شكل تشجيع المؤتمر الأخير لجبهة البوليساريو سكان مخيمات تندوف على النكاح من أجل التكاثر دليلا قويا على ضيق الأفق السياسي لقادة الجبهة للتجاوب الواقعي مع حدة المطالب الشعبية الراغبة في التسريع بإيجاد حل سياسي يقيهم بؤس العيش في المخيمات، ودليل آخر على بداية أسلمة خطابها الموجه إلى الداخل حينما توسلت بالخطاب الديني، ومرتدة عن خطابها اليساري الثوري. هذا التحول المرتبك برز في لجوء قيادة جبهة البوليساريو إلى جعل الخطاب الديني أساس الالتزام بما أسمته توصية الشباب والتكاثر التي دبجتها بالحديث النبوي الشريف: "تناكحوا، تناسلوا إني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة". وطبعا فقد بررت الجبهة هذه التوصية باستحضارها للوعي بأهمية العنصر البشري كضامن لديمومة المجتمع وتناميه، ولمواجهة القلة وخطر الإبادة التي يقوم بها ما تسميه (الاحتلال المغربي) ضد ما يطلق عليه "الشعب الصحراوي". ويكاد يكون لجوء قادة البوليساريو إلى الخطاب الديني أمرا ناذر الحدوث؛ لأن الخطاب الديني بحسبهم لا يتناسب وإيديولوجياتهم اليسارية القائمة على مفاهيم الثورة والبندقية وصوت المدفع لحل المشكلات (انظر مقالنا قراءة في الشعارات الدموية لمؤتمرات البوليساريو الانفصالية). ولعل استناد البوليساريو إلى الخطاب الديني لتفعيل أحد أهم توصيات مؤتمرها الأخير جاء بعد نجاح التحشيد الكبير الذي قام به شباب المخيمات ضد خطة الجبهة بفرض الزواج القسري على شباب وفتيات المخيمات، مما مكن من تعبئة حقوقية داخليا وإقليميا ودوليا، نتج عنها ارتفاع الأصوات الحقوقية المنددة، والتي اعتبرت الزواج القسري انتهاك لحقوق الإنسان ومس بكرامة الإنسان الصحراوي. ولقد ظلت جبهة البوليساريو تعمل على شرعنة الزواج القسري منذ الثمانينات في إطار خدمة ما تسميه ب "مشروع الجمهورية الصحراوية" القاضي بتشجيع النكاح للتكاثر السكاني بالمخيمات تحسبا لتطبيق مبدأ الاستفتاء بالأقاليم الصحراوية. ومنذ ذلك الحين تفاعلات عدة هيئات دولية وإقليمية مع هذا الواقع المخالف لحقوق الإنسان، وإن كان ذلك لا يزال لم يجد طريقه إلى المنتديات الحقوقية بقدر بشاعة الأمر، ووضع حد لهذه الممارسة المهينة، إذ لا أحد يصدق في عالم اليوم أن الزيجات في مخيمات اللاجئين تتم قسرا، عبث ينضاف إلى سجل ممارسات الجبهة لحرمة حقوق اللاجئين، فضلا عن التعذيب والعبودية ونفي المعارضين لسياستها خارج المخيمات كحالة مصطفى ولد سلمى المعتصم حاليا أمام منظمة غوت اللاجئين بالعاصمة الموريتانية نواكشوظ في انتظار الحصول على حقه في العيش وسط أسرته بالمخيمات. وكانت الجبهة قد فرضت سياسة الانكاح القسري شملت فتيان وفتيات المخيمات، حيث أقامت السنة الفارطة 1200 خيمة موزعة على كل نقاط المخيمات منها ما يسمى بولاية العيون 190 خيمة، وولاية الداخلة 364 خيمة، وولاية اوسرد 200، ولاية السمارة 400 خيمة والباقي موزع على بقية التجمعات المتفرقة بين ما يسمى بالولايات لتنظيم عملية الزواج الإجباري المطبق بالقوة لكل من تجاوز سنه 17 سنة. الأمر الذي خلف استياء حقوقيا على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، إذ تمكنت المقاومة الشعبية داخل مخيمات تندوف من صد ذلك، فاقتنعت الجبهة أن الإجبار خيار فاشل فتوسلت بالخطاب الديني من أجل إقناع الشباب بالتكاثر في ظل واقع مجهول المصير. إن لجوء البوليساريو إلى مختلف الأساليب للزواج قد ينظر إليه على أنه حل لمشكلة الهجرة المكثفة من مخيمات تندوف دون العودة إليها، ومنها حالات العائدين إلى الأقاليم الصحراوية داعما لمقترح الحكم الذاتي الموسع أو الهجرة النهائية إلى الخارج. ذلك أن تراجع وتواصل تناقص أعداد سكان مخيمات تندوف يفقد مصداقية البوليساريو ويقوض شرعيتها في التفاوض باسم الصحراويين، ولذلك تلجأ إلى كل الوسائل من أجل الإبقاء على زخم أعداد سكان المخيمات كورقة تفاوضية أساسية، حيث ظلت على الدوام تساوم بسكان المخيمات من أجل الشرعية واستجداء