يتحدث أستاذ العلوم السياسية، في جامعة "دوك" الأمريكية، عبد السلام المغراوي، عن عدد من القضايا التي تواجه المغرب والمنطقة المغاربية، بعد موجة الاحتجاجات التي اندلعت سنة 2011، والتغييرات التي عرفتها المنطقة. وتركز مؤلفات المغراوي، الذي يعد أيضا عضوا في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة "دوك" في ولاية كارولينا الشمالية، على دراسة المؤسسات السياسية والهوية السياسية، بالإضافة إلى العلاقات المتداخلة بين المواطنة الحديثة والهويات الاجتماعية. ويبرز أستاذ العلوم السياسية نظرته لعدد من القضايا التي تخص المغرب والمنطقة المغاربية، سواء تعلق الأمر بالملكية أو الحكومة والأحزاب، بالإضافة إلى التحديات الأمنية التي تفرضها النزاعات الإقليمية، كما هو الحال بالنسبة للوضع في ليبيا. ويتحدث المغراوي، في حوار خاص لهسبريس، عن فشل حركة عشرين فبراير في تحقيق أهدافها وفرض التغيير، مرجعا ذلك لعدة أسباب، منها "الدور السلبي للإسلاميين"، ويقول في هذا السياق: "لعبت حركة العدل والإحسان البطاقة الطائفية التي تعطي الأولية ل"نقائها" الإيديولوجي وقدرتها على التعبئة فوق أي اعتبار آخر. ولتحقيق هذه النقطة، انسحبت الجماعة من الشوارع بشكل تام، خلال لحظة حساسة، وذلك لإيصال رسالة للعلمانيين المغاربة، مفادها أنه بدون مشاركة الجماعة، لن تنجح أي حركة احتجاجية في المغرب". أما عن حزب العدالة والتنمية، يضيف المغراوي، فقد "قام بتخريب أهداف حركة 20 فبراير، من خلال توفير بديل شعبي لحزب الأصالة والمعاصرة، الذي يمكن أن يخدم الملكية بشكل أكثر فعالية، وهذا ما أكده بنكيران في مناسبات عديدة". نص الحوار: نقترب من عشر سنوات على موجة الاحتجاجات التي عرفها المغرب، في سياق ما عرف بالربيع العربي، ما تقييمك للإصلاحات التي قام بها المغرب في هذا السياق؟ المغرب مثل معظم الملكيات العربية، باستثناء البحرين، أدار الاحتجاجات الشعبية بشكل أفضل بكثير من الدول التي تعتمد النظام الجمهوري. كما نعلم، لم يفقد أي من الملوك عرشه، في حين أجبر خمسة رؤساء على ترك مناصبهم، ما أدى في معظم الحالات إلى حروب أهلية. بماذا تفسر ذلك؟ يمكن تفسير ذلك بداية بتمتع هذه الملكيات بموارد ضخمة. فمن بين ثماني ملكيات عربية، هناك ست دول غنية بالنفط، يمكنها تحمل إنفاق مليارات الدولارات في برامج اجتماعية لتهدئة التوترات. من الواضح أن هذا ليس وضع المغرب والأردن، لذلك جادل بعض الباحثين على أن الملكيات تجاوزت العاصفة الشعبية ليس بفضل سياسات التوزيع، بل لأنها أكثر شرعية في نظر شعوبها من الجمهوريات. لكن هذه الحجة لا تصمد أمام اختبار التاريخ، كما لا توجد بيانات استقصائية موثوقة لدعم هذا الادعاء. لقد فقد ملوك عرب عروشهم في الماضي دون احتجاجات شعبية، بل على العكس من ذلك تماما. في البداية على الأقل، استفادت الأنظمة العسكرية التي حلت محلها من الدعم الجماهيري المتحمس. السبب الثاني الذي يجعلنا نتوخى الحذر في تقييم الشرعية هو أن الشرعية السياسية على المستوى الشعبي تصعب ملاحظتها أو قياسها تجريبيا، لأن مفهوم الشرعية نفسه غامض، ومن الصعب قياسه في السياق الاستبدادي بسبب الإشكال المعروف ب"تزوير الأولويات" (falsification of preferences). ببساطة، فالناس يخشون التعبير عن آرائهم، ولا نعرف بالضبط كيف وفي ما يفكرون، ولذلك فنادرا ما توقع الباحثون اشتعال الثورات، وكذلك الحال بالنسبة لقادة هذه الثورات أنفسهم. إذا لم تكن ما سميتها "سياسة التوزيع" أو الشرعية عاملان وراء إطفاء شرارة الاحتجاجات، فأين تكمن كلمة السر؟ الإجابة عن ذلك تكمن في اختيار النظام الوقت المناسب، واتخاذ تدابير متزامنة بشكل جيد، والتنفيذ السريع للإصلاحات اللازمة لتخفيف التوترات، ولكن بكل تأكيد ليس لتحويل علاقات القوة والسلطة. تبعا لذلك، فإن الإصلاحات التي قادتها الملكية في سنة 2011 في المغرب والأردن لا يمكن أن تمهد الطريق للتغيير الديمقراطي، لأن الأسئلة السياسية الرئيسية، كزواج المال والسلطة، وغياب المساءلة السياسية والمالية، وفصل السلطات، وضعف التمثيلية السياسية وضمان الحقوق الفردية، لم يشملها هذا الإصلاح بتاتا. وبصفتي باحثا في العلوم السياسية، أحلل الإصلاحات السياسية في المغرب في إطار مفاهيمي معين يعرف ب"الاستبداد المتطور" (upgraded authoritarianism) أو ما يطلق عليه أيضا "الاستبداد التنافسي" أو "الليبرالي". فبدلا من التركيز على ما إذا كانت مثل هذه الإصلاحات الإضافية تؤدي إلى الديمقراطية، فإني أحللها كجزء من الآليات التي تساهم في فهم لماذا بعض الأنظمة الاستبدادية أكثر حصانة من غيرها. في أعقاب الاحتجاجات التي عرفتها منطقة الريف، وموجة الاعتقالات والأحكام القضائية التي صدرت في حق نشطاء "حراك الريف"، تحدث عدد من النشطاء والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية عن تراجع منسوب الحرية في المغرب، هل توافق هذا الرأي؟ من حيث المبدأ، حينما تقوم "الأنظمة الاستبدادية" بتحديث مؤسساتها، فاستخدام العنف ووسائل الإكراه يتلاشى شيئا فشيئا؛ بمعنى آخر، عندما تدمج الأنظمة شركاء اجتماعيين وسياسيين جدد، وتلتزم على الورق بالاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وتسمح بدرجة محددة من التنافس السياسي، فإنها تعتمد بشكل أقل على أجهزتها الأمنية أو القضاء التعسفي لتخويف أصوات المعارضة. لكن قمع الحريات الجماعية والفردية لا يختفي تماما في ظل "الاستبداد التنافسي" أو "الليبرالي". بالنسبة للمغرب، مؤشرات المعاملة القاسية التي تعرضت لها الحركات الاجتماعية في الريف ومدينة جرادة ومناطق أخرى، بالإضافة إلى تخويف وسجن الصحافيين المستقلين، ومضايقة دعاة الديمقراطية، تؤكد هذه المؤشرات أن عملية "تحديث النظام" إما فشلت أو توقفت، أو أنها لم تعد أولوية بالنسبة للقصر. ويمكن أن أضيف هنا أن البيئة الدولية ما بعد الحرب الباردة هي التي أجبرت الأنظمة العربية على تطوير أساليب السيطرة؛ فبعد فترة وجيزة من سقوط جدار برلين، زعمت جميع الأنظمة العربية تقريبا، بما في ذلك سوريا واليمن، أن تحقيق الديمقراطية واقتصاد السوق هي أجزاء من برامجها. لكن الوضع تغير حاليا بحيث أصبح بإمكان أي رئيس دولة عربية الوقوف أمام مجلس الأممالمتحدة والتنديد بمحاولة فرض مبادئ الديمقراطية من طرف الغرب. هذا التغيير له علاقة كبيرة بالمخاوف الغربية بشأن ما حدث في المنطقة العربية خلال السنوات 15 الماضية، من ظهور تنظيم القاعدة و"داعش"، والحروب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن، وفوز الأحزاب الإسلامية في الانتخابات، والشعور العام بأن الديمقراطية في المجتمع العربي حاليا لا تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى استبداد الأغلبية. في ورقة بحثية نشرتها في مركز "ويلسون للدراسات" سنة 2015، اعتبرت أنه "من الصعب التنبؤ بمستقبل حزب العدالة والتنمية"، لكنك أشرت إلى أن صلاحيات الحزب في الحكومة ستبقى "محدودة" مقابل صلاحيات واسعة للملك، هل مازلت على الموقف ذاته؟ اعتقد أنك تشير إلى فصل قصير ساهمت فيه ضمن مجلد بعنوان "الإسلاميون قادمون"، ونشرت الطبعة الأولى من هذا المجلد بنفس الفصل عن المغرب، بعنوان "إسلاميو جلالة الملك" سنة 2012. وهذا يعني أن الورقة كتبت قبل أشهر من عام 2012، وقبل تعيين عبد الإله بنكيران، رئيسا للحكومة، لكن بإمكان أي مراقب للسياسة في المغرب التنبؤ بتنازلات حزب العدالة والتنمية وعجزه في نهاية المطاف عن إدخال أي تغيير. ولا يوجد أي لغز هنا، فتجارب الحكومات السابقة مفيدة للغاية، رغم اختلاف التجارب بين بنكيران وعبد الرحمان اليوسفي وحزب الاستقلال، وحتى بعض الحكومات التكنوقراطية، فكلها تقريبا عانت نفس المصير. عندما بدت سياسات أي حكومة تختلف عن المصالح الإستراتيجية للقصر، أو عندما لم تعد بعض الأحزاب مفيدة، توضع في الدرج حتى تتيح لها الظروف الرجوع. يتناسب هذا النمط تماما مع النظرية التطورية للمؤسسات في الاقتصاد والعلوم السياسية، التي تسمى أيضا نظرية "تبعية المسار" (path dependence). تقول هذه النظرية إن الاختيارات التي اتخذتها مؤسسة ما خلال سنوات تكوينها وعملية تحولها تحدد إلى حد كبير الخيارات التي تتخذها في لحظات حاسمة لاحقا. ووفق هذه النظرية، إذا كانت الملكية المغربية غير راغبة أو غير قادرة على تقاسم السلطة لعقود عديدة، فمن غير المحتمل أن تفعل ذلك ما لم تتغير الظروف بشكل جذري. لقد مرت مناسبات عديدة للتغيير السياسي في المغرب بعد الاستقلال وخلال السبعينيات والإجماع الوطني حول الصحراء وبعد وفاة الحسن الثاني وخلال الربيع العربي... لكن ميزان القوى لم يكن في صالح التغيير. كان يمكن لحركة 20 فبراير أن تنتج "وضعا جديدا"، ولسوء الحظ ولأسباب متعددة، فشلت هذه الحركة كذلك في فرض التغيير. ومن أبرز أسباب هذا الفشل هناك الدور السلبي للإسلام السياسي، فقد لعبت حركة العدل والإحسان البطاقة الطائفية التي تعطي الأولية ل"نقائها" الإيديولوجي وإظهار قدرتها على التعبئة فوق أي اعتبار آخر. يتجلى ذلك في انسحاب الجماعة من الشوارع بشكل تام، خلال لحظة حساسة، وذلك لإيصال رسالة للعلمانيين المغاربة، مفادها أنه بدون مشاركة الجماعة لن تنجح أي حركة احتجاجية في المغرب. ومن ناحية أخرى، قام حزب العدالة والتنمية بتخريب أهداف حركة 20 فبراير، من خلال توفير بديل شعبي لحزب الأصالة والمعاصرة، وسعيه إلى خدمة مصالح الملكية بشكل أكثر فعالية، وهذا ما أكده بنكيران في مناسبات عديدة. وتبعا لذلك، فنظرية "تبعية المسار" لا تنطبق على الملكية فقط، وإنما على جميع أنواع المؤسسات، بما في ذلك الأحزاب السياسية والبرلمان واللجان الملكية وغيرها، فلا شيء يرجى من هذه المؤسسات، وهذا لا يبشر بتغيير سياسي سلمي وهادئ في ظل الترتيبات السياسية الحالية في المغرب. على بعد سنة من انتخابات 2021، ما تقييمك لأداء حزب العدالة والتنمية في الجهاز التنفيذي بعد ولايتين على رئاسته للحكومة؟. لعب حزب العدالة والتنمية دوره كشريك حكومي مخلص، بشكل مثير للإعجاب من منظور الملكية. بقيادة كل من عبد الإله بنكيران، وسعد الدين العثماني، أقرت الحكومات التي قادها حزب العدالة والتنمية سياسات اجتماعية تقشفية لا تحظى بأي بشعبية وبقيت غير مبالية بالفساد المتفشي، تماشيا مع مقولة "عفا الله عما سلف"، وزيادة التفاوتات الاجتماعية، وعدم المبالاة بالعزوف السياسي العام. باختصار، إن أداء حزب العدالة والتنمية في الحكومة مثالي، لأن قادته تحملوا اللوم على الأخطاء التي حدثت في المغرب، وكانوا دائما على استعداد لترك الملفات الإستراتيجية للأطراف الأخرى. إن