"ارتفاع المديونية العمومية" غدا واحدا من العناوين الأساسية التي انتقلت إلى واجهة النقاش العمومي مجددا في المغرب، وذلك بعد أن صدر تقرير جديد خلال الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر للمجلس الأعلى للحسابات حول تنفيذ ميزانية الدولة برسم السنة المالية 2018، وقد جاء متضمنا لمجموعة من المعطيات والأرقام والملاحظات المفصلة والخلاصات المتعلقة بوضعية المالية العمومية في المغرب، ولعل أبرز نقطة توقف عندها هذا التقرير هي تلك المتعلقة بالمديونية العمومية، حيث توقف معدو هذا التقرير عند الارتفاع المستمر لمستوى المديونية العمومية. وفي الإطار نفسه، وطبقا لمقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 148 من الدستور، تقدم الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات يوم الثلاثاء 23 أكتوبر 2018 بعرض أمام البرلمان بغرفتيه حول أعمال المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات، أشار فيه هو الآخر إلى صعوبة ارتفاع الحجم الإجمالي للمديونية العمومية خلال الفترة ما بين 2010 و2017 حيث انتقلت المديونية العمومية من 534.1 مليار درهم إلى 970 مليار درهم مع متم 2017، لتنتقل بذلك حصته من الناتج الداخلي الخام إلى 91.2 في المائة. والحالة هذه، فقد واصل دين الخزينة العامة وتيرته التصاعدية، حيث بلغ مع نهاية السنة المالية 2017 ما يناهز 692.3 مليار درهم، بنسبة 65.1 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، أي بمديونية إضافية تصل إلى 35 مليار درهم. ومن جهة أخرى، وحسب التقرير ذاته، فقد واصلت مديونية المؤسسات العمومية والمقاولات العمومية (بشقيها المضمون وغير المضمون من طرق الدولة) مستواها التصاعدي؛ إذ بلغت ما يقارب 277.7 مليار درهم بنسبة 26.1 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، بدين إضافي يقدر ب 16.5 مليار درهم مقارنة مع سنة 2016، مع ملاحظة تشكيل الدين الخارجي لنسبة هامة من مديونية المؤسسات العمومية والمقاولات العمومية. وبالمحصلة، فإن الهدف الذي رسمته الحكومة لنفسها من خلال البرنامج الحكومي 2017-2021 لتقليص نسبة المديونية إلى 60 بالمائة من الناتج الداخلي الخام في أفق 2021، سيكون من الصعب بلوغه. وفي ظل هذه المعطيات القاتمة، كانت وماتزال المديونية العمومية (المديونية العمومية في شموليتها، أي بإضافة دين المؤسسات والمقاولات العمومية والجماعات الترابية والقطاع البنكي العمومي والمؤسسات ذات المنفعة العامة والقروض المضمونة من قبل الدولة) كواحدة من أعقد الإشكالات في تدبير المالية العمومية في الوقت الراهن، ومن بين أبرز التحديات أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ الشيء الذي ينذر بالمزيد من المخاطر التي ستكون لها انعكاساتها على الوطن والمواطن. فالمغرب يعد من بين الدول النامية التي تبنت نهج تمويل عجز الميزانية بالاقتراض، حيث إنه ما يزال يعاني ومنذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن من عبء ارتفاع المديونية العمومية مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي ومن آثارها السلبية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي داخليا. ولعل المتتبع والدارس لتدبير الشأن العام والمالية العمومية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة تستوقفه بدون عنت ملاحظة مهمة وهي تلك المتعلقة بالالتجاء المتكرر للاستدانة بشقيها الداخلية