بتاريخ 04/02/2012 ، وبمناسبة عيد المولد النبوي ، وبمقتضى العفو الملكي ، أفرج عن المعتقلين السلفيين :أبو حفص عبد الوهاب الرفيقي ، حسن الكتاني ، محمد الحدوشي ، المعروفين بشيوخ التيار السلفي بالمغرب . وبصفتي محاميا رافعت للدفاع عن قضاياهم وقضايا إخوانهم أمام محاكم المملكة ، قبل اعتقالي سنة 2003 بسبب هذه القضايا واستمراري في الدفاع عنها بعد الإفراج عني أيضا ، لا يسعني سوى أن أثمن هذا الحدث السعيد ، معتبرا إياه معلما بارزا على طريق التصفية النهائية لملف ما يعرف بقضايا مجموعات السلفية الجهادية ، هاته القضايا التي عمرت الآن عشر سنوات ، منذ بدء الحملة الأمنية والقضائية في مواجهتها بعد هزة 11 سبتمبر 2001 بنيويورك . وقد عرفت البلاد دورة سياسية جديدة بالتعاقد الدستوري الجديد ، وهو ما يحتم على الجميع دولة وشعبا ، الإنطلاق بنفس جديد ، قوامه طي صفحة الماضي والتطلع إلى آفاق المستقبل . طي صفحة الماضي ، ذلك هو الشعار الذي يلهج به لسان كل من ينتسب إلى المغرب الحبيب ، مسؤولا كبيرا كان أو صغيرا، مواطنا مناضلا كان أو خاملا ، بدافع الغيرة ، والإشفاق على واقع البلاد ، أم بدافع الديماغوجية والاستهلاك والانتهازية . حلم رائق ، ترنو إلى أنواره الوهاجة الخلابة كل العيون ، بانشداه وانبهار، وتهفو إليه النفوس بكل ما في الهفو من توقان . لماذا ؟ لأن الجميع يتيمن في طي صفحة الماضي تجديدا تلوح منه تباشير الخلاص ، من كل ما يجثم على صدر البلاد من محن وتعثرات ومآس . ويبقى السؤال متى سينطوي ذلك الماضي، ومتى ستنطوي معه آلامه وأحزانه، وتنزاح مع طيه ، آثار مظالمه ومثالبه ؟ ومتى سيتنزل على الأرض ما وعد به المسؤولون أنفسهم ، وتعهدت به الهيئات : سياسية وحقوقية واجتماعية ، وألحت عليه في الطلب والمطالبة فئات الشعب في تظاهراتها الفبرايرية ؟ وانطبع صداه في الوعد الدستوري الجديد . لا ننكر بعض الإجراءات التي اتخذت على سبيل البدء ، وأعطت الانطباع على أن الحراك يدب في مضامين الوعد بطي صفحة الماضي ، ولكنه حراك لا ينبغي أن يكون بطيء الوتيرة ، بطء الطريقة المغربية ، حتى لا تشوبه من التعلات في آلياته وضحالة حجمه ، ومحدودية سقفه ، ما إن الآمال معه قد توشك على التلاشي ، وما لا يمكن معه أن تشتفي الصدور المكلومة من لواعجها ، وما يظل معه المطلب الشعبي مراوح مكانه ، وإن تعددت تجلياته وتعبيراته بتعدد المنابر الحقوقية والسياسية . ولا جدال في أن موضوع الإفراج عن معتقلي الرأي ، وهم : مجموعات السلفية الجهادية ، ومعتقلي الصحافة والتدوين ، ومعتقلي الحراك الاجتماعي والطلابي ، وبقايا معتقلي التسعينيات ، يحتل الصدارة على الدوام في كل محطة ينادى فيها بطي صفحة الماضي ، وبدون شك أن هذه الصدارة تشمل أيضا المنفيين السياسيين الذين لازالوا في المنفى وعلى ذمة محاكمات القرن الماضي ، ومن بينهم : المحكومين غيابيا في المحاكمات الإسلامية سنوات 1984 ) مجموعة أل 71 ( و 1985 ) مجموعة أل 26 ( و 1986و 1987 ) مجموعة المجاهدين( و 1994 و 1995 ) مجموعة أطلس أسني ( ، وعلى رأسهم ايضا الشيخ عبد الكريم مطيع مؤسس الشبيبة الإسلامية ، والتي أصبح تلامذتها الآن وزراء في الحكومة