المساعدات الغذائية. وأمام هذا المستقبل المجهول يتفتق وعي شباب مخيمات تندوف بأن تكون أولوياتهم النكاح والتكاثر في ظل مستقبل مجهول وبالتالي عدم ترجمة (المنطق العددي حسب شيوخ قيادة البوليساريو) وإنما التفكير في سبل الاستقرار الاجتماعي الطبيعي للتفكير بالعودة إلى الوطن "محافظات الصحراء". ويزداد هذا الوعي بعد سيادة حالة من الفتور واليأس من أطروحة الانفصال الذي تتشبث به البوليساريو لما يفوق عن 35 سنة دون تحقيق أي تقدم نحو الحل ولا سيما بعد فشل 12 جولة من المفاوضات الرسمية وغير الرسمية تحت إشراف الأممالمتحدة بين الطرفين. ولعل هذه الطموحات المنطقية للشباب الصحراوي في مخيمات اللجوء هي التي تجعل منهم عاقين لقيادة البوليساريو التي لا تنظر لهم إلا كرقم عددي تقوي به مطالبها بالزيادة من حجم المساعدات الغذائية ولربما لتصحيح نفخها في أعداد سكان المخيمات بعد أن غادرها الكثيرون نحو العواصمالغربية من دون العودة، ولا سيما بعد توالي الضغوط عليها للقبول بإعادة إحصاء سكان المخيمات. وفي هذا السياق تستمر سياسة التكاثر عند جبهة البوليساريو من دون التفكير في ضمان الشروط الإنسانية الطبيعية، مما يكشف عن فشل مشروعها السياسي، وارتفاعات حالات رفض مظاهر هذا المشروع ومنه سياسة الزواج القسري. إن المثير في توصية تكاثر سكان مخيمات تندوف كزنها تأتي بمبرر أن ما تسميه الجبهة تعرض الشعب الصحراوي للإبادة، وهي في ذلك تنفي الهوية الصحراوية عن أي شخص من خارج المخيمات، بما فيهم صحراوي الداخل، وهي بذلك تحصر الانتماء الصحراوي على سكان المخيمات دون غيرهم، وأنهم هم المعنيون بما تسميه معركة التحرير. وهذا الاستنتاج تجسد في استدعاء عدد من انفصالي الداخل لحضور رمزي في أشغال مؤتمرها الأخير من إشراكهم بالتمثيلية فعادوا إلى المغرب كعودة باقي الوفود الحزبية التي حضرت المؤتمر. ويكشف استقراء واقع المشروع السياسي لجبهة البوليساريو أنه يعيش انتكاسات عميقة انعكست في طبيعة خطاب الجبهة السياسي على المستوى الداخلي والخارجي، فعلى مستوى خطابها للداخل تبين أنه عرف تعديلا كبيرا، حيث شرعت الجبهة تتجه نحو أسلمته، ويبرز ذلك في توسلها غير المسبوق بالخطاب الديني "قرآن كريم وسنة نبوية شريفة" للإبقاء على التعالق الشعبي بمشروعها السياسي التقليدي في غياب بديل فعال له، وذاك ما جعل سقف الاحتجاجات يرتفع إلى حد المطالبة برحيل محمد عبد العزيز المراكشي، وتتواصل هذه الاحتجاجات أمام مفوضية غوث اللاجئين بالرابوني وأمام الأمانة العامة لجبهة البوليساريو. أما على مستوى خطابها الموجه للخارج فقد تحددت ملامحه بتخلي الجبهة عن الخيار العسكري وأسلوب المواجهة العسكرية للقوات الملكية المغربية بأسلوب الدبلوماسية السلمية القائمة على الورقة الحقوقية في المنتديات والملتقيات الدولية لإضعاف الموقف المغربي من خلال الدفع في اتجاه توسيع صلاحيات البعثة الدولية إلى الصحراء -المينورسو- لتشمل مراقبة حقوق الإنسان. وطبيعي أن تتخلى جبهة البوليساريو عن إيديولوجيتها اليسارية لارتفاع درجة وحدة تأثير المعارضة الشعبية بعد الربيع العربي، ولذلك تنبهت اليوم إلى ضرورة تعديل خطابها للإبقاء على صمام أمان نبض الشارع في المخيمات، وقد كشفت توصيات المؤتمر الأخير للجبهة إحساس القيادة بتهديد التشرذم والتفرقة، حيث ورد في أحد توصيات المؤتمر "إن المؤتمر ليهيب بكل فئات شعبنا، كبارا وصغارا، نساء ورجالا، إلى التشبث بمبادئ وقيم الوحدة الوطنية تجسيدا لقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم ادعاءا فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا". وأكيد أن الجبهة بات تفتقد إلى المبررات المقنعة لإبقاء سكان المخيمات راضين بحالة البؤس والقهر داخل المخيمات، لذلك لم يكن أمامها من خيار سوى التوسل بالنص الديني لإخفاء محدودية أفقها السياسي في المساهمة بحل النزاع حول الصحراء. *محلل سياسي مختص بقضايا الصحراء والشأن المغاربي [email protected]