لقد أصبحت الحكامة الجيدة تشكل مطلبا أساسيا في النظام الإداري المغربي، ليس فقط كأسلوب في التدبير، بل كمنهج في التفكير والتعامل على مختلف الصعد، وفي المؤسسات كافة. وكونها أصبحت مطلبا أساسيا لا يعني أنها تحولت إلى قاعدة متبعة، ولكنها تؤشر على الأقل إلى احتمالات قيام منهج جديد في التفكير والاتباع. وتبعا لهذا المطلب، أقدمت مصالح وزارة الداخلية في الآونة الأخيرة على إنفاذ مجموعة من التغييرات على مستوى مديرياتها بالإدارة المركزية، وذلك بموجب قرار لوزير الداخلية رقم 2111.20 صادر في 08 ذي الحجة 1441 الموافق ل 29 يوليوز2020 بتحديد اختصاصات وتنظيم الأقسام والمصالح التابعة للمديريات المركزية لوزارة الداخلية، في إطار تنفيذ المرسوم رقم 2.19.1086 الصادر في 4 جمادى الثانية 1441 الموافق ل 3 يناير2020 بتحديد اختصاصات وتنظيم وزارة الداخلية، الذي تم بموجبه إحداث وهيكلة مجموعة من المديريات وتغيير أسماء مديريات أخرى. وتبعا لذلك، يبدو أن المرسوم الجديد جاء خصيصا لاستكمال مقتضيات المرسوم المشار إليه أعلاه، عبر تبيان المكونات الجديدة لكل مديرية من أقسام ومصالح، علاوة على تحديد طبيعة الأقسام والمصالح التابعة للمديريات الجديدة. وعموما، ما يميز هذه الهيكلة الجديدة على مستوى دلالتها ومقاصدها هو المكانة الخاصة التي أعطيت لنظام الحكامة الجيدة؛ باعتبارها الأداة الرئيسية لتوجيه مصالح وزارة الداخلية باتجاه تحقيق خدمات جيدة لفائدة المرتفقين. وعلى هذا الأساس، وجدت وزارة الداخلية ذاتها مدعوة إلى تجديد هياكلها، وبنياتها وأساليب إدارتها للشأن العام، انسجاما مع مجموع التحولات التي عرفتها الدولة المغربية منذ صدور الوثيقة الدستورية الأخيرة في 29 يوليوز 2011، التي عملت على إرساء الأسس السليمة لمنظومة الحكامة الجيدة، من زاوية كونها المرجع الأساس الذي ينبغي أن يحكم تدبير مختلف الإدارات والمرافق العمومية. تبعا لذلك، فان المستجدات الجديدة التي عرفتها مديريات الإدارة المركزية بوزارة الداخلية تكتسي أهمية خاصة من عدة نواحي: أولا: يعتبر التغيير تحديا رئيسيا بالنسبة للإدارة العمومية، من زاوية كونه فرصة مواتية للقيام بأشياء جديدة ومختلفة، الهدف منها ربط مخرجات الحاضر بصناعة المستقبل. ذلك أن مرور سنوات طويلة من الزمن على الهيكلة القديمة لوزارة الداخلية جعلها متجاوزة في جزء من مكوناتها ومهامها، وغير قادرة على المزاوجة بين الأداء والنتائج. فمما لا شك فيه أن الأسباب الموجبة للتغيير والتجديد متعلقة في جزء منها بعامل الزمن، الذي يفرز بين الفينة والأخرى مطالب وتصورات ومقترحات للإصلاح تتراكم سنة بعد أخرى، مشكلة بذلك داعيا حقيقيا للشروع في التغيير، وهذا ما نلمسه في مشروع وزارة الداخلية. ثانيا: تجاوز حالات التأخر التي طبعت عملية التدبير الإداري الناتجة عن عدم مقدرة الجيل القديم من المديريات على الانخراط بإيجابية في الدينامية التي أحدثها دستور 29 يوليوز 2011، والمنظومة الكبرى من النصوص التشريعية والتنظيمية المصاحبة له، خصوصا ما يتعلق بالجماعات الترابية، وتدبير المخاطر الطبيعية، والإصلاحات المهمة التي تضمنها ميثاق تدبير المرافق العمومية، ومستجدات اللاتمركز الإداري، وهندسة تدبير الموارد البشرية، ورقمنة الإدارة... ثالثا: المساهمة في تعزيز دولة الحق والقانون من خلال مواكبة الإصلاحات التي عرفها مجال القضاء في هذا المجال، حيث أصبح-مثلا-تنفيذ الأحكام القضائية أمر لا مفر منه لتحقيق الأمن القضائي، ولصيانة حقوق وحريات الأفراد، رغم ما يترتب على ذلك من تعويضات مالية تكاد تكون مرهقة لميزانية وزارة الداخلية