كان هناك في المغرب -إبان حصوله على الاستقلال الإداري عن فرنسا وإسبانيا- رجال مبدعون ومفكرون ينتجون سيلا من الخطط والمشاريع الوطنية، ويحاولون تنفيذها بفعالية وإيمان بالقدرة على إنجازها ما دامت الفكرة الوطنية كانت مسيطرة على عقول المغاربة حينها، دافعهم الأساسي والمبدئي في ذلك كان هو بناء دولة حديثة تعتمد على مؤسسات ديمقراطية تكفل لها الاستقلال السياسي والاقتصادي عن المستعمر، الذي غادر البلاد بعسكره ومستوطنيه لكنه ترك فيها بعض ورثته أو ورثة أفكاره الذين ظلوا يحومون حول السلطة وما يتمخضّ من رحمها من مواقف وقرارات، بيد أن وجود الفكرة الوطنية في بعض العقول لا يكفي لبناء دولة القانون والمؤسسات، ما لم يتملك أصحاب تلك الفكرة السلطة الكاملة لتنفيذها عبر مؤسسات ديمقراطية منتخبة وبعيدا عن كل وصاية سياسية وسيادية من داخل المغرب أو خارجه، والحال أن المؤسسات التي كانت تمثل السلطات التنفيذية والتشريعية والترابية في المغرب منذ استقلاله لم تكن يوما في أيدي أصحاب الفكرة الوطنية أو الذين كانوا يعبرون عنها على الأقل، فأول حكومة مغربية بعد الاستقلال لم يترأسها مثلا عبد الرحيم بوعبيد أو علال الفاسي أو التهامي الوزاني أو المهدي بنبركة أو أحمد بلافريج، بل ترأسها امبارك البكاي الذي كان ملازما سابقا في الجيش الفرنسي قبل أن يصاب في الحرب العالمية الثانية كما تولى حينها ادريس المحمدي حقيبة وزير الدولة والحسن اليوسي وزيرا للداخلية، أما الأعضاء الذين كانوا قياديين في حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال فلم يمسكوا في تلك الحكومة الأولى أي حقيبة سيادية (التهامي الوزاني والمختار السوسي وعبد الهادي بوطالب ومحمد الدويري وعبد الله ابراهيم الذي عين كاتبا للدولة)، ما عدا عبد الرحيم بوعبيد الذي عين وزيرا للدولة مكلفا بالتفاوض مع فرنسا على وجه الخصوص. ما بين 1959 و1962 ظهرت بعض البوادر القليلة لاستقلال الحكومة والبرلمان عن اللوبي الاستعماري الفرنسي خصوصا (مجلس الشورى في طور التأسيس آنذاك)، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل (حكومتا بلافريج وحكومة عبد الله ابراهيم نموذجين). جاءت في ما بعد سنة 1963 التي كانت حامية الوطيس في المواجهة بين المخزن المغربي وحزب الاتحاد الوطني المنشق عن حزب الاستقلال في ظروف غامضة، ومنذ ذلك الحين إلى بداية التسعينيات تم عقد الوصاية المباشرة على كل الخطط والمشاريع الوطنية الحداثية ووضعها تحت إشراف السلطة الأبوية السلطانية للمخزن المغربي، الذي أخذ الصدارة في الاستحواذ على الفكرة الوطنية بغلاف تقليدي، بينما ظل الشعب المغربي يصنف افتراضيا في خانة الخاضعين للوصاية أو التبني، فكانت الخيارات المطروحة أمامه منذ تلك الفترة محدودة بين خيارين لا ثالت لهما: إما الخضوع للديكتاتورية أو الانجراف في التبعية (انقلابا 1971 و1972 نموذجين). مع بداية التسعينيات سيعرف المغرب متنفسا لتلك الحالة عبر الحوار الاضطراري المحمود الذي وقع بين سلطة الأبوة الحسنية وما تبقى من أحزاب الحركة الوطنية التي كانت تعاني من الإنهاك فكانت تلك المرحلة مستقرا مرحليا في تاريخ المغرب الذي عرف انتقال السلطة في البلاد من الأب إلى الابن بكل ارتياح. ومنذ سنة 1999 أصبح للمغرب ملك جديد بتوجه خاص كان يتميز في بدايته بالانفتاح الديمقراطي وحرية التعبير، وظلّ يركز على التنمية الاقتصادية كمدخل لبناء المستقبل وصون صورة البلاد ومصالحها الاستراتيجية بتحركات ديبلوماسية نشيطة، لكن الوضع السياسي الداخلي للبلاد ظل منسيا في هذا التوجه الجديد حيث اتسعت الهوة بين السلطة الحاكمة وقاعدة المحكومين، بسبب ضعف مؤسسات الوساطة أو الأحزاب التي ما هي في الحقيقة سوى ضحية لتراكم الأزمات السياسية السابقة. وفي ظل ضعف مؤسسات الوساطة أو إضعافها وعدم استقلاليتها يغيب صوت الشعب... كأن الدولة بحاكمها ومحكوميها ترفض الخروج من وصاية الأبوة القديمة والانطلاق إلى مرحلة جديدة مستقلة ومتجردة من موروثات الماضي.