والخارجية، حتى غدا الأمر إشكالا بنيويا وتكرست الاستدانة عرفا لدى جل الحكومات المتعاقبة. فإذا كان من بين السمات البارزة للميزانية العامة بالمغرب، العجز المتكرر بفعل مجموعة من الأسباب والعوامل، فإن الحكومات المتعاقبة لم تجد في سبيل تغطية عجز الميزانية بدا من الالتجاء إلى الاقتراض، بل واعتباره كمورد. ولا غرابة في ظل هذا الوضع أن نجد الحكومة الحالية، بدلاً من إعادة تقييم النهج السائد في التعامل مع السياسة الاقتصادية والمالية ومحاولة إيجاد هوامش جديدة لتمويل عجز الميزانية، اكتفت كسابقاتها بالتوجه نحو المديونية، وقد عقدت منذ تنصيبها سلسلة من القروض والتجأت في أكثر من مرة للاستدانة، ويكفي هنا الاطلاع على مشروع قانون المالية لسنة 2019 الذي تضمن اعتزام الحكومة خلال العام القادم اقتراض 76.2 مليار درهم لسد حاجيات تمويل الخزينة العامة، وذلك على شكل ديون متوسطة وطويلة الأجل، عوض 68 مليار درهم المسجلة خلال 2018، أي بزيادة معدلها 12 في المائة. وفضلا على ذلك، فقد سدد المغرب، حسب بعض الدراسات، بين 1983 و2011 إلى الخارج ما يفوق 115 مليار دولار، منها ما يفوق 36.5 مليار درهم كخدمات الدين سنة 2011، كما بلغت تحملات الدين الخارجي العمومي من أصل الدين وفوائد وعمولات سنة 2014 ما مقداره22,6 مليار درهم، مقابل 21.8 مليار درهم سنة 2013، مسجلة بذلك ارتفاعا طفيفا ب 737 مليون درهم. في الصدد نفسه، سترتفع تحملات استهلاك الدين العمومي في ميزانية الدولة 2019 إلى 39.2 مليار درهم، بحسب ما جاء في تقرير الدين العمومي المصاحب لمشروع قانون المالية 2019 العام المقبل، 70.8 في المائة منها مبرمجة ضمن الميزانية العامة. وغني عن البيان، الإشارة إلى تواتر التقارير الرسمية وغير الرسمية بالمغرب التي ما فتئت تؤكد تصاعد معدل المديونية العمومية وارتفاع نسبتها إلى مجموع الناتج الداخلي الإجمالي، وهنا نستحضر التقرير السنوي الأخير الذي رفعه والي بنك المغرب في 29 يوليوز 2018 إلى الملك حول الوضعية الاقتصادية والنقدية والمالية برسم 2017 الذي جاء فيه: "إن نسبة المديونية واصلت منحاها التصاعدي الذي بدأ سنة 2009، لتصل إلى 65.1% من الناتج الداخلي الإجمالي بالنسبة لمديونية الخزينة، وإلى 82% بالنسبة للدين العمومي الإجمالي... بحيث واصل الدين العمومي المباشر توجهه نحو الارتفاع حيث تزايد بواقع 0,2 نقطة إلى 65,15% من الناتج الداخلي الإجمالي، مع العلم بأنه يتعين تخفيض هذا المؤشر إلى حوالي 60% في أفق سنة 2021 انسجاما مع التزامات الحكومة برسم خط الوقاية والسيولة. وتفاقم الدين الداخلي بنسبة 4.8% والخارجي بنسبة 7.2%". وفي المنحى ذاته، فإن الوقوف على التطور الإجمالي للمديونية العمومية يعطي صورة واضحة مبدئيا عن وتيرة هذا التصاعد. فبلغة الأرقام والمعطيات، فإن المنحى التصاعدي للمديونية بالمغرب أخذ في الارتفاع، حيث انتقلت من50.3% سنة 2010، و53.7% سنة 2011، و59.7% سنة 2012، و75.5% سنة 2013، لتصل إلى79.7 سنة 2014 (حسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط). وبشيء من التدقيق في المعطيات والأرقام أكثر، فقد انتقل الدين العمومي الإجمالي للمغرب من 678 مليار درهم سنة 2013، إلى 743 مليار درهم سنة 2014، بما يعادل كما أشرنا سلفا 79,7 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي، يشكل الدين الداخلي أكبر نسبة منه، أي إن هناك تحولا في هيكل الدين العمومي لصالح الدين الداخلي. وما يهمنا في هذا المقال أكثر، هو تسليط الضوء على حجم على المديونية الخارجية للمغرب وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كذلك. فحسب ما جاء في تقرير سابق للمعهد الأمريكي للدراسات الاستراتيجية "ماكينزي" (McKenzie) برسم سنة 2015، يعتبر المغرب من بين أكثر البلدان مديونية في إفريقيا والعالم العربي وشمال إفريقيا، ذلك أن حجم ديون المغرب جعلت يتبوأ المرتبة ال29 عالميا والمرتبة الأولى إفريقيا؛ وذلك في تأكيد لخلاصات تقرير سابق للبنك الدولي سنة 2014، الذي وضع المغرب ضمن قائمة الدول العشر الأكثر استدانة بالعالم. ومما لا شك فيه أن تزايد حدة الاستدانة من الخارج أدى إلى سقوط المغرب في فخ المديونية الخارجية، وهو الأمر الذي رهن ويرهن مصير عدة أجيال بفعل التابعات الاقتصادية والاجتماعية لهذا المسلك المالي والاقتصادي، على اعتبار أن التنمية الاقتصادية بواسطة الطرق التقليدية ومنها المديونية تعتريها عيوب قاتلة إذا ما استعملت لغير أغراض حفز وخلق وتشجيع التنمية. وليس هناك داع للتذكير، على هذا المستوى، بأنه بفعل تصاعد معدل المديونية العمومية، فكل مغربي كان صغيرا أو كبيرا سيتحمل جزءا من عبء أقساط وفوائد القروض التي تعاقدت عليها مختلف الحكومات المتعاقبة، ناهيك عن الانعكاسات الأخرى الخطيرة على المسار التنموي للبلاد واستقلال قراره الاقتصادي والمالي والسياسي. وعلى ضوء ذلك، فقد انخرط المغرب منذ سنة 1983، في إطار ما يعرف" بالمشروطية الاقتصادية"، في الإذعان لسلسلة التوصيات المملاة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي كان من تجلياتها تخفيض الميزانيات الاجتماعية وبدء انسحاب الدولة من بعض القطاعات الحيوية، وإعمال برامج تقشفية ساهمت في تعميق الوضع المعيشي المزري لفئات واسعة من المجتمع المغربي. وسعيا من المغرب للتخفيف من وطأة المديونية الخارجية والداخلية للخزينة، شرع منذ سنة 1996 في تطبيق ما يعرف ب"سياسة التدبير النشيط للديون" في الجانب المتعلق بالديون العمومية الخارجية للخزينة، لتهم العملية كذلك الديون العمومية الداخلية للخزينة سنة 2007، ولعل من معالم هذه السياسة تحويل الدين العمومي الخارجي إلى استثمار وإعادة تمويل الدين عبر تسديد الديون ذات سعر فائدة مرتفع قبل أن يحين وقت سدادها واستبدالها بديون جديدة بسعر فائدة أقل (شهدت سنة 2014 على سبيل المثال إنجاز 19 عملية تدبير نشيط للدين الداخلي، وهو عدد قياسي مقارنة بالسنوات الماضية. وقد مكنت هذه العمليات من شراء سندات الخزينة بمبلغ إجمالي يقدر ب 32مليار درهم، كما تميزت سنة 2014 بمواصلة سياسة التدبير النشيط للمديونية الخارجية الهادفة إلى التخفيف من عبئ المديونية على الاقتصاد الوطني والحد من تأثيرات المخاطر المالية المرتبطة بتقلبات أسعار الصرف ونسب الفائدة وكذا إعادة التمويل، كما قامت مديرية الخزينة والمالية الخارجية، خلال سنة 2014، بمعالجة حوالي 103,4 مليون درهم في إطار اتفاقيات تحويل الدين إلى استثمارات عمومية الموقعة مع كل من إسبانيا وإيطاليا، ليصل المبلغ الإجمالي للديون التي تمت معالجتها إلى ما يزيد عن 72,5 مليار درهم). وعلاوة على ذلك، تجديد آليات التفاوض بشأن اتفاقيات القروض الموقعة مع مجموعة من الدائنين بغية تقليص أسعار الفائدة الأصلية إلى مستويات تتلاءم مع أسعار الفائدة المعمول بها على الصعيد الدولي في مثل هذه المعاملات، كما وقد سبق –خلال الولاية الحكومية الحالية-أن وقع المغرب برنامجا ائتمانيا بموجبه أشرف صندوق النقد الدولي على برنامج تصحيحي للاقتصاد الوطني، انصب فيه التركيز على التوازنات الماكرو اقتصادية ومن ضمنها ضبط سقف معين للعجز الموازناتي والتضخم. بالإضافة إلى تفعيل العمل بمنصة التداول الإلكتروني لسندات الخزينة، حيث تم الشروع الرسمي بالعمل بمنصة التداول الإلكتروني لسندات الخزينة EBond-Maroc لشركة Bloomberg يوم 12 يناير 2015، مع البدء باستخدام وحدة B4C التي تسمح للمستثمرين، خاصة مؤسسات التوظيف الجماعي للقيم المنقولة والبنوك غير الوسيطة، بطلب التسعير للبنوك الوسيطة. وقد تم تفعيل ذلك في مرحلة سابقة من سنة 2013. إلا أنه وبالرغم من كل هذه المحاولات، فالأرقام والمعطيات الرسمية الدامغة والدولية المؤكدة لارتفاع معدلات المديونية العمومية ما فتئت تتواتر، وهي دليل على إخفاق الحكومات المتعاقبة في إعادة النظر بصورة جذرية في نموذج التنمية الاقتصادية المبني على الاستدانة وفي إيجاد حلول لهذا الإشكال البنيوي للميزانية العامة بالمغرب، ويكفي هنا الإشارة إلى خلو مشروع قانون المالية 2019 من أي إشارة إلى أي إجراءات تهم عزم الحكومة التقليل من معدل المديونية وتخفيضه. وتأسيسيا على ما سبق، وفي ظل النموذج الاقتصادي المرتكز على الاستدانة والعجز البنيوي المتواصل للميزانية العامة بالمغرب وتخصيص القروض لسد عجز الميزانية، تكمن الخطورة في محاولة علاج هذه القروض بمزيد من الديون-تسديد الديون بالديون من بين أفسد المعادلات الاقتصادية-وبالتالي البقاء في الحلقة المفرغة نفسها. وعليه، فإن وضعا كهذا يحمل مخاطر المزيد من التبعية والارتهان الاقتصادي والمالي للجهات المقرضة، وبالتالي إفساح المجال أمام هيمنة الطرح النيوليبرالي على السياسة الاقتصادية والمالية للمغرب. إزاء هذا الوضع غير المنضبط لقواعد الحكامة في تدبير المالية العمومية في جوانب كثيرة منه (الذي يصعب التنبؤ بانعكاساته السلبية والذي سيضر بالمالية العمومية لا محالة، سواء على المدى القريب أو البعيد)، يمكن رصد عدد من المدخلات التي يمكن أن تخفف من تصاعد حجم المديونية. وفي هذا الإطار، يمكن استحضار التوصيات الأخيرة للمجلس الأعلى للحسابات التي دعا فيها الحكومة إلى: - توسيع الوعاء الضريبي. - التحكم في النفقات. - العمل على تسريع وتيرة النمو بما يخفف من المديونية ويضمن القدرة على تحمل أعبائها على المديين المتوسط والطويل. وبالإضافة إلى توصيات المجلس الأعلى للحسابات، فالحكومة مدعوة، حتى نهاية ولايتها في 2021، إلى: - بلورة استراتيجية عملية لتدبير الدين العمومي، قمينة بالتقليل من حجم المديونية العمومية وتجنيب المغرب مزالقها المعروفة وتابعاتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. - العمل على تطوير سوق سندات الخزينة. - ترشيد الإنفاق والإعفاءات الضريبية بكيفية تستجيب للأولويات الاقتصادية. - تنزيل توصيات المناظرة الوطنية حول الضرائب لسنة 2013. - اعتماد الحكامة في تدبير الدين العمومي عبر التوفيق بين تلبية الحاجيات المالية للدولة وتسديد التزاماتها بأقل تكلفة ومخاطر في المديين المتوسط والطويل (استنادا إلى عدة توجهات دولية، منها ما تذهب منظمة إليه التعاون الاقتصادي والتنمية التي ترى أن إدارة المديونية العمومية يجب أن تنصب على ثلاثة أهداف أساسية: تلبية الحاجيات من الاقتراض، والحفاظ على مستوى مقبول من المخاطر، والتقليص من حدة خدمة المديونية). *باحث في التدبير الإداري والمالي [email protected]