ليس في نيتي أن أخوض هنا في موضوع "هجرة الأدمغة" بما هي انتقال جسدي من البلد الأصلي إلى بلد آخر، يقوم به ذوو الكفاءات والمهارات من مواطني البلد الأول، سعيا منهم إلى الاستفادة من ظروف عمل أنسب في البلد الثاني... موضوع هذا المقال هجرةُ أدمغة من نوع آخر: تهاجر فيها العقول دون الأجساد؛ وبذلك تسترجع عبارة "هجرة الأدمغة" معناها الحقيقي هنا... قبل عشرين سنةً إلا قليلا كتبت مقالا أشرح فيه الآلية أو الميكانيزم الأيديولوجي/السيكولوجي التي تحكم علاقة المثقف العروبي ببلده المغرب من خلال موقفه من ثنائية المغرب/المشرق. مناسبة المقال حلقةٌ من برنامج ثقافي بعنوان "مدارات"، كان الأستاذ نور الدين أفاية ينشطه على "القناة الأولى"، موضوعها صورةُ المشرق عند المثقفين المغاربة. وكان عنوان المقال "المغرب والمعنى: مداراتٌ حزينة". ونشر في جريدة "ثاويزا" التي كان يصدرها الأستاذ محمد بودهان. وقد داهمتني فكرة إعادة نشره بينما كنت أَهُمُّ بكتابة مقال جديد حول هذه الظاهرة الخطيرة التي تزداد استفحالا، ألا وهي نزوع كثير من المغاربة -مثقفين ومتعلمين وأنصاف متعلمين- إلى اعتبار بلدهم مجرد "بلد إقامة"، مقابلَ موطنهم "الأصلي" الاستيهامي الذي هو المشرق. إذ نجدهم، على غرار المقيمين في بلد أجنبي، يستوردون "السلع" التي ألِفوها في بلدهم الأصلي تعبيرا عن التعلق بالأصل وتخفيفا لوطأة الغربة... فهذه جماعاتنا القروية والحضرية تتنافس في جعل شوارعنا وأزقتنا وساحاتنا امتدادات لنظيراتها في المشرق بما تطلقه عليها من أسماء؛ غيرَ عابئةٍ بالنشوز الناتج عن التخالف بين تلك الأسماء وبين البيئة المغربية بمميزاتها الثقافية والسوسيو-لسانية. ناهيك عن التعريب التعسفي لأسماء المكان الأمازيغية أو إعادة تسميتها بأسماء لا صلة لها بروح المكان. أما أسماء المدارس والإعداديات والثانويات والمؤسسات التربوية والثقافية... فحدِّث ولا حرج كما يقال. حتى لَيخال المرء أن بلدنا صفحة بيضاء، في وُسْع أي حامل أيديولوجيا أن يخط عليها ما شاء؛ بينما بلادنا كتاب مشبع بالأسماء والعلامات والدلالات. لكن الأدمغة المهاجرة لا تفقهها. هذه الأدمغة المهاجرة نفسها هي التي تنفي اللغة الأمازيغية من مدارسنا؛ حين يرفض عدد من مديري الأكاديميات والمدارس تدريسها في المؤسسات التي يشرفون عليها، معتبرين إياها تشويشا على الصورة المترسخة في أدمغتهم المهاجرة عن هوية المغرب. توضيح: توضيح أول: عبارة "العروبي" في المقال لا تنصرف الى "العربي" أو من يعتقد أنه كذلك، وإمنا تعني: من يقول بعروبة المغرب. توضيح ثان: أسماء المثقفين الواردة في المقال اقتضتها المناسبة فحسب. ويمكن إسقاط مواقفها على كثيرين ممن عداهم. أدناه نص المقال: المغرب والمعنى: مدارات حزينة "وَهُمْ مَحْوٌ، والقائلُ غيْرُهُم إذا نطقوا" (القشيري، الرسالة القشيرية) سأستعير، في هذه الورقة، لغة التصوف لأستعملها في وصف موقف المثقف العروبي في المغرب من الثنائي: المغرب/المشرق. سيتضح الوجه في اختيار هذا السجل اللغوي في الأسطر اللاحقة. من التَّخْلِيَّة إلى التّحْلِيَّة: يماثل موقفُ المثقف العروبي المغربي موقفَ "المريد" في أدبيات التصوف. إذ عليه أن يباشر رحلة صعود مُضنية (بل مُفْنِية)، يقطع خلالها المراحل تلو المراحل والمواقف تلو المواقف؛ متجردا، شيئا فشيئا، من كل النقائص والأدران التي تسمه من جهة أصله ومولده ولغته وثقافته، في جهاد عنيف للنفس، لحملها على "التخلية": أي إخلاء الذات من كل ما عَلِق بها من أعراض تَحولُ بينها وبين استقبال المثال والتحلي به. أو، بعبارة أخرى، صَقْل الذات وتخليصها من كل الشوائب والأخلاط حتى تصير إلى الحالة التي تكون فيها مرآة مجلوة، قادرة على أن تعكس بأمانة طيف الحقيقة الحق المثال... بتنويعات كثيرة، والذي بموجبه ينتقل "المريد" من حالة "الانفصال" إلى حالة "الاتصال"، مرورا بمسلسل مريع من الامتحانات، صعودا وسقوطا، إقبالا وإدبارا... أقول: هذا البرنامج السردي (الرحلة الرمزية للمتصوف) كان يلح على خاطري وأنا أتابع على شاشت"نا" الصغيرة حلقات "مدارات" التي عقدها صاحبها السيد نور الدين أفاية لاستجلاء صورة المشرق في المغرب (بعد أن كان خصص، في وقت سابق، حلقات أخرى لسبر تصورات المثقفين المشارقة عن المغرب). وإذا كانت هذه الأخيرة لا تخرج، في جملتها، عن الأبوية المعهودة عند المشارقة قديما وحديثا، فإن الأولى تخضع بتفاوت للخطاطة السردية للمريد، كما أسلفت. لقد كانت "الكلمات المتقاطعة" للمثقفين المنتخبين تروي الرحلة "الصوفية" -رحلة المريد المغربي- من "الوجود" المغربي، بكثافته وصفاقته واختلاطه، إلى "الفناء" الذي هو عين الوجود: الفناء في ذات المعشوق، أرقى مراتب الوجود، بل هو مقام الوجود. وما "الوجود" المغربي "الأول" إلا ضرب من اللاّوجود. على أن "المريدين" المغاربة، ممن دُعوا إلى رواية أخبار علاقتهم بالمحبوب، لا يستوون في ما نالوا من "القرب": فإذا كان منهم من فاز بالوصل حتى فَنِيَ عن ذاته فما عاد يُسأل، وهو بدمشق، عن هويته: من هو؟ (السيد أحمد المديني، واللفظ له)، بعد أن كابد الصدود والإنكار زمنا؛ فإن منهم من كان حظه من "القرب" دون ذلك، حتى ما عاد يخفي شكه في الظفر يوما بالقبول من المعشوق؛ فهو متردد: أَيَرْتَدُّ على عقبيه أم يواصل السعي أم يقنع من الوصال بمقام بين بين. وفريق ثالث بدا وكأنه لم يعد يحتمل دلال المعشوق فرأى أن يعود أدراجه ويقنع بما هو وما عنده (الثقافة المغربية، وإن مختزلة في ما سماه: الثقافة الشعبية) (السيد حسن نجمي). على أنه كان هناك صوت نشاز دعا إلى إدراك "الحقيقة المغربية" و"فهم مضامينها" و"رمزيتها": ذلك هو صوت السيد أحمد التوفيق. وقد بدا أشبه بذلك المتصوف (دائما هو) الذي عجب من أمر زملائه: يسعون في طلب الحقيقة وهي فيهم! لكن هذا الصوت الخافت سرعان ما كان يطغى عليه صخب الأصوات الداعية إلى الفناء عن الذات في الآخر. الطبيعة / الثقافة: او: المغرب / المشرق لو أردت أن أختزل صورة المغرب / المشرق في وعي (أو لاوعي؟) المثقفين العروبيين المغاربة لاقترحت الثنائيات الضدية التالية: المشرق المغرب الثقافة الطبيعة المعنى البياض الدلالي الحدث (الدلالي، السياسي...) اللاّ-حدث الروح الجسد الأصل الفرع (النسخة) المركز المحيط (الهمش) التاريخ (الزمن التاريخي) الزمن الفلكي المضمون، المحتوى الوعاء الصوت الصدى اللغة (الفصاحة) العجمة الامتلاء الفراغ المتن الهامش المثال "الواقع" إن مأساة (نعم: مأساة) العروبيين في المغرب تكمن في كونهم يعيشون في فضاء طبيعي غُفل: فضاء لم يَزُرْهُ المعنى ولم تفعل فيه السيميوطيقا، ولم يتعرض لأي عمليات ترميز؛ فضاء لم تتزوج فيه الجغرافيا بالتاريخ لينجبا الحدث المعنى؛ فضاء طبيعي لم "يتثقف": لم يدخل في شبكات التدليل/الترميز/السمطقة التي تشكل في مجملها ما اصطلح على تسميته بالثقافة. إنها لمأساة حقا أن يعيش الإنسان (وهو الكائن "الرمزي") في فراغ رمزي/دلالي كهذا. ولعل هذا ما يفسر ذلك الشوق الصوفي عند