مرت قبل أيام الذكرى الأولى لتأسيس حركة 20 فبراير، وقد كانت مناسبة لكثير من حملة الأقلام ومتعاطي السياسة لتقديم تقويم مفصل لأداء هذه الحركة التي ولدت كرجع صدى لما حدث في دول مجاورة لنا. غير خاف، أن كثيرين بدوا سعداء بعدما خيل إليهم أن هذه الحركة استهلكت نفسها، وفقدت كل مبررات وجودها، ولهذا ظلت في الشهور الأخيرة تتحرك على هامش الحياة السياسية في ظل لا مبالاة من طرف الشعب، قبل أن تصبح مجرد جزء من أرشيف السياسة في المغرب. بالمقابل، اعتبر آخرون أن الحركة نجحت -وفي أسابيع معدودة- في تحقيق ما عجزت عنه المعارضات الراديكالية طيلة العقود التي تلت الاستقلال، بل هناك من يذهب بعيدا حين يقارن بين ما حققته الكتلة مثلاً عندما فاوضت القصر بين سنتي 1993 و1998، من موقع قوة بسبب حسابات انتقال العرش في لحظة تاريخية دقيقة كانت مفتوحة على كافة الاحتمالات، وحصلت على "التناوب التوافقي" بشروطه المجحفة، وبين ما حققته حركة 20 فبراير في أقل من ثلاثة أسابيع، رغم أنها رفعت شعارات تطالب بالإصلاح وإسقاط الفساد فقط ولم تساير مطالب الشارع العربي. لكن بين هذا وذاك، لابد أن نقر بأن الحركة نجحت على الأقل في تحريك المياه الراكدة التي كان ركودها سيؤدي حتما إلى انفجار لا أحد يعلم المدى الذي يمكن أن يصل إليه. قد نتفق على أن ما حققته حركة 20 فبراير يمكن قراءته من زوايا متعددة، فهو "الممكن" الذي سمح به الزمن السياسي المغربي، وهو السقف الذي قد يؤدي تجاوزه إلى فوضى "غير خلاقة"، وهو "النزر اليسير" الذي يمثل أول خطوة على درب طويل يحتاج إلى نفس طويل..لكن الأهم من كل هذا أن الحركة أثبتت على الأقل أن هناك شعبا مازال فيه نبض رغم ما كاله له البعض من أوصاف وتهم، وأن المشكلة هي مشكلة نخبة فقط كما كان الأمر دائما في مغرب ما بعد الاستقلال.. فالحركة فشلت في تعبئة المواطنين العاديين الذين عادة ما يوصفون بأنهم "الأغلبية الصامتة" -عكس ما حدث في الدول العربية الأخرى- رغم أن كل الظروف كانت مواتية لحشد مئات الآلاف في كل نزلة إلى الشارع، وذلك لأسباب منها أن الحركة حملت في طياتها تناقضات سرعان ما تحولت إلى عوامل تفجير داخلي، ومنها أيضاً أن الخلطة التي تشكلت منها تختلف مكوناتها ليس فقط في الأساليب والاستراتيجيات، بل في الأهداف والغايات أيضاً، كما أن الخطاب الذي بدأ ينحو في اتجاه نوع من التصعيد المنفلت، سرعان ما عجل بفرز تيارات متناقضة لا يمكنها أن تجتمع على أية أرضية، بما في ذلك عداءها المعلن للمخزن -وإن بدرجات مختلفة-، فضلا عن أن الحركة سرعان ما تحولت إلى منبر لبعض المقيمين الدائمين في الماضي و"ثوريته"، ممن فشلوا طوال عقود في اختراق الشارع المغربي حتى بعد الانفتاح الذي عرفته السنوات الأخيرة. إن المقصود من هذا الجرد التاريخي المختصر، هو محاولة إيجاد جواب للسؤال التالي: هل تم فعلا تفكيك الألغام التي كانت في الطريق، وبشكل نهائي، وبالتالي أخذ القطار مساره الصحيح خاصة بعد التعديل الدستوري لفاتح يوليوز وبعد انتخابات 25 نوفمبر، وبعد تعيين وتنصيب الحكومة الجديدة؟ باختصار، يمكن القول إن الامتحان الحقيقي لم يأت بعد، وتفكيك الألغام لا يعني إبطال مفعولها، كما أن الصورة ليست بكل التفاؤل الذي يرسمها به البعض. وكما كتبت ذلك قبل زمن غير قصير، فحزب العدالة والتنمية كان عبارة عن عجلة احتياطية معدة للاستعمال في الوقت "المناسب"، ضمن مشروع "تناوب توافقي" من نوع ما، هدفه توسيع هامش المناورة أمام المنطق "المخزني" في منعرج من المنعرجات الحاسمة التي تنتظر البلد مستقبلاً، تماما كما حدث مع التناوب الأول مع جزء من يسار المعارضة التاريخية وحزب الاستقلال الذي يتقن الرقص على أكثر من حبل. لكن رياح الربيع العربي التي هبت بقوة ووصلت نسائمها إلى المغرب مبكرا جداً، عجلت باستعمال هذه العجلة الاحتياطية، بشكل غير مقصود طبعا، فمن غير الموضوعي تفسير ما حدث أثناء وبعد الانتخابات التشريعية على أنه كان عبارة عن "سيناريو" ضمن مسلسل "نظرية المؤامرة". فكل الملاحظين الموضوعيين أجمعوا على أن فوز حزب العدالة والتنمية بتلك الطريقة الاستعراضية كان مفاجأة من العيار الثقيل ..للجميع بدون استثناء، وإلا فسنحتاج إلى تفسير مقنع لدواعي تأسيس تحالف الثمانية، عشية الاستحقاقات المشار إليها، والاستعدادات التي كانت جارية لتنصيب حكومة يقودها رئيس التجمع صلاح الدين مزوار..إذا كانت هناك حقاَ خريطة طريق منجزة سلفاً لتسليم مقاليد الأمور لحكومة يقودها الإسلاميون، بهدف امتصاص الغضب وتحسبا لتحوله إلى ما هو أكبر وأخطر. لقد خرجت من صناديق الاقتراع مفاجأة أثبتت أنه من المستحيل التنبؤ بتقلبات الرأي العام، وأن الأمر كان ليصبح له طعم آخر وتبعات أكبر، لو أن حزب العدالة والتنمية وجد نفسه قادرا على تشكيل حكومته منفرداً.. وهكذا، وفي الوقت الذي كانت فيه حركة 20 فبراير منشغلة بشعارات تتضمن بعض "الفلتات والانفلاتات"، اختارت الكتلة الناخبة - دون إيعاز من أحد طبعاً- أن توجه رسالة تؤكد من خلالها أن "الثورة الهادئة" التي عرفها المغرب، قد لا تبقى هادئة إلى الأبد، وأن الأصح ربما القول بأن الأمور تطبخ على نار هادئة، وبالتالي قد تصل إلى درجة الغليان في أية لحظة. نحن إذا لسنا فقط أمام استعمال مبكر ل"العجلة الاحتياطية"، بل أمام شيء أقرب إلى "الفرصة الأخيرة"، التي إذا لم يتم استغلالها لبناء دولة عصرية قائمة على مبادئ الديموقراطية وسيادة القانون، فإن المستقبل قد يحمل كثيرا من المفاجآت الإضافية غير السارة، التي قد لا تكون انتخابية فقط. بلغة علم النفس، إن التصويت في انتخابات 25 نوفمبر، بالشكل الذي تم به، يوحي بأنه في "اللاوعي الجمعي" للمغاربة، هناك رغبة في منح شعارات "الإصلاح والتغيير"، فرصة إضافية لن تكون شيكا على بياض وقد تكون الأخيرة، خاصة بعدما فشلت التجربة الأولى (التناوب التوافقي) في تحقيق ما كان منتظرا، وبعدما أصبح النزول إلى الشارع والاعتصام وقطع الطرق واحتلال المرافق العامة، وحتى إحراق الذات، أشكالا طبيعية للاحتجاج.. وبعبارة أكثر وضوحا، لا أحد بإمكانه ادعاء القدرة على توقع ما قد يحدث في المستقبل القريب، لأن الربيع مر من هنا لكنه لم يترك أثرا..والربيع فصل يتكرر مرة كل سنة..وأي كلام عن "الاستثناء" المغربي و"الخصوصية" المغربية هو مجرد إنشاء لن يصمد أمام نسمات الربيع الحقيقي فأحرى رياح الخريف وعواصف الشتاء.. وأظن أنه من خلال ما مر لحد الآن من عمر الحكومة الحالية -على قصره- هناك خلاصات لابد من التوقف عندها: - حزب العدالة والتنمية يبذل جهودا كبيرة لتقديم نفسه في صورة جديدة حتى لو تطلب ذلك من وزرائه المشاركة في رقصات كناوة، ذلك أنه عمل طوال سنوات على حشر نفسه في دائرة معاداة الفن والإبداع، ولذلك هناك اليوم إصرار متواصل على جره لخوض معارك على جبهة السينما والمسرح والمهرجانات خاصة منها تلك التي أصبحت لها "قدسية" تحرم حتى مجرد انتقادها.. - يبدو من خلال لائحة المطالب والمطالبات الموضوعة بين أيدي الوزراء في مختلف القطاعات، أن رئيس الحكومة يحتاج للتسلح بمعجزات كثير من الأنبياء..يحتاج لصنع سفينة نوح عليه السلام والإبحار بها لإعادة إعمار الأرض بعد أن يجرف طوفان الربيع العربي كل مظاهر الفساد..ويحتاج لتعلم تفسير الأحلام وطرق تدبير السنوات العجاف على طريقة يوسف عليه السلام، التي تجمع بين القوة والأمانة، في زمن شعارات الحكامة الجيدة، وإلى استعارة عصا موسى عليه السلام ليتكأ عليها ويهش بها على "غنمه"..وأيضا ليسلطها على الأفاعي التي تطل برؤوسها بين الحين والآخر..ويخيل إليه أنها تسعى.. وإلى صبر أيوب الذي قد يذهب بما بقي من شعر أسود أو رمادي في وجهه ورأسه..خاصة وأن المطالب المعبر عنها لا تأتي من رجل الشارع فقط، بل أساساً من الذين كانوا في موقع الفعل طيلة السنوات الماضية ويبحثون اليوم عن استعادة عذرية مفقودة، ولو عبر نبش القبور وتمزيق الأكفان.. - يبدو من استقراء ما يجري أن بعض مهندسي المرحلة موقنون فعلاً بأن المغرب تخطى مرحلة الخطر، وإنه بالإمكان العودة لترتيب الأدوار من جديد، ولو على أساس "قرصنة" الصلاحيات التي منحها الدستور الجديد للسلطة التنفيذية، بدليل أن وزير الخارجية السابق مازال محتفظا ببعض اختصاصاته التي قد تتسع أكثر، بحجم صبر وهدوء الدكتور العثماني.. وقس على ذلك بقية القطاعات "المختلطة" بين حكومة صناديق الاقتراع وحكومة "الظل".. - من المؤشرات المعبرة أيضا، أن الحكومة الجديدة لم تنجح لحد الآن حتى في الإيحاء بقدرتها على الفعل، حيث يلاحظ أنها عجزت حتى عن بعث رسائل تبشر بالتغيير. فبعد تجريد الحكومة من حق التعيين في المناصب "الاستراتيجية"، اتضح أن حتى زحزحة مسؤولة من مستوى مديرة أخبار بقناة تلفزية على سبيل المثال، تحتاج إلى مفاوضات وتنازلات، والقبول ببديل قد لا يكون أفضل، هذا دون أن ننسى ضرورة تعويض "المدام المغادرة" بمنصب يليق بما قدمته من "خدمات"...ل"الوطن".. إن هذه الخلاصات تنضاف إلى العديد من القراءات والتحليلات الخاطئة التي بنيت عليها سياسات خاطئة، واتخذت على ضوئها قرارات خاطئة، لتؤكد حقيقة بدأت تترسخ أكثر فأكثر، مفادها أننا أصبحنا في ظل دولة "مياومة" تدبر شؤونها السياسية يوما بيوم، ما يوحي بأن المغرب افتقر بالمرة إلى جيل من "المهندسين" يزرعون اليوم ليحصدوا بعد عقد أو عقدين. [email protected]