تتسلل إلى الكتابة النقدية الأدبية المعاصرة، مفردة اجترح(فعلا ومصدرا) شيئا فشيئا. وقد بدأت تتردد بصورة ملحوظة عند بعض النقاد المعاصرين وأيضا عند مهتمين بحقول معرفية أخرى. ويبدو الأمر مشروعا في استعمال الموارد اللغوية التي توفرها اللغة العربية لمن شاء أن يغرف من بحرها الزاخر بالمترادفات. غير أن ذلك يجب ألا يتم على حساب الحد الأدنى من المقبولية في السياق وفي المعنى المراد. فمن المعلوم أن الألفاظ قبل أن تصبح مصطلحات، تمر من مرحلة إتباث الذات فهي" يمكن أن تعيش ثقافيا في زمان واحد وأن تتنافى و تتبادل الإقصاء، و تحاول أن تتوافق في الآن نفسه مع طبيعة الموضوع و سياق المعرفة الذي تنبثق منه"، و هي تهاجر من حقل إلى آخر على أساس أن هناك قاسما معنويا مشتركا بين هذه الحقول. وإذا" كانت قضية المصطلح ذات مكانة خاصة في النقد باعتبار المصطلح هو الذي يسمي المفهوم و يدل عليه دلالة مباشرة وباقتصاد عندما يحظى بالقبول والتواطؤ، ومن ثم لا جدوى من مناقشة المصطلح إذا لم يكن مرتبطا بالمفهوم وإلا استحال إلى مسألة لغوية محض ليس لها أهمية في النقد"، فإننا نعتقد أن بعض الكتاب لا يقصد من وراء استعمال مفردة "اجترح" البلوغ بها إلى أن تصير مصطلحا،(على غرار ما وقع لمفردة "الجرح" التي نقلت بمعناها (كما ورد في مقاييس اللغة مثلا) إلى المجال الفقهي فأصبحت مصطلحا مجاورا لمصطلح التعديل: الجرح والتعديل) رغم أن أكثرالمراجع التي وردت فيها(مفردة اجترح) تنتمي إلى حقل الدراسات الثقافية بصفة عامة. و إذا كان النقد، كما تم الأشارة إلى ذلك أعلاه، لا يهتم بمناقشة المصطلح إذا تم الاتفاق عليه بالعرف المعرفي الواحد، فإن مسألة الاستعمال اللغوي للمفردات في النقد تبقى مع ذلك ذات أهمية بالغة. لأن مجال الأدب يهتم بالمبنى والمعنى على قدم المساواة. وسأبدأ بتحديد الجانب الصرفي والمعجمي للكلمة: اجترح: على وزن افتعل من المجرد ج.ر.ح. والهمزة والتاء الزائدتان تدلان على المطاوعة كما هو معلوم. في مقاييس اللغة لابن فارس: جرح: الجيم والراء و الحاء أصلان: أحدهما الكسب والثاني شق الجلد. فالأول قولهم: اجترح إذا عمل و كسب، قال الله عز وجل:﴿أم حسب الذين اجترحوا السيئات﴾ الجاثية 21. وإنما سمي ذلك اجتراحا لأنه عمل بالجوارح وهي الأعضاء الكواسب. والجوارح من الطير والسباع: ذوات الصيد. و أما الآخر فقولهم جرحه بحديدة جرحا والاسم الجرح، ويقال جرح الشاهد إذا رد قوله. وفي لسان العرب(فصل الحاء وباب الجيم): جرح الشيء واجترحه: كسبه. وفي التنزيل: ﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار﴾ الأنعام 60...وفلان يجرح لعياله ويجترح ويقرش ويقترش بمعنى. وفي التنزيل: ﴿أم حسب الذين يجترحون السئيات﴾، أي اكتسبوها. وفلان جارح أهله وجارحتهم أي كاسبهم...قال الأزهري: سميت بذلك لأنها كواسب أنفسها من قولك جرح واجترح. فمعنى: اجترح اجتراحا، إذن لا يخرج عن دائرة الكسب والاكتساب ودائرة شق الجلد ورد القول بالنسبة ل:جرح. فهل تم استعمالها بهذا المعنى في الأمثلة التي سندرج الآن؟