في إطار ممارسته لمهمة الرقابة العليا على تنفيذ قوانين المالية بالمغرب وتتبع نتائج تنفيذها، أصدر المجلس الأعلى للحسابات بحر الأسبوع الفارط تقريرا يتعلق بتنفيذ ميزانية الدولة برسم السنة المالية 2019 (الأمر يتعلق بتقرير مستقل عن التقرير المرفق بمشروع قانون التصفية المتعلق بتنفيذ قانون المالية)، وذلك اعتمادا على المعطيات المتوفرة عند نهاية الربع الأول من سنة 2020. وقد جاء متضمنا لمجموعة من المعطيات والأرقام والملاحظات المفصلة والخلاصات المتعلقة بوضعية المالية العمومية في المغرب سنة 2019، ولعل أبرز نقطة توقف عندها هذا التقرير (شأنه شأن تقرير سنة 2018) تلك المتعلقة بالمديونية العمومية، حيث توقف معدو هذا التقرير عند الارتفاع المستمر لمستوى المديونية العمومية، بحيث أشار التقرير إلى ارتفاع دين الخزينة بسبب الاستدانة الخارجية، إذ واصل مساره التصاعدي بزيادة قدرها 25.376 مليون درهم أي بزيادة قدرها 3.5 %ودلك مقارنة بسنة 2018، منها 53 % على شكل دين خارجي. وبذلك يكون دين الخزينة -حسب التقرير- قد تضاعف، منذ سنة 2009، لينتقل من 345.177 مليون درهم إلى 747.996 مليون درهم سنة 2019، مسجلا معدل نمو سنوي متوسط قدره 8%. وبذلك بلغت نسبة الدين العمومي 65.4% من الناتج الداخلي الخام أي بفارق 5.4% مقارنة مع الهدف المسطر في البرنامج الحكومي 2017-2021 والمتمثل في حصر مستوى المديونية في نسبة 60% من الناتج الداخلي الخام. وفي سياق هذا المنحى التصاعدي للدين العمومي فقد ارتفعت تكلفته، والتي تتألف من سداد أصل الدين والفوائد والعمولات، وذلك بشكل ملحوظ بعد أن ظلت في منحى تنازلي خلال الفترة 2016-2018. حيث بلغت 136.141مليون درهم بزيادة 11.416 مليون درهم (+ 9.2 %) مقارنة بسنة 2018. وفي ظل هذه المعطيات القاتمة، كانت ولا تزال المديونية العمومية (المديونية العمومية في شموليتها أي بإضافة دين المؤسسات والمقاولات العمومية والجماعات الترابية والقطاع البنكي العمومي والمؤسسات ذات المنفعة العامة والقروض المضمونة من قبل الدولة) كواحدة من أعقد الإشكالات في تدبير المالية العمومية في الوقت الراهن، ومن بين أبرز التحديات أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية، الشيء الذي ينذر بالمزيد من المخاطر التي ستكون لها انعكاساتها على الوطن والمواطن. فالمغرب يعد من بين الدول النامية التي تبنت نهج تمويل عجز الميزانية بالاقتراض، إذ لا يزال يعاني ومنذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن من عبء ارتفاع المديونية العمومية مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي ومن آثارها السلبية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي داخليا. ولعل المتتبع والدارس لتدبير الشأن العام والمالية العمومية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، تستوقفه دون عنت ملاحظة مهمة وهي تلك المتعلقة بالالتجاء المتكرر للاستدانة بشقيها الداخلية والخارجية، حتى غدا الأمر إشكالا بنيويا وتكرست الاستدانة عرفا لدى جل الحكومات المتعاقبة. فإذا كان من بين السمات البارزة للميزانية العامة بالمغرب، العجز المتكرر بفعل مجموعة من الأسباب والعوامل، فإن الحكومات المتعاقبة لم تجد في سبيل تغطية عجز الميزانية بدا من الالتجاء إلى الاقتراض بل واعتباره كمورد. ولا غرابة في ظل هذا الوضع، أن نجد الحكومة الحالية وبدلاً من إعادة تقييم النهج السائد في التعامل مع السياسة الاقتصادية والمالية ومحاولة إيجاد هوامش جديدة لتمويل عجز الميزيانية، اكتفت كسابقاتها بالتوجه نحو المديونية، وقد عقدت ومنذ تنصيبها، سلسلة من القروض والتجأت في أكثر من مرة للاستدانة، ويكفي هنا الاطلاع على