والجماعات الترابية، لذلك وجب إيلاء العناية اللازمة لكل الآليات، التي يكون بمقدورها تقديم مختلف أنواع الدعم القانوني، والمشورة على مستوى الإجراءات والمساطر التي يستدعيها التدخل لدى المحاكم من أجل الدفاع عن مصالح وزارة الداخلية والجماعات الترابية في مواجهة الإدارة والغير. رابعا: الانفتاح على مناهج التدبير الحديثة التي تستوعبها أنظمة الحكامة الجيدة، والتي تستوجب اعتماد وتمثل مبادئها، صوب تحقيق تدبير رشيد للموارد البشرية والمالية، بما يضمن الترسيخ المعياري والعملي لقواعد تتصل بتصور السياسات العمومية وتفعيلها، في سياق استلهام أساليب للحكم والإدارة، تضمن التدبير الأمثل والتنسيق الناجع للعمل العمومي على كل مستوى من مستويات الإدارة الترابية. وإذ لا جدال في أن هذه الأسباب المعيارية تكاد تكون العوامل الفاعلة في عملية التغيير التي باشرتها وزارة الداخلية، والتي من المفروض أن تسعى في أبلغ مراميها إلى ترسيخ إدارة سلسلة وبسيطة، انسيابية في قراراتها، سواء تعلق الأمر بالإدارة المركزية ومصالحها اللاممركزة على مستوى الجهات والعمالات والأقاليم، أو ما يخص الخدمات المختلفة والكثيرة التي تقدمها للمرتفقين. وعليه، يلاحظ حضور هاجس الحكامة وبقوة في مضامين هذه الهيكلة كمحدد لدينامية التغيير، وكتحدٍّ لسيرورة العمل الإداري بهذه الوزارة. وترتيبا على ذلك، يمكن تحديد مظاهر الحكامة الجيدة الواردة في الهيكلة الجديدة لوزارة الداخلية في العناصر التالية: إحداث وإلغاء وإعادة تسمية بعض المديريات: انسجاما مع فلسفة توزيع العمل، ومسايرة منها للمطالب الجديدة الواردة في النصوص التشريعية والتنظيمية المنبثقة عن الوثيقة الدستورية ل 29 يوليوز 2011، عمدت وزارة الداخلية إلى تغيير تسمية المديرية العامة للجماعات المحلية، حيث عوضت اصطلاح "المحلية" بالترابية، وفي هذا تضمين لمعاني ومرامي القرب. وإحداث مديريات جديدة كمديرية الشؤون القانونية والمنازعات ومديرية التواصل، ومديرية تدبير المخاطر الطبيعية، ومديرية الموارد البشرية. كما سلك المشرع مسلك الدمج من خلال دمج-مثلا-مديرية تكوين الأطر الإدارية والتقنية في إطار مديرية تنمية الكفاءات والتحول الرقمي. وهي تابعة للمديرية العامة للجماعات الترابية... توسيع مجالات الإشراف والمساعدة والرقابة على الجماعات الترابية: كما هو معلوم أن الوضع المتقدم للجماعات الترابية في دينامية التنمية الترابية يفتح أمامها آفاقا عريضة للتدخل في كل مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، موفرا لها المشرع قاعدة من الاختصاصات الذاتية، ومزيدا من الموارد (تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة، ص: 22-23). وأمام جسامة هذه المهام، كان طبيعيا أن تتكون هذه المديرية العامة من 7 مديريات بعدد أقسام يبلغ 37 قسما بمعدل ثلاث مصالح لكل قسم (تقريبا 111 مصلحة)، وهذا الرقم الكبير يوضح أهمية هذه التعديلات التي ستسمح باتخاذ كافة التدابير المساعدة للجماعات الترابية على القيام بمهامها الجديدة في ميادين التخطيط والتأهيل، والدراسات القانونية والتنظيم، ومواكبتها في كل ما يتعلق بالتعاقد بينها وبين الدولة. ولأجله، نصت الهيكلة الجديدة على إحداث قسم عقود البرامج، الذي سيؤطر مختلف مسارات هذه الآلية في أفق جعل الجماعات الترابية قادرة على التحكم فيها. وهذا نموذج من الأسباب الموجبة لهذا التغيير. ترسيخ قيم النجاعة والفعالية والمردودية: ويتجلى ذلك أساسا في التسميات التي طالها التغيير بالنسبة لمجموعة من المديريات والأقسام والمصالح، وهكذا يمكن الحديث عن البرمجة والتخطيط