تاريخ طويل وممتدّ عبر الأزمنة ذاك الذي يطبع حياةَ الدولة التركية انطلاقا من الإمبراطورية العثمانية خصوصا، التي شهدت قوة عسكرية وامتدادا جغرافيا لم يتكرّر. ومنذ عقد ونيف، عاد صوت تركيا يتعالى من جديد، لتحاول إعادة رسم معالم حوض البحر الأبيض المتوسط، كقوة جديدة في المنطقة، حيث نجحت في استغلال أكثر من ظرفية، على رأسها ما سمي بالربيع العربي. فماذا ربحت تركيا وماذا خسرت؟ وهل أجادت حقّا اللعب على التوازنات السياسية أم إنها فقدت البوصلة وبدأت تخبط خبط عشواء؟ يحاول الدكتور يوسف شهاب، أستاذ العلوم الجيو-استراتيجية والتنمية الدولية بجامعة السربون الفرنسية، من خلال المقال التالي أن يكشف هذه التفاصيل وغيرها. وهذا نص المقال: لقد عاش حوض البحر الأبيض المتوسط، أو ما يعرف بمهد الإنسانية، بعيدا عن الحروب، سواء في شرقه أو في وسطه. كما عاشت بحيرة المتوسط منذ قرون تحت نفوذ أوروبا في شمالها والدول العربية في جنوبها. تطورت أيضا بعيدا عن الحرب الباردة وعن الصراع العربي الإسرائيلي، واحتوت خطر التصعيد العسكري بين تركيا واليونان بخصوص الوضع القانوني الخاص لجزيرة قبرص. ولكن مع مرور الزمن بدأت تتغير معالم البحر الأبيض المتوسط مع صعود وقوة الدولة التركية. بدأت تركيا تعيد رسم خريطة التوازن الجيو-سياسي والاقتصادي مع حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان منذ 2003، حيث اتضحت معالم الرجوع إلى أمجاد وهيمنة الإمبراطورية العثمانية وإعادة النظر في التوازنات السياسية للعقيدة الأمنية للدولة التي بنتها تركيا على العلمانية ودور المؤسسة العسكرية كآليات الاندماج الاستراتيجي بين الشرق الأوسط وأوروبا وتواجدها بحلف الشمال الأطلسي. نجحت تركيا في الاستفادة من عضويتها في حلف الشمال الأطلسي لتقوية ترسانتها العسكرية والاقتصادية لتفرض وجودها إقليميا كفاعل جيو-سياسي لتأمين مناطق الاحتكاك العسكرية بين أمريكا، إسرائيل وروسيا. نجحت تركيا أيضا في ترويض واستثمار النزاع العربي الإسرائيلي حيت كانت سباقة في إقامة علاقات ديبلوماسية مع الدولة العبرية بشكل متقاطع بين التطبيع والتصعيد مع تل أبيب بخصوص الملف الفلسطيني وإبان الحصار الشامل على قطاع غزة. استغلت أيضا تركيا فزع الأمريكيين إبان تفجيرات 11 شتنبر 2001 وتوسع رقعة خطر تنظيم القاعدة للحصول على دعم عسكري وسياسي أمريكي لاستدراك خلل التوازنات العسكرية بينها وبين عدوها الإقليمي اليونان. وفي الوقت نفسه كانت تركيا تحرص على إيجاد توازن سياسي في المنطقة لإيجاد صياغة استراتيجية للمعادلة الأمنية التي تتجلى في تحالفها مع القطب الأمريكي–الإسرائيلي وضرورة الحفاظ على علاقاتها مع الدول العربية، وخاصة دول الخليج، حيث اصطنعت أزمة دبلوماسية مع إسرائيل عبر استقطاب القضية الفلسطينية وتهديد كل من سوريا والعراق بتجفيف منابع دجلة والفرات المتواجدة فوق التراب التركي. لكن كما يقول المثل "قد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"؛ حيث إن التاريخ والجغرافيا رجعا من جديد لنسف العقيدة الأمنية والاستراتيجية للنظام التركي وبداية سياسة