العروبيين المغاربة إلى مكان المعنى بامتياز: المشرق، ذلك الزّمَكان (chronotrope) المُشْبَعُ بالمعنى، المسكونُ بالدلالة، المرموزةُ معالمُه الطوبوغرافية والكرونولوجية... إن المثقف العروبي المغربي إذ يولي وجهه شطر المشرق فإنه يهاجر أرض اللاّمعنى (المغرب)، متشوقا إلى أرض المعنى. إنها حقا تجربة إنسانية عسيرة، بل مأساوية كما وَصَفتُ. ولم أستعر لغة التصوف للتعبير عنها إلا لأن هذه اللغة هي التي استطاعت، أحسن من غيرها، أن تصف هذا الجنس من التجارب... ولكن، وأيضا، لأن بعض أرباب هذه المُكابَدات أنفسهم استعاروها وَحُقَّ لهم! لوصف أحوالهم واجتهاداتهم وما عانوه من "البعد" أو نالوه من "القرب". (احمد. المديني: "فالشرق ليس آخر، بل هو أنا"). قارن بأمثال هذه التعابير في أدبيات "التصوف" الإسلامي والعالمي. أو: "كنا في المغرب، لكننا لم نكن في المغرب، كنا في المشرق"(كذا!). أقول: بئس العذاب! "كنا في المغرب، لكننا لم نكن في المغرب كنا في المشرق" أستعير هذه العبارة لأحد المستجوبين عنوانا لهذه الفقرة، لأنها تلخص بصدق واقع المثقفين العروبيين بالمغرب. إنهم يعيشون هذا البلدَ كَمَنْفى لأرواحهم المتعلقة بال"هناك". وفي المنفى لا يسعى المَنْفِيُّ إلى التجذر، إلى الإقامة في الفضاء بكل أبعاده المادية والرمزية. بل إن قصارى ما يتوخاه، مُداراةً للغربة في مكان غير مضياف، هو أن يستحضر شذرات من ذاكرة الوطن/الأم يؤثث بها فراغ منفاه في انتظار الفرج. إنه بالقطع لن يقوم باستثمارات رمزية ذات شأن. فذلك يلزمه بالإقامة بالبلد بالمعنى القوي للإقامة، بما تقتضي من معرفة بالوسط، وتَمَثُّلٍ لمقوماته ومكوناته، وتمكن من شفراته وسننه اللغوية والثقافية (أنظمته الرمزية، ميتولوجياته، علاماته، أنماط بناء المعنى، صيغ "السمطقة" اللغوية وغير اللغوية، أشكال إنتاج المجتمعية (socialité) أساليب الحكي (تسريد المعنى)، الإيقاعات، إلخ...إلخ...). إن المثقف العروبي المغربي يُؤول جهله/عماه عن الكون الدلالي للفضاء الذي يقيم فيه (المغرب) على أنه بياض دلالي. وهذا يجعله يعاني تلك المعاناة العقيمة التي وصفنا، فيسعى وَهْما إلى التخفيف منها عن طريق اقتناء آليات لإنتاج المعنى صُممت ضمن مرجعيات أخرى. ولأنها كذلك، فإنها لا تتمكن من احتضان المعنى المغربي. لكن هذا المثقف، إذ يلاحظ فشل استراتيجيته التعويضية القائمة على استيراد المعنى لسد العجز الدلالي الموهوم في بلد الإقامة، وبدل أن يضع هذه الاستراتيجية موضع السؤال، فإنه ينحى باللائمة على مواطنيه. فالمغاربة فشلوا، في نظره، في إنتاج صيغ التعبير الملائمة: "إنهم لم يطوّعوا لهجاتهم" الفَظَّة (م.ع. الجابري، واللفظ له) لتطابق عربية القاهرة! وأسوأ من ذلك أن "بألْسِنَتِهم عُجْمَةً" (م. ربيع). (قارن بكلام المؤرخ الروماني، بْلين الأكبر Pline l'Ancien، عن لسان الأفارقة. يقول: "وأسماء هذه الشعوب والقُرى يستحيل على غير أفواه الأهالي التلفظُ بها، أو بوصف المؤرخ الروماني الآخر، سترابون Strabon، لِأسماء شعب الكانطوبر Cantobres وجيرانهم: يقول: "وأسماء الكانطوبر وجيرانهم قبيحة، يستحيل التلفظ بها"). ما أشبه الليلة بالبارحة! ثم إن المغاربة مصابون بامية وبائية. لكن ليس لأنهم لا يعرفون الكتابة والقراءة في لغتهم الأم، كما قد يتبادر إلى الذهن المركب تركيبا سليما، وإنما لأنهم لا يعرفون الكتابة والقراءة في لغة ثانية! وهكذا، فإن لغات المغاربة ولهجاتهم ما هي، في مَسْمَع المثقف العروبي المغربي، سوى أصواتٍ متنافرةٍ (كاكوفونيا) تخدش السمع الشرقاني اللطيف بسماجتها، وتعجز عن حمل المعنى بله إنتاجه... أما ثقافة المغاربة بميثولوجياتها وطقوسها وتشكيلاتها الرمزية وأشكالها التواصلية وصيغها التعبيرية وأساليبها الفنية الكثيرة والمتنوعة والمتراكمة، المتراكبة الطبقات، فما هي في نظر ذلك المثقف المُنْبَتِّ غير تلك "الأشكال" الهجينة المنتزعة من سياقها والتي تبيعها وزارتا "الثقافة" والسياحة للسواح الأجانب والمتمشرقين من المغاربة باسم الفلكلور المغربي، للتدليل على "تنوعنا الثقافي"! أما وأن الأمر كما وصفتُ، فقد حق للمثقف العروبي المغربي أن يشعر بالغربة الرمزية وهو المحاط باللامعنى من كل جانب! وحُق له، من ثَمّة، أن "يهاجر" في طلب المعنى! ولو في دمشق وبغداد! حتى ولو كانت قيم المعنى الدمشقي-البغدادي تتلخص في: القومية الشوفينية، الفكر الوحيد، الحزب الوحيد، حكم العائلة العشيرة الطائفة القبيلة، رفض قيم الحداثة، والديموقراطية في الفكر والثقافة والسياسة والاجتماع. إن الطبيعة تحشى الفراغ كما يقال. لذلك لا يُستغرب ممن يعيش فراغا ثقافيا في بلاده (فراغ مَرَدُّه إلى الجهل حينا وإلى العمى الإيديولوجي، أحيانا. وفي جميع الأحوال إلى عدم التشبع بقيم المعنى المتضَمَّنة في ثقافة البلاد) أن يسعى لتحقيق الامتلاء حيث يقدر عليه، ولو بمضامين متخلفة ومعيقة. الإنسية المغربية: إن المثقف العروبي المغربي عجز عن تمثل قيم الإنسية المغربية بأبعادها: أ اللغوية: اللغة الأمازيغية (والدوارج المغربية التي صيغت على منوالها) باعتبارها اللغة التي سمت "الشيء" المغربي، مُخْرِجَةً إياه من العدم إلى الوجود الدلالي، وسالكةً له في شبكات التداول بمختلف أبعاده النفعية والرمزية. ب الثقافة المغربية: التي تتمفصل على اللغة الأمازيغية ومشتقاتها من الدوارج الأمازيغية-العربية: الصور والتصورات والتَّمثُّلات والرموز والخطاطات والأنماط العليا Archétypes إلخ... المتجذرة في الذاكرة والمخيال والشعور الجمعي، والتي تحكم صيغ التدخل في العالم. ج العقل المغربي: وأعني به ذلك الحدس المتوسطي العقلاني/البراغماتي، الذي صاغته قرون من الإنتاج والتفاعل مع الثقافات والحضارات ضمن الفضاء المتوسطي مهدها بامتياز. لقد تحولت هذه الاستعدادات الذهنية للإنسية المغربية إلى Habitus جماعي تصدر عنه الذات الجماعية في رؤيتها للعالم، والذات والآخر، المحكومةِ بجدلية الهوية -التحول. تلك، في عجالة، بعض سمات الإنسية المغربية (لا تزال مهمة البحث فيها وصياغتها الصياغة النظرية الملائمة منوطة بالمخلصين من أهل العلم المغاربة)، أشير إليها هنا للفت النظر إلى ما يخسره المثقف العروبي المغربي، حين يصر على إفراغ الهوية المغربية من مضامينها الأصيلة، لإعادة تعبئتها بمضامين مفارقة. يقول محمد أركون، هذا العالِمُ الصالح الذي لا ينفك يذكرنا بواجباتنا نحو مغربنا الكبير، غير آبِهٍ بردود الفعل المتشنجة، الصادرة من تلك الفئة المستَلَبة من المثقفين، التي تستعذب ملذات تناغم خطاب منغلق على ذاته، غير عابئ بأي مرجع، يقول: "يتجلى بوضوح مما تقدم أن المغرب الكبير تنقصه السياسة، وينقصه الفكر بدرجة أكبر: أقصد السياسة والفكر الصادرين عن جغرافيته وتاريخه وأنتروبولوجيته الاجتماعية والثقافية" (محمد أركون، "رهانات المثاقفة بالمغرب الكبير بعد الاستقلال، مقاربة أنتروبولوجية"، ترجمة عبد الكريم شوطا، مجلة "فكر ونقد"، السنة الثانية، العدد 20، يونيو 1999، صفحة 34).