إدارة أزمة الصحة العامة المرتبطة بفيروس كورونا حاليا مثال بليغ على موقف حزب العدالة والتنمية في المعادلة السياسية المغربية. بينما يوصف "وزراء السيادة" بالكفاءة في التعامل مع الوباء، يتحمل العثماني ورفاقه أو إخوانه اللوم على العيوب في تسيير الأزمة. لم يكن هذا الترتيب السياسي بالضرورة نتيجة إستراتيجية معينة سنة 2012، ولكنه لم يكن مجرد مصادفة. مثل أي علاقة قوة، كان الترتيب السياسي بين حزب العدالة والتنمية والملكية نتيجة مسار يتصرف فيه الفاعلون وفقا لموقعهم النسبي في ميزان القوة. في هذه اللعبة، تتمتع الملكية بميزة واضحة على جميع الجهات الفاعلة الأخرى بفضل خبرتها المتراكمة والشبكات الاجتماعية العميقة والمتنوعة والموارد المالية. برأيك، ما هي التحديات السياسية الرئيسية التي تواجه المغرب والمنطقة المغاربية بشكل عام في ظل تصاعد الطلب على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، واضطراب النظام الدولي، وتداعيات ما بعد جائحة كورونا؟ من منظور النظام المغربي والجزائري، أبرز التحديات تتمثل في كيفية حفظ السيطرة على المجال الترابي وعلى الشعوب باستخدام الحد الأدنى من العنف، وتعبئة الموارد لتمويل الأجهزة الأمنية ومكافأة الحلفاء الرئيسيين، بالإضافة إلى إقناع مجموعات المعارضة الرسمية بعدم الخروج من اللعبة السياسية والاستمرار في إيهامها بأنها ستمارس السلطة في يوم من الأيام. وفي ما يخص المغرب، لنكن واضحين، كل الأطراف واعية باللعبة والأوهام بما في ذلك أحزاب "المعارضة الوطنية"، ومع ذلك ظلت هذه الأحزاب تشتكي وتشارك، لأن المشاركة تخدم مصالحها الخاصة. أما بالنسبة لتونس، يكمن التحدي في كيفية تثبيت عملية الانتقال الديمقراطي، وترجمة التقدم على الجبهة السياسية إلى مكتسبات اجتماعية واقتصادية ملموسة، تخدم غالبية المواطنين. أما من المنظور الشعبي فإن أهم تحد يواجه المنطقة هو تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال توفير شغل لائق، والسكن والصحة والتعليم. إلى جانب ذلك فإن فئات واسعة من المجتمع لا تهتم كثيرا بطبيعة النظام، طالما أن هذا النظام يوفر لها الأمن والخدمات الاجتماعية الأساسية، وهذا بالطبع مشكل فظيع. سأذهب أبعد من ذلك، وأقول إننا لا نعرف حقا ما يريده الناس أو ما يفكرون فيه بسبب ندرة الأبحاث في مجال علم النفس الاجتماعي وعلم النفس السياسي. لكن مشاهد من الحياة العادية تشير إلى أن الغالبية العظمى تعيش في عدد من التناقضات، فهي تريد الديمقراطية والشريعة، كما أنها قد تتمسك بحكم الأغلبية، لكنها لا تهتم بحقوق الأقليات.. تؤكد على سيادة القانون، ولكن حينما لا يتناسب ذلك مع احتياجاتها الشخصية فالقانون لا قيمة له.. تحلم بالتغيير الاجتماعي لأسباب نفعية، لكن لديها مخاوف عميقة من التداعيات الاجتماعية للحداثة. في هذا الصدد يرجح بعض المراقبين أن جائحة كورونا ربما ستحدث ثورة في الأعراف الاجتماعية والثقافية. هذا ممكن ولكن من المنظور السياسي لا أتوقع تغييرا ملموسا في الوعي السياسي أو العمل الجماعي أو تبني التنوع الثقافي وحقوق الفرد. من أجل إحداث هذا التحول، يتعين على البلدان المغاربية بناء مجتمعات المعرفة، حيث تقدير العلوم والتكنولوجيا والفلسفة والأدب. تعد ليبيا أقل الدول المغاربية استقرارا، خصوصا في ظل التوتر الأخير. برأيك كيف يؤثر الوضع في ليبيا على الاستقرار في المنطقة التي أصبحت محط أطماع قوى إقليمية ودولية متشابكة؟. يمكن أن تتدهور الأوضاع بشكل أكبر في ليبيا بسبب تطورين