قانون المالية رقم 70.19 للسنة المالية 2020 وقانون المالية المعدل رقم 35.20 للسنة المالية 2020 هذا الأخير الذي جاء تحت وقع الأزمة التي خلفها تفشي فيروس كورونا بالمغرب، والذي ساهم في تصدع مختلف المؤشرات الماكرو-اقتصادية وفاقم من عجز الميزانية وبالتالي فاقم من معدل المديونية. ومن نافلة القول، الإشارة الى أن المغرب قد سدد بين 1983 و2011 إلى الخارج ما يفوق 115 مليار دولار منها ما يفوق 36.5 مليار درهم كخدمات الدين سنة 2011، كما بلغت تحملات الدين الخارجي العمومي من أصل الدين وفوائد وعمولات سنة 2014 ما مقداره 22.6 مليارات درهم مقابل 21.8 مليار درهم سنة 2013 مسجلة بذلك ارتفاعا طفيفا ب 737 مليون درهم، وضمن الصدد نفسه سترتفع الاعتمادات المفتوحة برسم السنة المالية 2020 في ما يتعلق بنفقات الدين العمومي من الميزانية العامة إلى أكثر من 93 مليار درهم، بحسب ما جاء في قانون المالية المعدل رقم 35.20 للسنة المالية 2020. وغني عن البيان، الإشارة إلى تواتر التقارير الرسمية وغير الرسمية بالمغرب والتي ما فتئت تؤكد تصاعد معدل المديونية العمومية وارتفاع نسبتها إلى مجموع الناتج الداخلي الإجمالي، وهنا نستحضر التقرير السنوي الذي رفعه والي بنك المغرب في 29 يوليوز 2020 إلى الملك حول الوضعية الاقتصادية والنقدية والمالية برسم 2017 الذي أشار إلى: "أن نسبة المديونية واصلت منحاها التصاعدي الذي بدأ سنة 2009، لتصل إلى 65.1 %من الناتج الداخلي الإجمالي بالنسبة مديونية الخزينة وإلى 82 % بالنسبة للدين العمومي الإجمالي... بحيث واصل الدين العمومي المباشر توجهه نحو الارتفاع حيث تزايد بواقع 0.2 نقطة إلى 65.15 %من الناتج الداخلي الإجمالي، مع العلم بأنه يتعين تخفيض هذا المؤشر إلى حوالي 60 %في أفق سنة 2021، انسجاما مع التزامات الحكومة برسم خط الوقاية والسيولة. وتفاقم الدين الداخلي بنسبة 4.8 %والخارجي بنسبة، 7.2%...". وبشيء من التدقيق في المعطيات والأرقام أكثر، فقد انتقل الدين العمومي الإجمالي للمغرب من 678 مليار درهم سنة 2013، إلى 743 مليار درهم سنة 2014، بما يعادل كما أشرنا سلفا 79.7 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي، يشكل الدين الداخلي أكبر نسبة منه، أي أن هناك تحولا في هيكل الدين العمومي لصالح الدين الداخلي. وما يهمنا في هذا المقال أكثر، هو تسليط الضوء على حجم على المديونية الخارجية للمغرب وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كذلك. فحسب ما جاء في تقرير سابق للمعهد الأمريكي للدراسات الاستراتيجية "ماكينزي McKenzie " برسم سنة 2015، يعتبر المغرب من بين أكثر البلدان مديونية في إفريقيا والعالم العربي وشمال إفريقيا، ذلك أن حجم ديون المغرب، جعلته يتبوأ المرتبة ال 29 عالميا والمرتبة الأولى إفريقيا. وذلك في تأكيد لخلاصات تقرير سابق للبنك الدولي سنة 2014، وضعت المغرب ضمن قائمة الدول العشر الأكثر استدانة بالعالم. ومما لا شك فيه، أن تزايد حدة الاستدانة من الخارج أدى إلى سقوط المغرب في فخ المديونية الخارجية، وهو الأمر الذي رهن ويرهن مصير عدة أجيال بفعل التابعات الاقتصادية والاجتماعية لهذا المسلك المالي والاقتصادي، على اعتبار أن التنمية الاقتصادية بواسطة الطرق التقليدية ومنها المديونية تعتريها عيوب قاتلة إذا ما استعملت لغير أغراض تحفيز وخلق وتشجيع التنمية. وليس هناك داع للتذكير، على هذا المستوى، على أنه وبفعل تصاعد معدل المديونية العمومية، فكل مغربي كان صغيرا أو كبيرا سيتحمل جزءا من عبء أقساط وفوائد القروض التي تعاقدت عليها مختلف الحكومات المتعاقبة، ناهيك عن الانعكاسات الأخرى الخطيرة على المسار التنموي للبلاد واستقلال قراره الاقتصادي