد البلجيكي، لذلك أناضل في المكتب الوطني لحزبي بلا هوادة". تصيد الفرص لا يتردد معاذ البودعاتي في إعلان حبه للمغرب دوما، مؤكدا أن هذا إرث انتقل إليه من الآباء والأجداد يدفعه إلى قصد الحسيمة ومكناس كلما تمكن من ذلك. وبهذا يحرص على الوجود بين أفراد عائلته المستقرين في منطقة الريف و"العاصمة الإسماعيلية". يرفضُ ممارس السياسة في "فيلفورت" إقبالَ بعض أبناء الجالية على إنكار أصولهم، ويرى أن كل البلجيكيين من أصل مغربي عليهم أن يفخروا بهويتهم المزدوجة حيثما حلوا وارتحلوا، ويعلنوا أن هذا الانتماء يبقى ثراء باعثا على الانخراط في جميع مبادرات التعايش. "الوضع الهوياتي لمغاربة بلجيكا حافز على النجاح، والأجرأة تتطلب التحلي بالإيمان ووصله بالعمل الصادق، وليس عيبا الإقدام على تصيد الفرص المناسبة لإبراز الكفاءة؛ لكن من يحاول القيام بما يتخطى قدراته فإنه يقوم بإضاعة حياته"، يختم معاذ البودعاتي.