والتأهيل وتتبع الشراكات والتقييم والتنسيق والمشاريع الكبرى، وتتبع وتقييم مؤشرات التنمية وتحديث أساليب التدبير والدراسات والتعاقد وتقييم مؤشرات الأداء وتعزيز الحكامة ومقاربة النوع وتبسيط المساطر... فكل هذه التسميات تندرج ضمن الآفاق التدبيرية المنوط بها إحداث التحولات الضرورية من طرف المصالح المركزية لوزارة الداخلية وفق مبادئ النجاعة والفعالية والمردودية. وهي قيم ستساهم لا محالة في توفير القدرة على تنفيذ المشاريع بنتائج تستجيب إلى احتياجات المواطنين وتطلعاتهم على أساس إدارة عقلانية وراشدة للموارد (مفهوم الحكم الصالح: حسن كريم، الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية، 2004، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، ص: 104). تعزيز دولة الحق والقانون: تعتبر المعلومة القانونية مهمة ومصيرية بالنسبة لكل التدخلات الإدارية. فإذا كانت المشروعية القانونية تقتضي ممارسة السلطة في إطار الحدود الشكلية والجوهرية للقوانين المعمول بها، فإنه من اللازم أن تتوفر هذه الوزارة التي تتميز بتعدد مجالات تدخلها في تدبير الشأن العام على جهاز تناط به مهمة تقديم الاستشارة والمواكبة القانونية لمختلف مصالح الوزارة على المستويين المركزي والترابي، وعلى هذا الأساس، تضمنت الهيكلة الجديدة مديرية للشؤون القانونية والمنازعات، تتمثل مهامها بالإضافة إلى هذه الجزئية، في كل ما يشمل إعداد ودراسة مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية. ليس هذا فقط، بل السهر على تدبير ملفات المنازعات. إضافة إلى اختصاصات أخرى تشمل التنسيق، وتقديم الدعم والمواكبة القضائية، مع ما يستلزم ذلك من مهام اليقظة القانونية الواجبة لتكريس وتعزيز وترسيخ دولة الحق والقانون، سواء كان ذلك لصالح المرتفقين أو لصالح المرافق العمومية، ففي أحيان كثيرة تضيع مصالح هذه الأخيرة لأسباب ترجع إلى الاستهانة بطبيعة الملفات، وعدم الإلمام بالمساطر القانونية والقضائية، ولا سيما ما يتعلق باستئناف الأحكام القضائية واحترام آجال المساطر التي يجب تقديم الطعون داخلها، فتجد مديرية معينة ذاتها في مواجهة أحكام قضائية مكلفة لميزانية وزارة الداخلية. الأمر الذي يفرض عليها احتراما لدولة الحق والقانون الشروع في تنفيذ الأحكام القضائية النهائية الحائزة لحجية الشيء المقضي به. مواكبة التنمية المستدامة: يبقى أهم وأبرز تعديل أتت به الهيكلة الجديدة لوزارة الداخلية هو إحداث مديرية تدبير المخاطر الطبيعية، التي تعنى بالمساهمة إلى جانب باقي القطاعات الحكومية المختصة في وضع وتنفيذ السياسة الحكومية المتعلقة بتدبير المخاطر الطبيعية والحد منها، وإعداد مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية المرتبطة بها. وكذا المساهمة في وضع المخططات الوطنية للوقاية من المخاطر الطبيعية وآليات المراقبة، بالإضافة إلى المشاركة في إعداد وتنفيذ الاتفاقيات الدولية ذات الصلة. وتسهر على دعم العمالات والأقاليم في تدبير المخاطر وفق التوجهات الوطنية، وعلى إعداد وتتبع تنفيذ البرنامج السنوي للحساب المرصد لمحاربة الكوارث الطبيعية. وتبعا لهذه المقتضيات، ستلعب هذه المديرية دورا كبيرا في القيام بدراسات معمقة حول الكوارث الطبيعية، ووضع الركائز الأساسية لسياسة تدبير هذه الأخطار، وتجاوز انعكاساتها السلبية بل والكارثية على المحيط الايكولوجي للإنسان. فهذا الجهاز المديري سيكون بمثابة آلية لالتقائية التدخلات الأفقية الخاصة بوزارة الداخلية، وبين هذه الأخيرة وباقي القطاعات الحكومية المتدخلة في هذا المجال. هندسة جديدة لتدبير الموارد البشرية: في ظل الهيكلة القديمة لم تكن مصالح وزارة الداخلية بالإدارة المركزية تتوفر على مديرية مكلفة بتدبير الموارد البشرية، بل مجرد قسم تابع لمديرية الشؤون الإدارية، تتمثل وظيفته في التسيير العادي لشؤون الموظفين. ومن هنا، حرص المشرع على الارتقاء بهذا القسم إلى مستوى مديرية مركزية؛ وهذا مؤشر أول يمكن من خلاله قياس أهمية هذا الإصلاح. أما المؤشر الثاني فيتجلى في تجاوز النمط الكلاسيكي في تسيير الموارد البشرية باتجاه منهج جديد في التدبير يولي أهمية كبرى لعملية تدبير المسارات، ما يسمح بتحقيق التوازن بين حاجيات الإدارة من جهة ومواردها البشرية من جهة أخرى. تسريع برامج رقمنة الإدارة: تعد رقمنة العمل الإداري بمصالح وزارة الداخلية، سواء المركزية أو الترابية، واحدة من أقوى الوسائل المعول عليها في تحسين وتطوير الخدمات الإدارية لفائدة المرتفقين، فهي رافعة أساسية لتحديث المرافق العمومية التابعة لوزارة الداخلية، التي تتسم في الأصل بالتعدد والتنوع. حيث يلاحظ أن ثمة ضغطا كبيرا على مصالحها فيما يخص عددا جد مهم من الوثائق الإدارية الضرورية، مما يلزم مد الأجهزة الإدارية بكل ما يلزم من أدوات تكنولوجية عصرية تيسر قضاء المواطنين والمواطنات لمصالحهم الإدارية دون الحاجة إلى كثرة التنقل والاحتكاك بالإدارة، الذي يعد السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة الرشوة واستغلال النفوذ. وحيث إن وزارة الداخلية باتت مطالبة بالاجتهاد في جانب على قدر كبير من الأهمية، يتمحور حول تقليص الفجوة الرقمية بينها وبين باقي الإدارات العمومية التي حققت تراكمات مهمة في هذا المجال كما هو الشأن بالنسبة لوزارة الاقتصاد والمالية، بالإضافة إلى تحسين تموقع المغرب على المستوى الدولي نظرا لمحورية وزارة الداخلية في النسق الإداري الوطني، فقد عملت الهيكلة الجديدة لوزارة الداخلية على تطوير وتحديث مديرية أنظمة المعلومات والاتصالات، خصوصا أقسام المصنع الرقمي وأمن أنظمة المعلومات والهندسة المعلوماتية... وهي عناوين كبرى لمصالح استراتيجية في منظومة التطوير الرقمي لوزارة الداخلية. الرؤية الاستراتيجية: هي الرؤية المنطلقة من المعطيات الثقافية والاجتماعية الهادفة إلى تحسين شؤون الناس وتنمية المجتمع والقدرات البشرية. وانطلاقا من هذه الأهمية المصيرية بالنسبة لتدبير أكثر حكامة، يلاحظ اشتمال مجموعة من المديريات على مصالح تعنى بالتخطيط والتوقع والاستشراف. وهذا حال المديرية العامة للجماعات الترابية التي جعلت مديرية التخطيط في مقدمة مديرياتها. وهكذا دواليك بالنسبة لباقي المديريات. عموما، تشكل الهيكلة الجديدة لوزارة الداخلية قيمة مضافة في مسلسل التحديث الإداري بالمغرب، ومن ثم لا بد من الإقرار بمشروعيته بالنظر إلى أهدافه الراهنة، حيث إن الإصلاحات الإدارية التي ترضي الجميع تبقى ضربا من ضروب الخيال. وأمام أهمية هذا الإصلاح، فإن الرهان الأساس الذي ينبغي أن تشتغل عليه وزارة الداخلية يتمثل في العنصر البشري؛ فالسلوك الإنساني هو العامل الحاسم في الإدارة، وهو يمثل أحد المحددات الأساسية لكفاءتها وإنتاجيتها. ونتيجة لذلك، وجب إيلاء العناية اللازمة للموارد البشرية في شقين أساسيين: أما الشق الأول فيرتبط باستحضار البعد المعياري في اختيار مناصب القيادة الإدارية بهذه المديريات، في حين يتمحور الشق الثاني حول الاهتمام بالتكوين والتكوين المستمر لأجل إعداد الأطر الإدارية المؤهلة للاضطلاع بالمهام الجسيمة المنوطة بالمديريات المؤثثة للهيكلة الجديدة لوزارة الداخلية. *دكتور في القانون العام إطار بوزارة الداخلية