امِّينْتو حيدر تتمتع بالحكم الذاتي: سبق لي، منذ سنوات- بمناسبة أحداث شغب بالعيون، فَتحتْ فيها "امِّينْتو حيدر" منزلها للأطفال المطاردين من طرف الشرطة- أن اعتبرتها المغربية الصحراوية الأولى التي تتمتع بالحكم الذاتي؛ اعتبارا لكونها اكتسبت نوعا من الحصانة المتوحشة، التي لا يضبطها قانون معلوم؛ وإن كانت مؤطرة سياسيا، من هذه الجهة أو تلك. ما زلت عند رأيي هذا؛ خصوصا وقد كانت هناك مبادرة، منذ سنين، من صحراويات عريقات ووحدويات، لتأسيس تنسيقية تدافع عن ملف الصحراء في الخارج، وتتصدى بصفة خاصة لأنشطة امينتو حيدر، حيثما حلت وارتحلت؛ لكن تعذر عليهن الحصول على الموافقة الرسمية من داخلية ادريس البصري، على ما أعتقد. ويتكرس هذا الاعتقاد اليوم، مع هذا "السماح الرسمي" لظهور حركة داخلية "حيدرية" تناهض "احتلال المغرب للصحراء". حركة يبدو أنها مفصلية، وليست تكتيكية فقط، وستفضي لا محالة إلى تحول عميق في التعاطي مع ملف الصحراء. لقد تم تجريب التكلس في المواقف، من طرف "البوليساريو"؛ حتى شعرت قياداته بتآكل مصداقيتها، وتنامي التذمر في المخيمات؛ خصوصا وقد أعسرت الجزائر واستنسرت "كورونا"، وأثرى الزعماء وأسرهم. ومن جهة المغرب لا يبدو أن مشروع الحكم الذاتي الذي لا يقبل بديلا عنه، والذي عززته آراء دولية قوية، كاف كما هو؛ أي مجرد مشروع نظري يتوالى الترافع النظري عنه، في المحافل الدولية؛ دون أدنى سند ميداني تجريبي، يُحرج به خصومه، في الداخل الانفصالي والخارج المعزز له؛ وخصوصا نظام الجنرالات بالجزائر. بين هذا وذاك تبدو "الحيدرية" مرحلة سياسية متقدمة وناضجة؛ في بحثها عن مسلك سياسي ثالث؛ قد يكون هو المدخل القوي للحل السياسي التوافقي؛ الذي تطالب به حتى الأممالمتحدة. ستنشط "الحيدرية" داخل الشرعية المغربية؛ وإن كانت تدلي ب "مناهضة الاحتلال " في زخم التأسيس، الذي يحتاج –كأي تأسيس – لشحنة الحماس التحريضي. لكن مع مرور الزمن، ودفق الواقعية السياسية، سيكون لزاما على الحركة أن تُعمل المبضع في تسميتها وأهدافها. إن الحكم الذاتي "الأبيض"، بقدر ما سيتسع مع "الحيدرية"، بانضمام أسماء أخرى من زعامات المخيمات المناهضة للتكلس، وقدر التشرد والتشدد؛ مدخل واقعي للحكم الذاتي، الذي يشتغل المغرب اليوم –رغم العراقيل الخارجية- على وضع إطاره القانوني، وإعمار خرائطه وتكوين موارده البشرية. إنه الشق الصعب في الملف كله؛ حيث تتحدث سواعد البناء، وليس الشفاه الكاذبة، العابرة مع كلامها العابر. وأدعو زعيمة "الحيدرية" أن تقارن -وهي بالعيون- بين ما خلفه المحتل الإسباني في الصحراء، وما تنعم به اليوم؛ حينما عاد صاحب الدار إلى داره. من السهل يا مواطنتي أن تتهمي دولتك بالاحتلال، لكن ما أحرج موقفك حينما يصرخ التاريخ، كما الجغرافية في وجهك الهادئ القسمات. وإليك شهادة رحالة أجنبي عرف الصحراء قبل ميلادك، وعرف لمن هي، حتى قبل أن يطرح السؤال بقرابة القرن من الزمان. "جون سرماي".. من تافلالت إلى تومبوكتو في الماضي، ووصولا إلى مستهل الأربعين سنة الماضية، على أكبر تقدير؛ كان الشريط المغربي الصحراوي، المحدد بواحتي تندوف وتافلالت، مشتملا على مراكز جاذبة؛ حيث تتقابل القوافل القادمة من مكناس، مراكش، وأكادير؛ مع قوافل زملائهم النيجيريين القادمين من تومبوكتو، عبر المسلك الصحراوي المزدوج. من تافلالت تنحدر الطريق مستقيمة صوب الجنوب، عبر هضاب طينية، وصولا إلى "احمادة تونسين"، حيث يوفر القصر بعض الراحة، قبل العبور الشاق ل "عرك ايجيدي"، وهو رملي على امتداد مائتين وخمسين كلم(250)؛ ولا ماء به إلا في بعض الفصول. تؤشر "الشناشن"، بآبارها وأرضها الصلبة، على نهاية المعاناة. من هنا، وعبر "تيفورين"، تتجه الطريق صوب "أم لعسل"، ثم الأطلال القديمة، لتصل إلى "تاوديني"، "أروان". وتواصل وجهتها، من بئر إلى بئر، حتى تصل إلى دولة النيجر. إن العبور من تافلالت إلى تومبوكتو يستغرق ما بين ثلاثين وخمسة وثلاثين يوما من السير؛ من شروق الشمس إلى غروبها. إن الانطلاق من تندوف يخفف مشاق السفر؛ فالطريق تتفادى، تقريبا عبر مسارها كله، الكثبان المتحركة؛ وتمر بمحاذاة