المغربية وفي رئاسة الحكومة بعد دستور الفاتح من يوليوز . وفي تجارب الدول والشعوب، فإن الإفراج عن المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين هو الباب الذي يولج منه عند كل تحول سياسي ، تخيم فيه أجواء الانفراج و تحل فيه مبادرات المصالحة والوئام ، وتتجدد فيه التوافقات السياسية ، من أجل تنقية العلاقات ما بين الحكم والمعارضة . ولقد تفطن المغرب في لحظة حرجة خلال التسعينيات من القرن الماضي ، كانت قد احتبست فيها الأنفاس من جراء تهديد البلاد بالسكتة القلبية ، تفطن إلى إنهاء ظاهرة الاعتقال السياسي ، والاختطاف القهري ، والنفي الجبري ، كمسلك ضروري تستتب به شروط عقد جديد بين فرقاء المشهد السياسي ، لتجاوز الاختناق السياسي ، وتحقيق إقلاع ما ، على الأقل ، يقي من السقوط المدمر . فكانت المبادرات السياسية نحو الانفراج ، الأولى بإلغاء ظهير الاستعمار المشؤوم ظهير 1935 ) المعروف بظهير كل ما من شأنه ( ، والذي شرعنته يد المحتل ، لتعقل به كل من رام استئصال شافته ، وزلزلة أركانه ، وكان سببا بعد الاستقلال في إلجام كثير من المشاركات الصادقة في بناء الوطن ، وسببا في تراجعات محبطة للثقة ، مقوضة للآمال . والثانية من المبادرات تمثلت في إصدار العفو الشامل على المعتقلين والمنفيين السياسيين سنة 1994 ، نالت تجاوبا مثمنا كبيرا واعتبرت إيذانا بحلول عهد سياسي ، أطل بتباشيره محملا بالتطلعات التي طالما صبا إليها الشعب المغربي بكل فئاته ومكونات وطلائعه وقواعده ، وهو العهد الذي توج بإحلال حكومة التناوب سنة 1998 حكومة الكتلة الديمقراطية بزعامة المعارض الإتحادي عبد الرحمان اليوسفي . لكن هذه المبادرة التي استهدفت إنهاء ظاهرة الاعتقال السياسي والنفي السياسي ، وطي صفحة الماضي بالعفو الملكي الشامل ، لم تكن لتستكمل أشواطها فتحقق الغاية المتوخاة منها ، حينما تم استثناء المحكومين غيابيا في المحاكمات الإسلامية ، وكذا المبحوث عنهم في إطار ملابسات وقضايا هذه المحاكمات سنوات الثمانينيات والتسعينيات . والواقع ، أنه لازال هناك خارج الوطن من لا يزال يرزح تحت نير الإبعاد والنفي السياسي ، وينوء صدره بأثقال من هم ومكابدة مئات الآلاف من ليالي وأيام التيه في المنافي والخوف من الإعتقال السياسي ، ومطاردة أحكام الإعدام والسجن المؤبد . ولقد كان استثناؤهم من منحة العفو الملكي التي توخت إحلال الانفراج السياسي ، تحويرا خرج به عن الأهداف التي صبا إليها الشعب المغربي في ذلك الحين ، وكذا المجتمع المدني ، والمكونات السياسية ، وهي الإبادة الشاملة للأحزان كل الأحزان التي خلفتها تقاليد بالية في الجور والانتهاكات . وكانت معالجة مبتسرة ، اعتسفت الطريق ، تلك التي أشارت بتأويلات خاطئة ، في معايير هذا الإستثناء ، فتنكبت بها عن الروح العادلة لرسالة العفو الملكي الشامل ، والتي لا تعني سوى إسدال ظلال الرحمة والتسامح ، إسدالا عاما يتفيأ من خلاله كل المعذبين بسبب الرأي السياسي ، تحت ظلال الخلاص ، لا أن يكون التصرف في العفو سببا لمضاعفة العذاب مرتين ، مرة بتسليط سيف الحكم الغيابي بالإعدام والمؤبد عنتا وقهرا ، ومرة بالحرمان من العفو برأي استشاري غير