محتملين على الأقل، الأول يتمثل في انتشار الجماعات الإسلامية الإرهابية المتواجدة في ليبيا إلى دول مغاربية أخرى. نعلم أن الجماعات الإرهابية تبني جذورها في المناطق التي تكون السلطة المركزية ضعيفة أو منهارة بشكل تام. في حال تنامي هذه الجماعات، ستكون تونس ضعيفة بشكل خاص، بالنظر إلى أن ديمقراطيتها ناشئة ولا يمكنها غض النظر عن الحقوق. لكن المغرب والجزائر رغم تغاضيهما عن الحقوق فهما ليسا بمنأى عن خطر التطرف الديني بأي حال من الأحوال، فقد سبق للجماعات الإرهابية أن توغلت داخل ترابهما. التطور الثاني المحتمل والذي يثير القلق يتمثل في حال مشاركة المغرب والجزائر بشكل مباشر في هذا النزاع، وتقديم الدعم المباشر لفصائل متناحرة معادية. مع استمرار الصراع في الصحراء كشرارة محتملة للمواجهة المسلحة، أعتقد أن الدولتين ستقومان بكل شيء لتجنب مثل هذا الاشتباك في ليبيا لأنه بصراحة ليس في مصلحة النظامين. وفي هذا الصدد، تتميز البلدان المغاربية بالحكمة مقارنة مع المشرق، حيث لا تتردد دول المشرق في الاعتماد على أطراف فاعلة غير حكومية للتأثير على السياسات الداخلية للخصوم الإقليميين. لذلك فالوضع في ليبيا يمثل مخاطرة حقيقية. أبعد من هذا، يبين الصراع في ليبيا ضعف الدول العربية ومأزق ما يسمى الاستقرار الاستبدادي؛ فإذا نظرت إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فإن خمس دول (العراق ولبنان وليبيا وسوريا واليمن) كلها عربية تقع تحت رحمة القوى الإقليمية والدولية. كما أنه من اللافت للانتباه أن الدول ذات التأثير السياسي والاقتصادي والعسكري الأكبر في المنطقة كلها غير عربية، وهي إيران وإسرائيل وتركيا. في حين يدفع المواطنون العرب في المنطقة ثمنا باهظا بحياتهم وحياة عائلاتهم بسبب الخيارات السيئة التي تتخذها الأنظمة السلطوية. في إحدى محاضراتك في مركز "الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية" في أبوظبي، تحدثت عن فشل الاندماج المغاربي، وأرجعت هذا الفشل إلى عدد من العوامل، كقضية الصحراء، برأيك كيف ساهم هذا الصراع في عدم تحقيق "الوحدة المغاربية"؟ تشكل قضية الصحراء بالتأكيد عقبة رئيسية أمام التكامل والوحدة المغاربية. في الأسواق العالمية والسياسة الدولية لا تزن كل دولة على حدة أكثر من شركة مثل Google أو Amazon. لكن الدول المغاربية إذا اجتمعت يمكن أن تصبح سوقا جذابة، ويمكنها ممارسة تأثير سياسي أكبر في منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط. مع ذلك لا أدعو إلى الوحدة المغاربية فقط من أجل الوحدة، فستكون كارثة في المنطقة إذا اتحدت الأنظمة على أساس اعتبارات أمنية ضيقة. مع هيمنة الاستبداد في المنطقة، لا أستطيع أن أقول إن الوحدة المغاربية هي مصلحة إستراتيجية أو أولوية للمواطنين العاديين. تقول أيضا إن فشل الاتحاد المغاربي يعود أيضا إلى عدم الاتفاق على هوية هذا الاتحاد، وتقصد هنا الصراع الهواياتي بين الهوية العربية والمتوسطية والأفريقية وغيرها، برأيك ألا يمكن لهذا الاتحاد وكل الدول المغاربية أن تدمج بين جميع هذه الهويات وتنتج هوية خاصة بها؟ أعتقد أن الوحدة المغاربية لا يجب أن تكون على حساب الهويات المتعددة للمنطقة، مثل الهوية الأمازيغية والأندلسية والأفريقية، والحسانية والمتوسطية أو غيرها. لهذا قلت سابقا إن الوحدة المغاربية التي تشبع فقط المخاوف الأمنية للأنظمة غير مرغوب فيها من وجهة نظر المواطنين العاديين، لأنها بكل بساطة لا تخدم مصالحهم الموضوعية ولا تحقق تطلعاتهم.