نقط ماء وفيرة، إضافة إلى مناطق تكثر بها خلجان العُناب " jujubier"؛ حيث ملاذ طرائد الصحراء. يوجد بها النعام، الغزلان، الزواحف؛ وبصفة خاصة "الفنك"، الثعلب الرمادي الرشيق، ذو البطن الأبيض. في خمسة وعشرين يوما، عبر أم لعسل، وتاودني، تصل قافلة تيندوف إلى النيجر. خلال الفصل الجيد، من نونبر إلى أبريل، تعبر الصحراء مئات الجمال المحملة بمائة وخمسين كلغ – للواحد- من سلع المقايضة. أحيانا تفضل القوافل الفصل الحار، من يوليوز إلى أكتوبر، حيث تروي العواصف الممطرة والقوية الصحراء الغربية؛ بما يكفي لملء بِركها، وإنبات العشب الضروري للحيوانات. لكن من نوفمبر إلى أبريل يكون الجو مناسبا أيضا: فترة جفاف نسبي، مع ليالي باردة، وزخات مطرية قوية؛ مع اطمئنان شبه تام لتوفر الماء بالآبار، بفعل التسربات الناتجة عن العواصف الرعدية. خلافا لهذا، فمن أبريل إلى يوليوز، وأحيانا يتأخر، لكنه حاد دائما، يداهم الفصل الجاف، بدرجات حرارة حارقة، وريح نارية: "الريفي" الذي يجفف كل الأشجار ويثير غيوما من الرمال، ويشقق الطين بالهضاب والوهاد العميقة. بمعرفتهم الواسعة بالطبيعة والفصول، كان مرشدو القوافل يتغلبون على مشاق العبور، باختيارهم، في ذهابهم وإيابهم، لأفضل الأوقات بالنسبة للإنسان والحيوان. ثم حلت الأزمنة الرديئة، وقلص قطاع الطرق عبور القوافل؛ أو حولوها إلى مسارات أخرى، أقل رِبحية، ربما، لكنها أكثر أمنا. اليوم لم تَعُد بواحات النخيل ومدن الجنوب المغربي القصي، غير بقايا ازدهار مضى؛ لكن الطريق وهي لا تزال سالكة، تبدو مغرية للمركبة الحديثة، التي لم تعد المسافات تشكل لها أي عائق. إن المغرب اليوم، وقد استعاد حدوده، يوجه من جديد أنظاره صوب هذه الطرق المشهورة التي سبق لجنوده المقدامين أن عبروها، في حملاتهم الاستكشافية، دون أدنى عناء. تيندوف، تاودني، تومبوكتو؛ طريق التاءات الثلاث، تستقطب اليوم، انتباه فرنسيي المغرب. من النجد العالي لدرعة، الذي يطل على تيندوف، وإلى لحمادة التي تهيمن على ممالح تاودني، تَعبُر الطريق ثلاثَ عتبات طينية: عتبة "الحنك"، بارتفاع متوسطه من 250 إلى 300م. ثم تمر بقمة "العرك"، "ايجيدي"؛ ويمكنها الابتعاد عن الرمال بالانحراف صوب آبار عيون المالك، الوفيرة المياه في كل الفصول. من "تاودني" إلى تومبوكتو، عبر "بير ونان" و"أروان"؛ تنحرف الطريق، مرة أخرى، جهة الجنوب الشرقي، عبر " أركزاف" و"بامبا"؛ إلا إذا كان الهدف الوصول إلى النيجر، عبر باماكو؛ مما يفرض الانطلاق من "أم لعسل" إلى "ولهاطة"، عبر "الجوف"، الذي لم يُستكشف بعد. العائق الذي يعترض، في هذا المسار، هو زيادة مسافة تقدر بحوالي 800 كلم. ستُحيي الطريق العابرة إلى تومبوكتو، من جهة الشمال -مستعيدة الذكريات، الحية دائما، للقوافل القديمة- المبادلات التجارية التي أثْرَتْها، سابقا، الأذواقُ المشتركة والحاجيات المتشابهة، عبر الصحراء؛ مهما يكن طولُ السفر ومهما تكن أخطاره. إن الصانع التقليدي المغربي يحذو دائما حذو أسلافه، في صناعة أشيائه، وأوانيه، الجلدية، النحاسية، والخشبية. وعلى نفس المنوال يمضي الصائغ في إنتاج مزركشاته التي لا تزال تشكل مفخرة النساء السودانيات. كنتيجة لتيسير الولوج سيزدهر، من جديد، في أسواق المغرب، ملح "تاودني"، الزيوت، الدهون النباتية، ومكونات الصيدلة النيجيرية التقليدية. كبار الرحالة الشرِهون، ينتظركم تحقيق العديد من الفوائد، بقدر ما ينتظركم تجميع العديد من القصص وروايتها. سيتهافت السود والمغاربة، الأمازيغ والعرب، صوب الطريق السالكة، التي ستعبرها، قريبا، الحافلات -وقد أخذ عددها يزداد في المغرب- محملة، إلى أقصى حد، بالمتاع والناس؛ كتلة واحدة ملتحمة، معتلية حتى السطح. أكيد أنها تجارة صغرى، وحركة مرور متواضعة؛ لكنها ستوفر الشغل لآلاف الناس، وستتيح للشباب فرص الإبداع. إذا كانت الطريق تثير لدى ساكنة الإفريقية، في جانبي الصحراء، انجذابا متساويا؛ وتسرع تنمية تجارتها؛ فإنها ستفتح للسياحة، أولا، وللتجارة الأوروبية، لاحقا، إمكانيات فورية. JEAN SERMAYE : REVUE DE GEOGRAPHIE MAOCAINNE AVRIL :1934. PAGES100-103.