المغامرة والتصعيد كرد أردوغان على حدثين سياسيين أقحما تركيا في مصير مجهول وقابل للالتهاب. الحدث الأول يتجلى في قرار الاتحاد الأوروبي إغلاق الباب نهائيا في وجه اندماج تركيا؛ حيث استعملت فرنسا حق الفيتو لوضع حد للحلم التركي استنادا إلى الجغرافيا التي تصنف67 بالمائة من التراب التركي في آسيا وبناء على كون النظام السياسي التركي ذا مرجعية إسلامية ولا يحترم ميثاق حقوق الإنسان. فاعتبرت تركيا هذا القرار، الذي تتزعمه فرنسا، صفعة لأردوغان أساسها الحقد الدفين الذي تكنه فرنسا لتركيا. الحدث الثاني يتجلى في اندلاع ما يسمى بالربيع العربي؛ حيث اعتبرت أنقرة أن "مصائب قوم عند قوم فوائد"، وأن نوايا تركيا التوسعية في البحر المتوسط وجدت طريقها. تساقطت الأنظمة العربية الواحدة تلو الأخرى (تونس–ليبيا–مصر–سوريا–العراق) وحل محلها الدمار وأخطبوط الدولة الإسلامية بالعراق والشام التي وجهت ضربات موجعة للدول الأوروبية واستوطنت الإرهاب والجهاد في قلب أوروبا. تزامنُ إقصاء تركيا من الاتحاد الأوروبي واندلاع الربيع العربي غيّر التوازنات الأمنية والاستخباراتية في البحر الأبيض المتوسط وجعل من السواحل الجنوبية (ليبيا وتونس) قواعد جديدة لتدفق عشرات الآلاف من المهاجرين ومئات الجهاديين، واستغلت تركيا موقعها الاستراتيجي كهمزة وصل بين الاتحاد الأوروبي وسوريا لتسهيل عبور الجهاديين من أصول أوروبية إلى عمق التراب السوري والعراقي؛ حيث رفعت إجبارية التأشيرة عن الدول العربية وسهلت مرور الخلايا الجهادية من شمال إفريقيا عبر ليبيا وتونس، وحرضت الجهاديين من أصول أوروبية للدخول إلى سوريا. استغلت تركيا هذا السياق الجيو-سياسي والانفلات الأمني وتدفق آلاف المهاجرين والإرهابيين لابتزاز الاتحاد الأوروبي؛ حيث صوت البرلمان الأوروبي عن مقايضة مالية تقدر بثلاثة مليارات يورو سنويا بين 2013 و2018 مقابل تدخل تركيا لتجفيف ترابها من الجهاديين وتبادل المعلومات الاستخباراتية. كما اعتبرت أوروبا تركيا حليفا فرضته المعطيات الملتهبة، وبذلك يكون أردوغان قد أخذ بثأره ولو ظرفيا من سد الباب الأوروبي في وجه تركيا وعداء فرنسا لحزب العدالة والتنمية. اعتبرت تركيا الركوع الأوروبي كانتصار سياسي وكضوء أخضر من الولاياتالمتحدة الأمريكية وحلف الشمال الأطلسي للدخول على الخط في القضية الليبية بمباركة من بعض الدول العربية. كما اعتبرت، في السياق نفسه، أن عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على التحرك عسكريا في البحر الأبيض المتوسط (سوريا–ليبيا) هي إشارة لتركيا للاهتمام بمصالح جيو-استراتيجية جديدة في بحر إيجة وقبرص للتنقيب على الغاز الطبيعي. استغلت تركيا بدهاء أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والاختلاف العلني بين فرنسا وايطاليا بخصوص الملف الليبي لترسخ عقيدة الدولة الجديدة التي تجمع بين التيار القومي التركي الذي استدركه تاريخ الإمبراطورية العثمانية، ضعف التيار العلماني الذي بدأ يتلاشى داخليا وتثمين القوة الاقتصادية الصاعدة التي تفتخر بها تركيا قياسا بدول أوروبية كاليونان، البرتغال، إسبانيا وفرنسا وهي الدول الأكثر تضررا من المديونية، من البطالة ومن تداعيات الأزمة المالية العالمية التي عصفت بدول الاتحاد الأوروبي. في هذا السياق والسباق نحو الريادة بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، تعتمد تركيا سياسة التقارب مع الأحزاب الإسلامية إبان اندلاع الربيع العربي كتيار الجماعة الإسلامية في مصر، وحزب النهضة في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وحزب النور في الجزائر، وحزب التواصل في موريتانيا، والنظام السياسي في دولة قطر، وممثلي المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا. وعموما، دخلت تركيا منذ ولاية نيكولا ساكوزي في علاقة تصعيدية وخطيرة مع فرنسا، وذلك انطلاقا من تصدع الاتحاد الأوروبي بخصوص الوضع في ليبيا والبحر المتوسط عموما. فقد ثمنت تركيا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ودعم إيطاليا لأردوغان وتخوف ألمانيا، لكونها تحتضن فوق ترابها أكبر جالية تركية في أوروبا، لعزل فرنسا والوقوف أمامها الند للند، خاصة في غياب تحرك حلف الشمال الأطلسي ودخول أمريكا في الحملة الانتخابية وتفكك موقف الدول العربية بخصوص الملف الليبي والتطبيع مع إسرائيل. يبقى السؤال: لماذا هذا التصعيد والحقد بين فرنسا وتركيا؟ الأسباب تاريخية، سياسية، استراتيجية واستخباراتية. على المستوى التاريخي، تعتمد تركيا على توظيف التاريخ لتفسير عدائها لفرنسا. ففي كثير من المناهل والكتب المدرسية، تعتمد تركيا على إحياء مجد وقوة الإمبراطورية العثمانية وتتهم فرنسا بكونها المسؤولة عن اقتطاع جزء من ترابها سنة 1830 عبر احتلال الجزائر وإدماجها ضمن أقاليم فرنسا ما وراء البحار. من جهة أخرى، لم تغفر تركيا لفرنسا التي أهانت الإمبراطورية العثمانية في معاهدة فرساي سياسيا واقتصاديا، كما تشير صراحة إلى فرنسا بكونها وراء معاهدة سيكس–بيكو السرية سنة 1916، التي بمقتضاها تم تفكيك الدولة العثمانية ونعتها بالرجل المريض وتداعيات ذلك على جغرافية الشرق الأوسط. على المستوى السياسي، تتهم تركيا علنا فرنسا بكونها استعملت قضية إبادة الشعب الأرميني سياسيا وديبلوماسيا للإقصاء النهائي واللارجعي لطلب تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي المقابل، في زيارة إلى الجزائر، قام الرئيس أردوغان بتأجيج نار الفتنة والغضب حين تعرض في خطابه أمام البرلمان الجزائري لمسؤولية فرنسا في إبادة الشعب الجزائري، تكلم أردوغان عن إبادة الشعب الجزائري المسلم بأرقام محرجة تضع الأصابع على أكبر الطابوهات السياسية في العلاقات الجزائرية الفرنسية. غير أن فرنسا تدرك خلفيات هذا التصعيد بتوظيف ذاكرة الشعب الجزائري، التي مفادها استعمال تركيا لهذه الورقة كحصان طروادة لولوج مناطق النفوذ الاقتصادية الحيوية لفرنسا بشمال إفريقيا والصحراء والساحل. كما ألقى أردوغان مسؤولية سقوط الدولة الليبية على عاتق فرنسا عبر عمليتها العسكرية المشتركة مع بريطانيا لإسقاط نظام القذافي. على المستوى الاستراتيجي، دخلت تركيا على الخط بخصوص تقسيم الدولة الليبية؛ حيث اختارت حليفها السراج وقامت بتسليح وإنزال ميليشيات المعارضة لبشار ودعم المجلس الوطني الانتقالي بتحالف مع إيطالياوقطر. في المقابل، ساندت فرنسا اللواء حفتر ودعمته بالسلاح، بالاستخبارات والدبلوماسية بتحالف مع الإمارات العربية المتحدة، مصر والعربية السعودية، رغم الشرعية الدولية الموالية للسراج التي كرستها لقاءات الصخيرات وصادقت عليها الأممالمتحدة. في السياق الجيو-استراتيجي نفسه، بدأت تركيا في نشر بوارجها العسكرية في شرق المتوسط وقرب سواحل بحر إيجة للتمهيد لشركاتها المتخصصة في التنقيب عن الغاز الطبيعي بتنسيق سري مع شركات أمريكية. تستغل تركيا هذه الظرفية والأزمة العالمية (فيروس كورونا) لإعادة ترسيم حدودها البحرية مع اليونان التي لم يعد بإمكانها الصمود أمام القوة العسكرية التركية لحل النزاع حول السيادة المشتركة على جزيرة قبرص. ومرة أخرى، تدخل فرنسا في مواجهة شبه عسكرية مع تركيا لحماية الحليف اليوناني بناء على ميثاق الاتحاد الأوروبي للدفاع، رغم أن كلا من تركيا وفرنسا واليونان أعضاء في حلف الشمال الأطلسي. المستوى الاستخباراتي هو الآخر يعيش توترات منذ الربيع العربي؛ حيث إن الأجهزة الأمنية الفرنسية تتهم تركيا بكونها دولة للعبور للجماعات الجهادية من أصول أوروبية وعودة ما يقارب 1500 جهادي من سوريا والعراق إلى أوروبا عامة، وفرنسا بوجه الخصوص، عبر التراب التركي. الشيء الذي أدى إلى شراء الأمن مقابل مبالغ مالية تدفعها أوروبا لتركيا تقدر بثلاثة مليارات يورو سنويا، صوت عليها البرلمان الأوروبي باسم احتواء الإرهاب والهجرة السرية على الحدود اليونانية انطلاقا من التراب التركي. انطلاقا من تحليل هذه المستويات المتراكمة التي تكرس العداء المتبادل بين فرنسا وتركيا، يمكن استخلاص دور ومسؤولية أردوغان في إشعال النار في البحر الأبيض المتوسط. كما أن هذه الخلافات التركية-البحر متوسطية تدل على ارتباك العقيدة السياسية والأمنية للحزب الحاكم بأنقرة. فبعد أن فشل في إيجاد صياغة سياسية للتطبيع مع إسرائيل، وبعد أن أسقط طائرة عسكرية روسية في حدوده مع سوريا، وبعد أن اختار التدخل العسكري والسياسي في ليبيا، وبعد أن تم إقصاء تركيا من الملف السوري والفلسطيني، وبعد تهميشه من صفقة القرن وطريق الحرير الصيني، يحاول اليوم أردوغان إشعال نار مضادة في شرق البحر الأبيض المتوسط مع اليونان وفرنسا. يتضح في الأخير أن تركيا فقدت البوصلة ولم يعد لها حلفاء وازنون في العالم أو في البحر الأبيض المتوسط، وأنها تتجه إلى التصعيد العسكري والسياسي مع فرنسا والاتحاد الأوروبي. ويتضح أيضا للخبراء السياسيين أن أردوغان بدأ يفقد كل حلفائه، سواء كانوا عربا، أوروبيين أو إسلاميين. كما قال الفيلسوف اليوناني "إنك لا تستحم في النهر مرتين"، فعلى أردوغان ألا يخلط بين الحنين التاريخي بمفهوم الإمبراطورية العثمانية وبين الأبعاد الجغرافية التي أعطت للبحر الأبيض المتوسط استثناء في العلاقات الدولية بكونه أصغر بحر في العالم من حيث المساحة ولكن تطل عليه حضارات كبرى وديانات سماوية وقوى إقليمية كانت أوروبية، عثمانية، عربية أو إغريقية.