: نجد في كتاب: "دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي" لمؤلفه سمير الخليل فقرتين تشيران إلى المفردة:" تبنى النقد الثقافي والدراسات الثقافية مصطلحات كثيرة اجتلبها من حقول مجاورة واجترحا عددا منها في انطلاقتهما الحداثية في التعامل مع الخطابات بشتى أنماطها تجاوزا لمفهوم النص الادبي المحدود" ص4. ثم قوله في الثانية: "من البديهي القول إن إشكالية المصطلح المعاصر تعد من الأولويات التي شغلت و تشغل الدارسين في هذا الشأن ولاسيما حينما تتعدد ترجمات المصطلح الواحد، ولا يخفى على أحد ولاسيما المتتبع، أن اجتراح المصطلح وتحديده يتعرض لكثير من المتغيرات التي من شأنها أن تسهم بشكل أو بآخر في عملية التحديد واستقرار المفاهيم" ص6. ونجد المفردة أيضا عند يوسف محمود عليمات في كتابه:النقد النسقي (ص9) كالآتي:" يأتي اجتراحنا لمصطلح النقد النسقي في سياق طروحات فاعلة في الخطاب النقدي المعاصر من قبيل النقد الحضاري والنقد المعرفي والنقد الثقافي و النقد السياسي و النقد الاجتماعي". ووردت اللفظة نفسها عند الباحث ادريس الخضراوي في مقاله: السرد موضوعا للدراسات الثقافية: نحو فهم لعلاقة الرواية بجدلية السيطرة والمقاومة الثقافية. مجلة تبين، ص107، عدد 6و7 شتاء 2014كما يلي: "إن منهجية القراءة الطباقية التي استند (ادوارد سعيد) إليها في تفكيك نظم الامبريالية و المقاومة الوطنية المعارضة للهيمنة وانعكاس أنساق الهيمنة والمقاومة في الثقافة، هذه المنهجية لا تجترح كوى جديدة في تلقي الأدب فحسب بل تتجاوز ذلك إلى الإلماع إلى الرهانات الإنسانية لهذا النمط من التحليل." وأختم هذه الأمثلة بفكرة من المجال التربوي للباحث الدكتور العربي اسليماني في كتاب المعين في التربية (ط7، ص 205) يقوله:" ولمواجهة هذه الوضعية قام علماء التربية باجتراح مجموعة من الأدوات والأساليب والمفاهيم التي يمكن التوسل بها ". فإذا سلمنا جدلا بأن الفقرة الأولى تقبل باستبدال كلمة اكتساب باجتراح، فإن الأمر يستعصي في باقي الأمثلة، إذ لا يمكن أن نجزم بأن المعنى سيكون واضحا لو قلنا: يأتي اكتسابنا لمصطلح النقد النسقي...وأعتقد أن المناسب - ربما- سيكون هو رغبة الكاتب في القول: يأتي اقتراحنا... وهو الأمر نفسه بالنسبة للمثال الأخير: قام علماء التربية باقتراح (عوض اجتراح) مجموعة من الأدوات.... وأما استعمال الباحث ادريس الخضرواي للفعل يجترح فهو يميل أكثر نحو فعل الشق(وهو يتناسب مع فعل الجرح) أو إحداث الفجوة في الجدار كما هو واضح من كلمة كوى جمع كوة و هي الثقب أو الخرم في الجدار. وبالجملة فإن استعمال المفردة موضوع هذه الورقة قد تم في سياقات معرفية مختلفة، يبدو فيها وضعها قلقا، و كان الأجدر وضع المفردة المناسبة التي لا تثير اللبس وتقصد المعنى مباشرة.