والمالي والسياسي. وعلى ضوء ذلك، فقد انخرط المغرب ومنذ سنة 1983 وفي إطار ما يعرف "بالمشروطية الاقتصادية"، في الإذعان لسلسلة التوصيات المملاة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي كان من تجلياتها تخفيض الميزانيات الاجتماعية وبدء انسحاب الدولة من بعض القطاعات الحيوية، وإعمال برامج تقشفية ساهمت في تعميق الوضع المعيشي المزري لفئات واسعة من المجتمع المغربي. وإن تواتر الأرقام والمعطيات الرسمية الدامغة والدولية المؤكدة لارتفاع معدلات المديونية العمومية، لدليل على إخفاق الحكومات المتعاقبة في إعادة النظر بصورة جذرية في نموذج التنمية الاقتصادية المبني على الاستدانة وفي إيجاد حلول لهذا الإشكال البنيوي للميزانية العامة بالمغرب ويكفي هنا الإشارة الى خلو مشروع قانون المالية 2019 من أي إشارة الى أي إجراءات تهم اعتزام الحكومة التقليل من معدل المديونية وتخفيضه. وتأسيسا على ما سبق، بالنظر إلى أهمية المخاطر والرهانات المرتبطة بالدين العمومي سواء من حيث تأثيره على مؤشرات الاقتصاد الكلي والتوازنات العامة، وفي ظل النموذج الاقتصادي المرتكز على الاستدانة والعجز البنيوي المتواصل للميزانية العامة بالمغرب وتخصيص القروض لسد عجز الميزانية، تكمن الخطورة في محاولة علاج هذه القروض بمزيد من الديون -تسديد الديون بالديون من بين أفسد المعادلات الاقتصادية- وبالتالي البقاء في نفس الحلقة المفرغة. وبالتالي، فإن وضعا كهذا يحمل مخاطر المزيد من التبعية والارتهان الاقتصادي والمالي للجهات المقرضة، وإفساح المجال أمام هيمنة الطرح النيوليبرالي على السياسة الاقتصادية والمالية للمغرب. إزاء هذا الوضع غير المنضبط لقواعد الحكامة في تدبير المالية العمومية في جوانب كثيرة منه (والذي يصعب التنبؤ بانعكاساته السلبية وسيضر بالمالية العمومية لا محالة سواء على المدى القريب أو البعيد)، يمكن رصد عدد من المدخلات التي يمكن أن تخفف من تصاعد حجم المديونية، وفي هذا الإطار يمكن استحضار التوصيات السابقة للمجلس الأعلى للحسابات التي دعا فيها الحكومة إلى: - توسيع الوعاء الضريبي؛ التحكم في النفقات؛ العمل على تسريع وتيرة النمو بما يخفف من المديونية ويضمن القدرة على تحمل أعبائها على المديين المتوسط والطويل. وبالإضافة الى توصيات المجلس الأعلى للحسابات، فالحكومة الحالية -وإن لم يتبقى في عمرها الدستوري إلا القليل – والحكومة التي ستفرزها صناديق الاقتراع عقب الانتخابات التشريعية لسنة 2021، وباستحضار الأزمة التي خلفتها جائحة كورونا، مدعوين الى: بلورة استراتيجية عملية لتدبير الدين العمومي، قمينة بالتقليل من حجم المديونية العمومية وتجنيب المغرب مزالقها المعروفة وتابعاتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؛ العمل على تطوير سوق سندات الخزينة؛ ترشيد الإنفاق والإعفاءات الضريبية بكيفية تستجيب للأولويات الاقتصادية؛ تنزيل التوصيات المنبثقة عن المناظرة الوطنية الثالثة للجبايات المنعقدة بالصخيرات يوم 03 و04 ماي 2019؛ اعتماد الحكامة في تدبير الدين العمومي عبر التوفيق بين تلبية الحاجيات المالية للدولة وتسديد التزاماتها بأقل تكلفة ومخاطر في المديين المتوسط والطويل، (استنادا على عدة توجهات دولية منها ما تذهب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي ترى بأن ادارة المديونية العمومية يجب أن تنصب على ثلاثة أهداف أساسية: تلبية الحاجيات من الاقتراض، الحفاظ على مستوى مقبول من المخاطر والتقليل من حدة خدمة المديونية). *باحث في التدبير الإداري والمالي -كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال-الرباط الكاتب العام السابق لمنتدى الباحثين في العلوم الإدارية والمالية