في ظل الانتشار الواسع الذي يشهده فيروس كورونا والتداعيات التي خلفها حتى الآن في بعض الدول الكبرى كالولايات المتحدة ودول أوروبا كإيطاليا وفرنسا وإسبانيا، يسود الاعتقاد أن الحل الناجع لعودة الحياة إلى طبيعتها والقضاء على الفيروس هو عبر تحصين شامل وعام، أو ما يسمى بالمناعة الجماعية. وهذا ما يتطلب تطوير لقاح ناجع للفيروس. هنا نتساءل حول تكلفة هذا اللقاح، وهل سيكون متاحا للجميع، وخصوصا للدول الفقيرة التي بدورها تشهد انتشارا، ولو طفيفا، للفيروس. يتناول بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت والرئيس المؤسس للتحالف العالمي للقاحات والتحصين، هذا الموضوع في مقال له في صحيفة "التيليغراف" البريطانية تحت عنوان "كمامات، واختبارات، وعلاجات ولقاحات. لماذا نحتاج الآن إلى مقاربة عالمية لمواجهة فيروس كوفيد-19". في ما يلي مقال بيل غيتس: خلال الأسابيع الماضية، تحدثت مع العديد من الخبراء حول فيروس كوفيد-19، ومن الواضح أن هناك بعض المفارقات في كيفية انتشاره: فهو يفتك بكبار السن أكثر من الصغار، وبالرجال أكثر من النساء، وتأثيره أكبر على الفقراء. لكن هناك شيئا لم نلاحظه في كيفية انتشار هذا الفيروس، وهو التمييز على أساس الجنسية. فالفيروس عابر للحدود. أذكر هذه الملاحظات لأنه منذ أن أدرك العالم فيروس كورونا أوائل يناير الماضي، ركزت الحكومات استجاباتها على أصعدتها الوطنية وكيف يمكن حماية الأشخاص داخل حدودها؟ وهذا مفهوم. لكن نظرا لكيفية ومدى انتشار فيروس كوفيد-19، فعلى قادة الدول الاعتراف بأنه طالما يوجد الفيروس في مكان ما، فالأمر يخص الجميع. حتى الآن، لم تشهد الدول في طور النمو والدول النامية انتشارا واسعا لفيروس كوفيد-19. لا نعرف لماذا بالضبط. لكن ما نحن واثقون منه هو أنه من المحتمل أن تشهد انتشارا واسعا للفيروس، وبدون المساعدة الكافية، فستكون أعداد الحالات ونسب الوفيات أسوأ مما رأيناه حتى الآن. لنتمعن فيما يلي: الفيروس أربك وأوقف مدنا كنيويورك، لكن الأرقام تقول إن عدد أسِرة العناية المركزة في حي مانهاتن وحده يفوق ما تمتلكه معظم الدول الإفريقية مجتمعة... الملايين يمكن أن يموتوا. ليس عليك العيش في دولة متقدمة لكي لا تقلق بشأن هذا الأمر. فحتى لو نجحت الدول الغنية في إبطاء العدوى في الأشهر القليلة المقبلة، فمن المحتمل أن يعود فيروس كوفيد-19 إن استمر في الانتشار في مكان آخر. الأمر إذن مسألة وقت قبل أن تعيد منطقة معينة نقل العدوى إلى منطقة أخرى. لهذا السبب، نحتاج إلى مقاربة عالمية لمواجهة هذا الفيروس، ستتغير بلا شك مع تغير شكل انتشاره. لكن هناك على الأقل ثلاثة أشياء على قادة الدول، وبالخصوص دول مجموعة العشرين، اتخاذها حالا. أولها، التأكد من أن الموارد العالمية لمواجهة الجائحة يتم توزيعها بشكل فعال، كالكمامات، والقفازات، وأجهزة الكشف عن الفيروس. كافتراض، نتمنى لو يوجد ما يكفي للجميع. لكن، وبما أن العرض العالمي محدود، فعلينا القيام باختيارات صعبة بطرق ذكية. وللأسف، هذا ما ليس عليه الوضع حاليا. هناك بعض الأشياء التي أصبح قادة الدول مقتنعين بها، وهي أن العاملين في الخطوط الأمامية لهم الأولوية في الاستفادة من اختبارات الكشف عن الفيروس وكذا في الولوج لأدوات الوقاية. لكن فلننظر إلى القرارات التي تتخذها حاليا من منظور أعلى. كيف يتم توزيع الكمامات وإجراء الاختبارات في مجتمعاتنا أو دولنا مقارنة مع أخرى؟ هناك جواب واحد مقلقل إلى حد الآن: من يدفع أكثر؟ أنا من أكبر المؤمنين بالرأسمالية، لكن بعض الأسواق لا تعمل بطريقة سليمة أثناء الجائحة، وأكبر مثال على ذلك هو سوق الأجهزة الطبية. فالقطاع الخاص له دور كبير ليلعبه، لكن إن كانت استراتيجيتنا لمواجهة فيروس كوفيد-19 تقتضي المزايدات بين الدول، فهذه الجائحة ستخلف المزيد من الضحايا أكثر مما سجلناه حتى الآن. يجب توزيع الموارد حسب الدول على أساس النظام الصحي والحاجيات الطبية. وهناك العديد من الخبراء المتمرسين في وبائي إيبولا وفيروس نقص المناعة المكتسبة الذين يمكنهم المساعد في صياغة المبادئ التوجيهية لتحقيق ذلك، وعلى قادة الدول النامية والمتقدمة العمل مع منظمة الصحة العالمية وشركائها لإخراجها إلى الوجود. حينها، جميع الدول المشاركة عليها الموافقة على خطوطها العريضة بشكل صريح وعلني، لكي يتحمل كل واحد مسؤوليته. هذه الاعترافات ستكون مهمة بمجرد تطوير لقاح للفيروس، لأن الطريقة الوحيدة لإنهاء هذه الجائحة هي عبر المناعة الجماعية. هذا ما يحيلني على الشيء الثاني الذي على قادة الدول القيام به، وهو الالتزام بتمويل البحوث من أجل تطوير لقاح للفيروس. سمعنا عن بعض الأخبار الإيجابية حول فيروس كورونا، لكن أبرزها هو الجانب العلمي. قبل ثلاث سنوات، أنشأت مؤسستنا، ذا ويلكوم ثراست، بمعية مجموعة من المنظمات الحكومية، التحالف من أجل ابتكارات التأهب ضد الأوبئة، وكان الهدف الأول منه تسريع مراحل اختبار اللقاحات وتمويل طرق جديدة وسريعة لتطوير المناعة. فلحظة ظهور فيروس جديد، علينا أن نكون مستعدين. استطاع تحالفنا حتى الآن تطوير ثمانية لقاحات محتملة لفيروس كوفيد-19، والباحثون واثقون أن واحدا على الأقل سيكون متاحا في غضون 18 شهرا. هذا سيكون أسرع لقاح يتم تطويره في التاريخ من التعرف على فيروس جديد حتى تطوير لقاح ضده. لكن هذه المدة الزمنية تستلزم التمويل الضروري. والعديد من الدول ساهمت في التحالف في الأسبوعين الماضيين، لكنه يحتاج على الأقل إلى ملياري دولار لإتمام هذه المهمة. هذا فقط رقم تقريبي لأن تكلفة الابتكار غير قابلة للتقدير، لكن، على كل حال، على دول العشرين التعهد بوعود ذات مغزى الآن. وعليهم أن يعرفوا أن هذا التمويل يخص فقط دعم البحوث لتطوير اللقاح وليس لإنتاجه وتوزيعه، فهذا الأمر سيحتاج أيضا لمزيد من الأموال والتخطيط. وهذا هو الشيء الثالث الذي على دول مجموعة العشرين أن تبدأ التفكير فيه. إضافة إلى أننا لا نعلم حتى الآن أي لقاح سيكون أكثر فعالية، وأي تكنولوجيا يحتاجها الأمر. ما يعني أن الدول عليها الاستثمار في مرافق مختلفة للتصنيع الآن، مع العلم أن بعضها لن يتم استخدامه أبدا، وإلا فإننا سنضيع أشهرا أخرى منتظرين من المُصَنِّع رفع إنتاجه من اللقاح الذي تم تطويره. وهناك شيء آخر مهم، وهو التكلفة: فحتى لو انخرط القطاع الخاص في إنتاج اللقاح على سبيل المثال، فعليه أن لا يخسر المال. وفي الوقت نفسه، يجب تصنيف أي لقاح يتم تطويره ضد فيروس كوفيد-19 ك "منتوج عالمي عام" ويكون متاحا للجميع. ومن حسن الحظ، هناك منظمات كالتحالف العالمي للقاحات والتحصين لديها تاريخ طويل في مساعدة الدول النامية وفي طور النمو في الولوج إلى لقاحات ضرورية. فخلال العقدين الأخيرين، عمل التحالف مع منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسف على تقديم 13 لقاحا، بينها لقاحات ضد فيروس إيبولا، إلى أفقر 73 دولة في العالم، ويرجع الفضل في ذلك إلى المساعدة التي تلقيناها من المملكة المتحدة. ونهدف إلى عمل الشيء نفسه مع فيروس كوفيد-19، لكن الأمر يحتاج أيضا إلى مزيد من التمويل. وبالتحديد، فالتحالف العالمي للقاحات والتحصين سيحتاج إلى 7.4 مليارات دولار خلال السنوات الخمس القادمة، فقط من أجل الحفاظ على جهودها الحالية في التحصين. وبالعمل على تطوير لقاح لفيروس كورونا، سيحتاج إلى المزيد. هذه الملايير من الدولارات التي أشرت إليها قد ينظر إليها كمبالغ ضخمة، وخصوصا في الظرفية الحالية التي تشهد تباطؤا لمعظم الاقتصادات، لكن لا شيء يمكن مقارنته مع تحصين فاشل واستمرار لانتشار الفيروس. في العشرين سنة الماضية، بذلتُ جهودا جمة لإقناع قادة الدول بالاستثمار في صحة الأشخاص من الدول الفقيرة. كنت مقتنعا بأنه القرار الصائب، وهذا ما كان عليه الأمر. لكن الجوائح والأوبئة تذكرنا بأن مساعدة الغير ليست فقط القرار الصائب، لكنها أيضا القرار الذكي. فالبشرية في جميع الأحوال ليست مترابطة فقط بالقيم المشتركة والروابط المجتمعية، لكننا أيضا مترابطون بيولوجيا عن طريق جراثيم مجهرية تربط صحة شخص بصحة شخص آخر. في هذه الجائحة، جميعنا متصلون ببعض... استجابتنا عليها أن تكون كذلك أيضا.