حصيف . إن المنفيين السياسيين من المحكومين في المحاكمات الإسلامية خلال القرن الماضي ، القابعين الآن في ظلمات المنفى والضياع ، المراكمين لمعاناة تعود إلى منتصف السبعينيات ومطلع الثمانينيات ، وكذا التسعينيات ، هم من مجموعات المحاكمات السياسية التي رزئت بثقل مضن من المظالم السياسية في غياب الضمانات والمحاكمات العادلة ، وقد رمت بهم إلى عالم المنفى ، كما رمت بغيرهم ظروف كالحة استأسد فيها التضييق على تطلعات الشباب وأرائهم والتهميش لطاقاتهم ، وطغى فيها الإجهاز على الحريات والمكتسبات والمطالب الديمقراطية ، وكان طبيعيا أن تتشح ردود الفعل المعارضة بالتوتر والرفض ، حينما تنسد أبواب الحوار وتدلهم آفاق الانتعاش الفكري والسياسي ، ورغم ذلك ، فالمنفيون الإسلاميون والمجموعات التي ارتبطوا بها لم يرتكبوا أفعالا جنائية نتج عنها تخريب أو إراقة دماء بالمغرب ، بالرغم من أن العفو الملكي شمل غير ما مرة ، حتى تلك الأفعال التي تسببت في إراقة دماء من كان يدافع عن وحدة البلاد من جنود القوات المسلحة الملكية ، فيما عرف بعصابة البوليساريو ، وهو أمر محمود نال تقدير الجميع ، ولا يكرس إلا الانسجام مع المسار الطبيعي والتشريعي لمؤسسة العفو ، فالعفو لم يشرعن إلا للقطيعة مع الماضي والتغاضي عن مثاليه . والتيار السلفي الذي اصطلح على تسميته بتيار السلفية الجهادية ، والذي حمل أوزار الأحداث الأليمة ل 16 ماي 2003 ، لا يمكن أن يشذ التعامل معه هو أيضا ، ويخرج عن هذه القاعدة ، وهو على عكس التيارات المعارضة السابقة ، لم يكن يستهدف في أفكاره قط نظام الحكم الملكي القائم في البلاد ، بقدر ما هو حالة فكرية تجاوبت مع المد الإسلامي العالمي المناهض للسياسات الأمريكية التي قادها المحافظون الجدد خلال العشرية السالفة ، إضطهادا للعالم الإسلامي . وإذن فالاحتكاك المؤلم الذي وقع بين هذا التيار والدولة ، بواسطة أجهزتها الأمنية والقضائية والسجنية، والإعلامية أيضا ، وبواسطة الترسانة القانونية الزاجرة ، وبواسطة التنكيل داخل السجون الذي اكتوى بجحيمه المعتقلون ، وكذا الأساليب النضالية التي لجأ إليها التيار من خلاله تواصله مع هيئات الدفاع ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية ، والوسائل الإعلامية ، المقروءة والمبتوتة ، أي تواصله مع مرجعيات فكرية يسارية وليبرالية وإسلامية معتدلة ، قد يسهم في إنضاج الأجواء التي تبعد استقرار البلاد عن دائرة الخطر ، لما يمثله هذا التدافع والتطاحن والاختلاج إذا ما ووكب من طرف الدولة ، بسياسة تصالحية ، من فرصة لإدماج تيار لا يستهان به على الأرض في النسيج الوطني سياسيا واجتماعيا ، حتى لا تبقى حالته الفكرية بؤرة للتمرد والرفض ، ومحضنا لتوليد الصدام الدموي . ويجدر القول إلى أن كل مصالحة لا تصح إلا بشمل جميع معتقلي السلفية الجهادية بمنحة العفو والإفراج العام ، مع الاحتفاظ بمعالجة خاصة لقضايا الدم ، لأن الإنتقائية في هذا الموضوع ليست محققة للغرض من وراء الطي النهائي للماضي ، وقد كانت الإستثناءات من العفو الملكي ، بالنسبة للمعتقلين الإسلاميين المتبقين الآن في السجون بمثابة محاكمات جديدة ، نكأت جراحاتهم ، بعد