محاولة قراءة توقعات ما بعد الجائحة في سياق التفاعل مع ما يكتب حاليا عبر العديد من المنابر الإعلامية حول وباء الكورونا 19 و مآلات العالم بعد إنتهاء الجائحة، و لأن الكتابة كما قال الروائي المغربي الجويطي في رواية ” المغاربة” هي فعل المقاومة الوحيد المتبقي في بلد صمتت طيوره عن الغناء، و صارت أزهاره ترفض أن تتفتح في الصباح، و هي أيضا مقاومة للحجر الصحي و جواب عن أسئلة اللحظة. و لأننا أمام إشكالية الموت و الوفاة خاصة إذا عتبرنا أن الوفاة هي نهاية للجسد تجريبيا و بيولوجيا، بينما الموت عبارة عن تلاشي للوجود الإنساني كمشروع قابل للإنجاز. و لأننا أصبحنا في زمن الكورونا 19 غير قادرين على الفصل بين ما نعتبره وفاة و بين ما يصح أن يوصف بالموت. الأكيد إذن أن العالم فجأة تغير و صار عبارة عن جزر متناثرة مقطوعة عن بعضها البعض مكذبة بذلك مقولة أن العالم قرية صغيرة اللهم على مستوى تناقل الأخبار و التواصل عبر وسائل الالكترونية. و بسبب رائحة الموت المنتشرة في كل مكان صار الجسد البشري مستعمرة وبائية لجوائح السياسيين و رجال الأعمال و الصيادلة الكبار و مصنعي أدوية الموت، فيكفي أن نلقي نظرة على وسائل الإعلام التي ارتفعت نسبة مشاهدتها و كذا وسائل الإعلام الشعبية المتاحة للعامة من الناس (وسائل التواصل الإجتماعية) لكي نتعرف على الأرقام و الأعداد المرعبة لدرجة أن أرقام الموتى أصبحت بديلا إقتصاديا عن أرقام البورصات العالمية و المال و الأعمال. فها هي إيطاليا وريثة أيونيا و الفلاسفة الميليسيين رعاة معابد أريتموس و ميلانوس، إيطاليا التي عانقت فيها كشوفات دافينشي و كوبيرنكوس و دانيلا دي سيلفا و ريناتو كاتشيو يوليو العالم، أصبحت مشلولة و تنكَرَت لها أوربا عامة منتظرة دعما من الصين و روسيا و من سخرية التاريخ دعما من بلد صغير محاصر منذ أكثر من ستين عاما ألا و هو كوبا الشيوعية. و هو ما أعاد للأذهان تعريف نيتشه للحداثة باعتبارها تعَبِر عن نوع من أزمة الأسس. فأي أسس في أزمة؟ طبعا الجواب واضح، و هو أسس النظام الرأسمالي. و في ظل هذا القلق الوجودي حاول مجموعة من الفلاسفة و المفكرين بعد استيعاب هول الصدمة إنقاذ ماء وجه هذه الحداثة التي تعاني أزمة أسس إن لم نقل حاولوا إنقاذ ماء وجه الرأسمالية بعدما انكشفت عوراتها و سوءاتها للعالم أجمع مع تفاوتات الإعتراف بذلك، و التي طالما تغنت بشعارات الحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان و المساواة و الرفاهية و الكرامة …إلخ، التي لم تكن في الحقيقة إلا لمن يمتلكون القوة و السيطرة على وسائل الإنتاج، كشفت اللحظة عن أنانية الرأسماليين، و عن الأهم بالنسبة لهم و الذي لم يكن سوى مراكمة المزيد من الثروة و عدم إنسانيتهم بعدما فضلوا مبادلة الأرباح بحياة العمال و الفقراء المعدمين، الإنسان لدى الرأسمالية مجرد أداة للإنتاج لا غير و هو تجريد له من بعده و جوهره الإنساني الذي سقط مع الكورنا 19 بعدما سقط الاف المرات قبلا، كشفت الكورنا عن أن الرأسماليين لا يختلفون في شيء عن قراصنة القرون الوسطى، و لا يختلفون أيضا عن مصاصي الدماء الذين نشاهدهم في الأفلام، همُ الرأسماليين هو سرقة المزيد من فائض القيمة على حساب عرق العمال و الكادحين. هنا تجد عبارة الفيلسوف و السوسيولوجي الفرنسي مشيل مافيزولي مشروعيتها عندما قابل بين أزمة الكورونا أو ما أسماه العودة الكبرى للتراجيديا. إذن أي نوع من التراجيديا نحن بصدده؟ الترجيديا في اعتقادي هو ما ينتظرنا ما بعد الكورونا، و في هذا الصدد فقد تدخل العديد من المنظرين و الاستراتيجيين و المفكرين و السياسيين للحديث عن العالم ما بعد الوباء، مجمعين على أنه سيكون مختلفا عن ما قبله لكنه مختلفين في كيفية هذا الإختلاف. بين داعٍ للعودة إلى الدولة القومية أو الدولة الوطنية أو رأسمالية الدولة أو دولة الرعاية الإجتماعية أو تحول موازين القوى عالميا من التمركز حول الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى التمركز حول الصين، و هناك من توقع نشوب حرب عسكرية عالمية ثالثة أو رابعة إلى غيرها من التوقعات و طبعا أكثرها إيغالا في التفاؤل تلك التي تتوقع إنهيار الرأسمالية، و هي النقطة التي أردت التفاعل معها و الإنطلاق منها محاولة مني للفهم بالإتكاء على فلاسفة و سياسيين اهتموا كثيرا بمثل هذا النقاش منذ أمد طويل. إذن ما وجه العالم تحديدا بعد انتهاء وباء كورونا؟ هل فعلا نحن بصدد التحول إلى ما بعد الرأسمالية؟ كم كان أفلاطون محقا عندما قال “بأن انحراف المدينة يبدأ بخداع الكلمات”، و هو القول الذي يجوز تعميمه للقول بأن انحرف العالم يبدأ بخداع الكلمات، و من غيرهم يستطيع خداع الناس بالكلمات سوى المثقفين. فعلى هامش الصراع الذي يخوضه العلمات و الباحثون و الأطباء ضد الوباء، هناك صراع اخر فكري نظري يخوضه منظروا و مثقفوا الرأسمالية و بدون هوادة، الذين يهدفون إلى إنقاذ عنق الرأسمالية من مشنقة النقد و التشهير و الفضح و الكراهية حتى لا أقول الإسقاط لأن لذلك شروطه سنرى إن هي متوفرة أم لا، و حتى كيف يمكن أن يحدث هذا الإسقاط أو الإطاحة؟ لأن العالم الآن صارح مفتوحا أمام الجميع للتعبير عن رأيه و نشره بسرعة قياسية و بقدر ما لهذه العملية من إيجابية فإن لها من السلبيات الكثير بحيث أن الإعلام بعدما كان يقوم بدور التعتيم سابقا عندما كان متحكما فيه من طرف جهة ما، صار يقوم اليوم على حد تعبير أحدهم بدور التعمية و هو مصيب في ذلك، فحجم المنشورات و الكم الهائل للمعرفة المتدفقة اليوم تصيب القراء الذين يفتقرون للمنهج العلمي بالتعمية فينساقون مع الموجة المعرفية الجديدة، و خيردليل على ما أقول هو ما دعا إليه إدغار موران من تلاحم بين العقلانية و الوجدان نحو ما يسميه عقلانية منفتحة تنقذ العالم، طبعا المقصود بالعالم هو عالم الرأسمالية، إضافة إلى العديد من المفكرين و الفلاسفة الساعين إلى إنقاذ الرأسمالية حاليا على الأقل أخلاقيا، الشيء الذي لم يعد مقنعا. و في هذا السياق لست في حاجة إلى تقديم الأرقام المهولة حول وضعية العالم الرأسمالي الان و التي تؤكد بما لا يدع مجال للشك أننا بصدد إنهيار غير مسبوق إن على مستوى عدد العمال و الموظفين الذين فقدوا عملهم أو هم في طريق فقدانه، أو بصدد الشركات و المعامل التي أغلقت أبوابها مؤقتا أو إلى غير رجعة، و تلك الأرقام التي تتحدث عن أننا دخلنا زمن الكساد الإقتصادي و تجاوزنا بذلك الإنكماش و الركود لأن هذه الأرقام حاليا متاحة عبر كل الوسائل على شبكات الأنترنيت، لذا يهمني أن أركز على من يعتقد أن العالم بعد الكورونا سيشهد إنهيار النظام الرأسمالي، و هذا لعمري يدخل في خانة علم التاريخ خاصة جانب التنبؤ. مما يقتضي تحديد الموضوع النظري للتاريخ المطلوب بناؤه حاليا لمعرفة الحركة الفعلية للسيرورات الإقتصادية و الإيديولوجية و السياسية التي تمكننا من القول أو من الإجابة عن سؤال: هل نحن فعلا أمام إنتقال من نظام إجتماعي قائم هو النظام الرأسمالي إلى نمط إنتاج جديد بعد الرأسمالية؟ و الذي إختلف هؤلاء المنظرون حوله بين من يعتبره إشتراكية أو كما وصفه أحدهم بشكل مضحك بكونه رأسمالية إشتراكية. أم هو نمط إنتاج جديد لم يذكر في علم التاريخ و لا في علم الإقتصاد. و هنا يقع الكثير من الدارسين أو المنظرين في الخلط بين السبب و النتيجة عبر التاريخ في جهل تام للمادية التاريخية و حتى المادية الجدلية أيضا، و ذلك من خلال الربط الميكانيكي بين الكورونا و انهيار النظام الرأسمالي، باعتبار الأولى سبب و الثانية نتيجة، و هذا ما حذر منهم المفكر اللبناني المهدي عامل موضحا في كتابه “مقدمات نظرية” أن تبني المفهوم التجريبي للسببية في تفسير الظاهرة التاريخية من شأنه أن يؤدي إلى تعليل التاريخ بشكل خاطىء إن لم نقل إلى إستحالة فهمه. لأن مثل هذا التفسير يعتبر أن العلاقة السببية بين الأحداث هي إن وجدت علاقة تتابع يتحدد فيها الحدث السابق كسبب و اللاحق كأثر و نتيجة. بينما الفهم الصحيح للتاريخ كما يوضح ذلك المهدي و قبله ابن خلدون في مقدمته هو أن السبب من المستحيل أن يكون حدثا عدا كونه علاقة إجتماعية محددة، بها تتولد الأحداث، فتخرج إلى ظاهر الأحداث مرئية و غير مترابطة، و العلاقة هذه غير مرئية بالعين التجريبية. لذلك فإن التوقع بالإنتقال هذا باعتباره كما يصوره هؤلاء حدثا تاريخيا و معه طبعا وباء الكورونا 19 دون أن يحددوا شكله و طبيعته التي سيكون عليها، الأمر الذي جعلهم أمام صياغة مفهوم غير علمي للتاريخ، و لهذا لا يمكن شرح واقع معين كما يتوقعه هؤلاء المنظرون و المبشرون بانهيار الرأسمالية كمجرد الذهاب إلى الأسباب الماضية التي تعتبر حاضرة الآن (زمن الكورونا 19) و التي هي في طور إنتاجه إذا ما كنا فعلا إزاء إنتقال إلى ما بعد الرأسمالية حسب دعاة إنهيارها. لماذا؟ لأن التاريخ على حد تعبير المهدي عامل ما يُنتِج تحولات تاريخية نوعية لا تعيد إنتاج العلاقات الإجتماعية القائمة، بل تُنْتِج جديدا لم يكن ملموسا في زمن مسبق. إذن حتى يكون القول بانهيار الرأسمالية بعد الكورونا 19 حدثا تاريخيا يجب أن يُنْتِجَ عوضا عن النظام نفسه القائم حاليا نظاما جديدا و تحولات نوعية، بمعنى نظام لا يحمل بين طياته شيء من الرأسمالية، لأن تاريخية الأحداث لا توجد فيها من حيث هي أحداث، بل في الأثار الإجتماعية “اللامسبوقة” الصادرة عنها، لأن الكثير من الأحداث رغم كونها صاخبة لا تحقق صفة التاريخية طالما أنها بدأت و انتهت دون أن تجري تحولات في البنية الإجتماعية، و نفس الشيء ينطبق على زمن الكورونا الآن إذا لم يؤدي إلى تغييرات في البنية الإجتماعية العالمية. إذن متى نقول أن الكورونا 19 حدث تاريخي؟ ببساطة عندما يُنْتِجُ العالم بنية إجتماعية بديلة للنظام الرأسمالية و التي لا يمكن الإختلاف في كونها هي علاقات إنتاج إشتراكية. إذن هل هناك مؤشرات على هذا التحول الآن؟ باختصار لو أراد اصحابنا المبشرون بانهيار النظام الرأسمالي كان عليهم الحديث عن البديل الذي سيقوم مقام علاقات إنتاج رأسمالية قائمة، أي أننا بصدد التحول من نمط إنتاج رأسمالي إل نمط إنتاج نقيض له ألا و هو نمط الإنتاج الإشتراكي. لكن لا شيء من هذا حدث بحيث أن أغلب من قالوا بانهيار الرأسمالية و في مقدمتهم حتى قبل زمن الكورونا العالم الإقتصادي الألماني أولريش سنيفر في كتابه “إنهيار الرأسمالية: أسباب إخفاق إقتصاد السوق المحررة من القيود”. و كل القراءات في هذه الأعمال التنظيرية سواء في زمن الكرونا و ما أحدثه هذا الفيروس من رجة أو في الكتابات السابقة عليه بما هي تشريح لواقع الأزمة الملازم للنظام الرأسمالي منذ انبثاقه على أنقاض النظام الإقطاعي، فتتعدد أزماته و يتجاوزها دوما بخلق متنفسات لإعادة تدوير الرأسمال المالي و غيره عبر الحروب في أغلب الأوقات، كل هذا يدفعنا إلى ضرورة التمييز بين نظرية التاريخ و التاريخ الحدثي، على اعتبار أن الحدث في ذاته لا يساوي شيئا، إلا إذا غَيَرَ فعليا و بشكل دائم العلاقات القائمة في الحقل الخاص به مؤثرا بذلك على هذا الحقل نفسه. من هنا لا يعتبر الكورونا حدثا إلا إذا قام بالفعل بتغيير البنى الإجتماعية للمجتمع إلى بنى جديدة، و من هنا فإن حركة التاريخ ليست في الحقيقة سوى صيرورة البنى الإجتماعية، لأن التاريخ حسب المهدي العامل في حركيته هو البنية الإجتماعية في صيرورة. إذن هل حركية النظام الرأسمالي عبر المؤشرات المتاحة حالية في في صيرورة التحول إلى نظام إشتراكي؟ من الناحية النظرية و العلمية يمكن الجواب بنعم باعتبار هذا التحول هو ضرورة تاريخية، لكن انجاز المهمة واقعيا هو ما يعتبر محك الدرس و النظر. لذلك القول بانهيار النظام الرأسمالي إما أنه صادر عن المتملقين المثقفين البرجوازيين لاستجداء فتات الرأسمالية أو موظفين مدفوعي الأجر لدق ناقوس الخطر متى حان ذلك أو مجموعة من الحالمين و الذين يحاربون بالدعاء. و كل هؤلاء لا يمتلكون نظرية في التاريخ بالمعنى العلمي حتى يمتلكون نظرية في السياسة، لان عملية التحول هي بالأساس سياسية، و لأن معرفة الواقع النظرية شرط أساسي للسيطرة عليه و تحويله ثوريا، و هذه المعرفة من شأنها إعطاء الممارسة السياسية الوضوح النظري الذي تحتاجه، و هذا الأمر واضح طالما أن الصراع الطبقي تعريفا هو السياسة، و أن هذا الصراع حقيقة يخترق كل المستويات الإجتماعية بما فيها طبعا النظرية و البحث عن معنى التاريخ، هل هو فعلا تحول نحو ما بعد الرأسمالية؟ و كيف سيحدث ذلك؟ هل من تلقاء نفسه أم بفعل فاعل عبر إنجاز المهام التاريخية؟ علم التاريخ يخبرنا أن عملية التحول من نمط إنتاج رأسمالي إلى نمط إنتاج أعلى منه أي إشتراكي تقتضي ما تقتضيه من أدوات و أليات أهمها تنظيم الطبقة المنتجة للثروة في حزب يطلق عليه حزب البروليتاريا ذو المرجعية الماركسية اللينينية و المنخرط في الصراع ضد النظام الرأسمالي. عدا هذا يصبح الفكر القائل بالتحول من نمط إنتاج رأسمالي إلى لا نعرف بالضبط بعد إنهيار الرأسمالية معزول عن التاريخ و في ذلك موت له، و عندما يموت الفكر فإنه يعجز عن القيام بثورته، و بالتالي يصبح سجين بنيته حين يفرض عليه التاريخ الإجتماعي ضرورة كسرها. و هو ما تعبر عنه بالضبط اللحظة الراهنة موضوعيا بحيث أن الرأسمالية في أوج ضعفها و ما ستكون عليه غداة إنبلاج فجر الكورونا سيكون أكثر وضوحا لكن مع ذلك أكثر شراسة و همجية، و بالمقابل فقد أثبت قادة الحركة العمالية الذين من المفروض أن يقودوا عملية الإنتقال و التحول أنهم عاجزون عن مواجهة هذا الوضع بجدية. ففي إيطاليا كما في العديد من الدول الرأسمالية و حتى التابعة لها المغرب على سبيل المثال، تعاون القادة النقابيون بشكل كامل مع أرباب العمل والحكومة في الضغط من أجل ألا يتوقف الإنتاج، دون أن يضعوا معيار سلامة العمال في الحسبان، بل همهم كان هوالحفاظ على الإنتاج خوفا من الانهيار الاقتصادي. لكن العمال الإيطاليين كان لهم تصور آخر، فبالنسبة لهم يأتي إنقاذ الأرواح في المرتبة الأولى. فبدأوا في تنظيم الإضرابات بعد فشلهم في إقناع أرباب العمل بإغلاق المصانع من أجل إعادة تنظيم العمل بطريقة تجعله أكثر أمانا. ولم يغير القادة النقابيون موقفهم إلا عندما بدأ العمال في أماكن العمل في اتخاذ تلك الإجراءات الحاسمة. وبدلا من أن يكونوا في موقع القيادة، كانوا متخلفين عما يتطلبه الوضع مما يعني أن الأداة السياسية الموكول لها تزويدهم بالمعرفة السياسية و النظرية اللازمة غير موجودة أو بالأحرى هي الأخرى متعاونة طبقيا و لا يعدو أن يكون أفقها إصلاحيا. و في بريطانيا جمّد حزب العمال جميع أنشطته كما هو حال باقي الأحزاب، على الرغم من وجود التكنولوجيا التي تمكنهم من الاستمرار في العمل أثناء الجائحة. وفي كل مكان، ساير قادة الحركة العمالية، بشكل ضمني أو نشيط، المخططات المعيبة للطبقة السائدة، عوض إعداد خطة عمل للطبقة العاملة. يمكن لهؤلاء القادة، من خلال تعبئة العمال في الأحياء والمصانع، أن يغيروا مسار الأحداث بسرعة كبيرة. ورفضهم القيام بذلك مؤشر على استسلامهم للطبقة الرأسمالية في نفس الوقت بالضبط الذي تدخل فيه هذه الأخيرة أعمق أزمتها على الإطلاق منذ 1929م، و بالنظر إلى بؤر التوتر في العالم حاليا التي يفوق عددها 73 بؤرة نجد في الواجهة حوالى أقل من 10 تنظيمات شيوعية تخوض الحرب ضد الرأسمالية، بينما لا يكاد يخلو منها أي بلد من بلدان العالم تحت إسم الحزب الشيوعي و الحزب الإشتراكي أو شيء من هذا القبيل، لكنه غير قادر على الإضطلاع بدوره التاريخي مما يعني أن نقيض الرأسمالية مشلول ذاتيا مع بعض التفاوتات ربما في الشيلي و جنوب شرق أسيا. يتطلب الوضع إذن إجراء هزة جذرية لمنظمات الطبقة العاملة القائمة، وهذا يعني أنه يجب وضع النقابات تحت الرقابة المباشرة لأعضائها بما يقتضيه من حرب بدون هوادة ضد البيروقراطيات. و ينطبق هذا أيضا على تلك الأحزاب التي أسستها الطبقة العاملة منذ زمن بعيد كوسيلة للتعبير عن مصالحها التي تحتاج إلى تغيير جذري، بدءا بعملية انتخاب ديمقراطي كامل للقادة، و إنشاء أحزاب عمالية أخرى في البلدان التي تفتقر إليها بمرجعية ماركسية لينينية باعتبارها النقيض الأساس لإيديولوجية الرأسمالية و الإجابة العلمية على واقع الإستغلال و الإضطهاد. إذن موضوعيا و واقعيا عملية التحول إلى نظام ما بعد رأسمالي حاليا مستبعدة في الزمن القريب أي ما بعد كورونا مباشرة إن لم نقل مستحيلة، و بالتالي فالنظام الرأسمالي باقٍ و سيعيد إنتاج نفسه، فماذا سيكون وجه العالم غدا بعد إنتهاء الحجر الصحي في كافة بلدان العالم و الإعلان عن السيطرة التامة على الجائحة؟ الجواب يكمن أولا في الإجراءات التي قام بها النظام الرأسمالي و لازال يقوم بها زمن الكورونا و حتى قبلها، بحيث أعلن كل من الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي أنهما سيضخان مليارات الدولارات واليوروهات في شرايين الاقتصاد. وفي بريطانيا أعلنت الحكومة عن حزمة بقيمة 350 مليار جنيه إسترليني، أي ما يعادل 15٪ من الناتج المحلي الإجمالي. كما تعلن كل من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، وجميع البلدان الأخرى بما فيها حتى بلدنا المغرب، عن حزم من حجم مماثل. لاحظوا جيدا أن النظام الرأسمالي و عملاؤه، عندما يواجهون الكارثة الاقتصادية يجدون الموارد فجأة، لكن لسوء الحظ ستذهب معظم تلك الأموال إلى جيوب الرأسماليين، عبر إعادة توزيع خبيثة، وليس إلى الخدمات الصحية أو العمال، وعلاوة على ذلك فإنها ستعمل فقط على تضخيم مستويات الدين العام المرتفعة أصلا. وفي مرحلة لاحقة سوف يُطلب من العمال أن يقدموا التضحيات لأداء هذا الدين، و فرض المزيد من الضرائب و الزيادات المتتالية في الأسعار، و مصادرة الأراضي، و مطالبة الناس بالإستعداد لسنوات أو لشهور من التقشف و الكف عن المطالبة بحقوقهم المشروعة و على رأسها الحق في الشغل الذي سيصل الطلب عليه بعد الجائحة إلى حوالي 250 مليون طلب تحت طائلة أننا خرجنا من أزمة خانقة خسرنا فيها الكثير و يلزمنا الوقت حتى نستعيد عافيتنا و أنذاك مرحبا بمطالبكم، و لكم أن تتصوروا كم من الناس سيجوعون و كم سيموتون فقرا و مرضا و كم من الأميين سيزدادون جراء عدم قدرتهم على متابعة الدراسة و كم من العائلات ستتشتت، و كم من أحلام لا تعدو أن تكون حقوقا مشروعة ستبور، طبعا منطق العلم يقول لكل قوة تقابلها قوة مضادة، و من هذا المنطلق سيخرج الناس للشارع بعفوية في إنتفاضات الجياع في غياب المعبر الطبقي (حزب الطبقة العاملة الماركسي اللينيني) و التي ستدفع الأنظمة إلى المزيد من العنف لأنه ليس لديها ما تقدمه من حلول للإستجابة لمطالب الجماهير جراء إستيزادة الدين العام و مصاريف التسيير التي ستُفْرَض لاحقا. مع أن الثروة موجودة ففي الولاياتالمتحدة مثلا، امتلكت 1٪ من أغنى الأسر الأمريكية -أي حوالي 1,2 مليون أسرة- ثروة بقيمة 35 تريليون دولار عام 2019. كما كشفت دراسة أجراها معهد المحاسبين القانونيين في إنجلترا وويلز (ICAEW) عام 2017 أنه: «في الوقت الذي يمكن أن تكون فيه أفكار أغلبية السكان مركزة على شد الأحزمة، كان لثلثي شركات المملكة المتحدة فائض في النقد وليس هذا فقط، بل ومنذ ذلك الحين عرف مستوى الودائع والاحتياطيات النقدية التي تحتفظ بها الشركات البريطانية ارتفاعا كبيرا، نمت الودائع النقدية بنسبة 8٪ في عام 2018، وزادت بنسبة هائلة بلغت 51٪ خلال السنوات الخمس الماضية». ووفقا ل Credit Suisse: يمتلك 1٪ من أغنى سكان العالم ما يقارب 50٪ من الثروة العالمية، في حين لا يمتلك 50٪ من البالغين الأكثر فقرا سوى أقل من 1٪ من إجمالي الثروة العالمية، كما أن احتمال وقوع حرب كونية مستبعة، على الأقل بالمعنى الكلاسيكي للحروب.