في أواخر سنة 2013، انتشر وباء إيبولا في غرب افريقيا؛ وهي تعد من أفقر الدول في العالم، أخص بالذكر غينيا، وليبريا، ونيجيريا وسيراليون. لقد اعتبر هذا الفيروس أنه قاتل محترف. حسب احصائيات المنظمة الصحة العالمية، يقترب معدل فتكه ب 70% مقارنة مع الحالات المؤكدة بإصابتها بالفيروس (على سبيل المثال في شهر أكتوبر 2015، تسجلت 11313 حالة وفاة مِن بين 28512 حالة مؤكدة)، وهذا المعدل المسجل هو بالطبع خارج الحالات التي قد تكون فارقت الحياة بسبب الوباء وهي بعيدة عن المراكز الصحية المهترئة في دول تحتضن كل أصناف الفقر والتهميش والمعاناة الاجتماعية والاقتصادية وأيضا السياسية، بل يمكن اعتبار مواطنيها/مواطناتها كنفايات إنسانية للنظام الاقتصادي الرأسمالي المعولم، لأنهم/هن وبكل بساطة معاناتهم/هن خارج كل تصنيف. بالإضافة إذن إلى معاناتها مع الأمن الغذائي، ظلت هذه الدول الإفريقية تتخبط في أزمتها الصحية، وظلت حياة المواطن(ة) الإفريقي(ة) معرض للهجوم الشرس للفيروس دون أية حماية. كان عليها انتظار هجومه خارج رقعتها الجغرافية، بل خارج القارة الإفريقية من أجل إطلاق صرخة الإسراع في الإنقاذ، وبعث المساعدات الدولية للمناطق المنكوبة، وإرسال الأطقم الطبية ما دامت بنيتها الاقتصادية والسياسية لا يمكنها إنتاج الشروط الضرورية للحصول على نظام صحي جيد. بعدما انتقل إيبولا من القارة الإفريقية إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، واسبانيا، وانجلترا وإيطاليا مسببا في قتلى داخل هذه الدول، سارعت منظمة الصحة العالمية بإطلاق نداء عالمي لإنقاذ الوضع قبل أن يخرج عن السيطرة وبإرسال المساعدات اللازمة؛ وبعدها تهافتت أهم المختبرات وشركات صناعة الأدوية العالمية للفوز بملايين الدولارات المخصصة لإيجاد لقاح فعال ضد هذا الفيروس. وحتى لا ننسى، كان هناك شهداء وشهيدات من أطباء وطبيبات وممرضين/ات، أناس دفعوا أرواحهم/هن في سبيل إنقاذ الآخر بغض النظر عن لونه وجنسه ووطنه لأن دافعهم/هن إنساني. خَلّف وباء إيبولا ضحايا كُثر، اعتبر أنه الأعنف بعد الفيروس الذي اكتشف سنة 1976. سيتذكر التاريخ إذن بأن المجتمع الدولي وجل منظماته وهيئاته لم يتحرك بفعالية ونجاعة إلا عندما اقتحم الفيروس الإبويلي حدود الدول العظمى والغنية. اليوم، المشهد مختلف. سباق نحو إيجاد لقاح فعال ضد كوفيد19 بين الشركات والمختبرات الدولية المتخصصة في صناعة الأدوية، رغم أن كورونا لا تعد فيروسا فتاكا مقارنة مع فيروس إيبولا أو فيروسات أخرى، أو مقارنة مع ما يسببه سوء التغذية في الدول الفقيرة والنامية، أو ما تسببه الحروب، أو ما يسببه انعدام الماء الصالح للشرب في مجموعة من قرى ودواوير إفريقيا، أو ما تسببه المجاعة، أو غيرها من مظاهر التهميش والعنف والمرض والفقر واللامساواة والتهجير والسبي والتعذيب ومختلف أصناف الموت البطيء التي أنتجها الليبرالية المتوحشة خاصة خلال أربعين أو خمسين سنة الأخيرة. لماذا هذا السباق إذن لإنقاذ البشرية من كوفيد19؟ هل لأن الفيروس انطلق من الصين ووصل بعدها للدول العظيمة، ولم ينطلق من إفريقيا قارة الأزمات والأوبئة كما فعل إيبولا؟ هل لأن الفيروس فعلا فتاك، وهناك "صحوة ضمير" عالمية تخاف على حياتنا؟؛ وإن كانت صحوة ضمير، لماذا هذا الصراع القوي بين من يتحدى الوباء ولا يلتزم بتتبع الاجراءات الوقائية وآخر يعلن بأنه مع "صحوة الضمير" تلك، وخير مثال الصراع الرئاسي في أمريكا؟ هل كوفيد19 هو مجرد مسرحية كبيرة، نحن فيها فقط دمى/ كراكيز يحرك خيوطها مصالح لوبيات الاحتكارات العالمية؟ هل من حق المتظاهرين/ات في فرنسا وانجلترا وأمريكا وغيرها من الدول الخروج إلى الشوارع والمطالبة بعودة نمط الحياة العادية؟ ربما من حقهم/هن الخروج للشوارع بعدما تشبعوا بثقافة الفردانية وبمنطق المنافسة –عفوا الصراع-، هذا الذي أصبح يعتبر هو القانون الطبيعي الذي ينظم المجتمعات مادام هو نفس المنطق الذي ينظم الاقتصاد المحلي والعالمي، أو ربما من حقهم/هن الخروج للاحتجاج لأنهم/هن شعروا/ن بأن هناك تلاعب بمصالحهم/هن باسم الديموقراطية والحرية، أو ربما من حقهم/هن الخروج للاحتجاج لأنهم/ن لم يعودوا/ن يثقون بالنظام الرأسمالي بعدما مصّ دمائهم/هن وفي طريقه للقضاء على آخر مساحات الإنسانية والأمل للعيش بكرامة وحرية ومساواة. مع كل ما يقع في العالم من دمار وحروب، أليس من حقهم/هن رفض إجراءاتهم/هن ضد الحفاظ على حياتهم/هن بعدما اكتشفوا/ن زيف شعاراتهم/كن لسنين من الزمن عن الدفاع عن الديموقراطية والحرية في العالم؟ أليس من حقهم/هن الرفض بعدما شهدوا/ن كيف لأطفال فارقوا الحياة على شواطئ العدالة والكرامة ببلدانهم/هن؟ أليس من حقهم/هن الرفض بعدما علموا/ن أن لباسهم/هن من صُنع عمال (عاملات) يتقاضوا (يتقاضين) أجرا الذل والمهانة في بلدان أخرى لا يعلمون/ن موقعها في الخريطة الجغرافية؟ أليس من حقهم/هن الرفض بعد كل ما يشاهدوه من جرائم المرتكبة في حق فلسطين والعراق وسوريا وغيرها من الدول؟ إن كانت الأمور واضحة الآن، لماذا يعاد طرح السؤال؟ لماذا تمتلئ الاذاعات والقنوات ببرامج لفهم ما يقع وهم يعلمون أن الاحتجاجات هي نتيجة حتمية لكل اللقاحات ضد التضامن والعيش المشترك والاحترام والحرية من أجل ترسيخ النزعة الفردانية والمنافسة الحرة والخوصصة والتطبيع ؟ الجواب ربما أنهم/هن يحتجون/ يحتججن فقط خوفاً من تلقيح جديد يكون هذا المرّة من أجل نمذجة الإنسان والتحكم في مصيره "للأبد"، وبالتالي ضمان ديمومة النظام الاقتصادي الرأسمالي؛ أو ربما يخافون/يخفن من فقدان السيطرة على آخر مكان وفرصة للاحتجاج بعدما أسكتت جل الأصوات وأقفلت كل الأماكن التي كانت تدافع عنهم/هن؛ أو ربما أنهم/هن خائفون/ات من سقوط آخر أمل للديموقراطية والحرية. كل الأجوبة ممكنة، بيد أن اليقين أنهم/هن يعلمون/ن أن كل الأنظمة أصبحت خاضعة لمنطق صراع المصالح المُوجه من الأوليغارشيات... تحول كوفيد19 إلى أكبر مأساة يمكن أن تصيبنا. إنه يتحول إلى خطة لانعاش اقتصاديات الشركات الاحتكارية والمؤسسات المالية العالمية لتغيير مسار العالم بعدما دخل ما يقارب ثلاثون سنة أو أكثر إلى غرفة الانعاش، لم ينفع معها أي علاج من ضخ الأموال، واندلاع الحروب والمؤامرات، واقتلاع الحياة من الأمازون، وتهميش ملايين مواطنات ومواطني العالم وغيرها من الاستراتيجيات والتكتيكات الدول والهيئات والمنظمات المسيطرة على النظام العالمي. كوفيد19 يلقننا "من جديد" أن من يمتلك المعلومة يمتلك "الجمهور". لذا، تُستغل كل القنوات والأساليب لتسريب الخبر الذي سيتحول إلى رأي عام، وهكذا يمكن قلب الموازين والتحكم في الاقتصاد والسياسة. وحتى إن وجد اللقاح أو العلاج، هناك من هو/هي خائف(ة) لأنه تعلم/ت من تجارب سابقة أن بعض اللقاحات والأدوية كانت أكثر خطرا على سلامته(ها)، أكثر من المرض نفسه. نبقى نحن في صراع مع مَن سنكون ومع مَن سنصدق: معلومة منظمة الصحة العالمية الغير المستقلة أو معلومة الطبيب المُسيس أو معلومة المثقف الباحث عن سلطة المال والنفوذ أو معلومة السياسي الملهوف للحصول على المصلحة الآنية أو معلومة الفاعل الجمعوي أسير عطاءات ومنح المنظمات والهيئات العالمية الغير المستقلة... نظل إذن أسيري الصراع بين المعلومة ولعبة المصالح... تاركين الزمن يكشف بعض الأسرار عن هذا الصراع... أما اليوم، لا نملك سوى أن نحاول الحفاض على حياتنا قدر المستطاع لأن هي أغلى ما نملك... *أستاذة جامعية باحثة في الاقتصاد وفاعلة مدنية