سنين طويلة من الانتظار البئيس ، وقرارات الاستثناء من العفو ، كانت بمثابة أحكام قاصمة للظهور المهترئة ، حينما قضت بأن تحجب الشمس عن عيون صمدت ، وهي ترنو إلى انبلاجة فجر منقذ ، فأي مرارة أشد وأنكى ، ليس هذا فحسب ، بل إن الاستثناءات كانت وبالا على بيوت الأمهات والزوجات والأطفال، مثلما قال الشاعر: ها هنا عرس وهنا قام المأتم ** بيت ينوح وآخر يترنم . والعفو الملكي الشامل بمعيار القطيعة مع الماضي ، هو الذي يتيح لكل معتقل سياسي معانقة حريته ، وهو وحده من يعزز إرساء دعائم السلم والوئام ، ويهب الثقة ويسكن التخوفات ، حتى يهب كل المجتمع دون استثناء في المشاركة في بناء مؤسسات دولة الكرامة والحق والقانون ، على درب التعاقد الدستوري الجديد . ولأن الانطلاق السياسي السليم مقترن دائما مع المناخ السياسي الصافي من إرث المظالم والاعتقالات السابقة . ولقد حان الوقت لتحقيق هذا الشرط ، وتحقيقه بالحجم الضخم الذي تشرع فيه أبواب السجون على مصراعيها ، حتى لا يبقى وراء القضبان ، رجل رمت به إلى الاعتقال رياح السياسة أو الثقافة أو الصحافة أو النضال المطلبي والنقابي ، لأن بقاء أيا كان من هؤلاء داخل السجون هو إبقاء لذرات الشوائب في الجو السياسي ، والمطلوب تصفيته من كل شائبة يمكن أن تشوبه . والمعتقلون الإسلاميون هم من هؤلاء ، و قد كانوا أفرادا من الشباب الإسلامي الذي اختار فكرا وعملا ، النهج الذي تأسس به المغرب منذ قرون أمة ودولة ، وهو النهج الإسلامي الذي يستند بالكتاب والسنة إلى الحضارة الإسلامية الرشيدة وتراثها الإنساني الراقي والقويم الذي يقبل الانفتاح على عطاءات الإنسان في التاريخ كل ما كانت قويمة وراشدة . وقد عاش التيار الإسلامي سابقا حالة من الحظر والإقصاء ، وتسببت عقلية الاحتراس الأمني والتضييق والمنع والقمع في توليد أجواء التوتر لعقلية دفاعية عن الذات والحق ، واجهت الحيف والقمع ، بنية التصدي والتحدي والاصطدام . واليوم وقد انتفت هذه الظروف ، فالمعتقلون الإسلاميون في سجونهم أكثر ارتباطا بالمجتمع ، وتفاؤلا بالعهد الجديد ، وأشد دفاعا عن الحريات والديمقراطية الحقيقية ، وقد حاورتهم أصناف عديدة من نخبة الفكر الحقوقي والسياسي الوطني والدولي ، وحاورهم المسؤولون مباشرة خلال زياراتهم ، فلم يجدوا لديهم إلا الوعي الوطني السياسي السليم ، والرأي العقلاني المتنور ، والتفكير الحضاري الديمقراطي النابع من عقلية إسلامية متزنة وناضجة . والمطلوب الآن، ومن أجل تدشين عهد سياسي جديد يحث على الإنخراط العام في بناء الغد ، أن تمنح الحرية بسخاء ، كما ضيقت بلا حدود ، فتشرع أبواب السجون ، وتفتح الحدود أمام المنفيين الإسلاميين وغيرهم ، هم وأسرهم وأبناؤهم الذين أنجبوهم في أعشاش المنافي ، ومتاهات اللجوء السياسي . وليس ذلك بعزيز على المغرب الذي دشن تقاليد حقوقية تصالحية في إطار المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان ، واللجنة المستقلة للتحكيم ، وهيئة الإنصاف والمصالحة ، وتوجها بدسترة المجلس الوطني لحقوق الإنسان . فحيا على المصالحة الشاملة حيا على الوئام الوطني. *عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة