حكومات الربيع الديمقراطي بين بناء الدولة الحديثة ومعالجة الطلب الاجتماعي المنفجر بعد مضي أزيد من سنة على انطلاق الموجة الرابعة للديمقراطية التي اجتاحت بلدان شمال افريقيا والشرق الأوسط، والتي باغتت أنظمة دكتاتورية وأرغمت أنظمة اخرى على التكيف مع متطلبات الوضع الجديد بإصلاحات متفاوتة الدرجة. ولقد أفرزت هذه الموجة حكومات جديدة تحمل شعارات التغيير والاصلاح، وتستند إلى شرعية شعبية غير مسبوقة في عالمنا العربي، وتقودها أحزاب وتحالفات سياسية تسعى لاسترجاع الكرامة المهدورة وبناء الدولة الحديثة /المواطنة. غير أنه بقدر ما تطمح هذه الحكومات إليه من التأسيس لنظام سياسي حديث وثقافة سياسية جديدة، فإنها ترتطم بطلب اجتماعي منفجر يحمل مطالب فئوية وتسوية وضعيات اجتماعية مأزومة، تعبر عنه حركات احتجاجية متعددة. ومن امثلة ذلك ما حدث من احتجاجات للمعطلين و احداث مدينة تازة وسلا وبني ملال... – ومثلها ما يظهر في تونس ومصر وليبيا...- وما هو آت من احتجاجات أخرى متوقعة. فكيف تعاملت حكومات الربيع الديمقراطي مع هذا الوضع؟ وهل تستطيع التوفيق بين طموح بناء الدولة الحديثة و مطالب الحراك الاجتماعي المتواصل؟ يتفق عدد من الباحثين والمفكرين على أن فترة ما بعد التحرر – سواء من الاستعمار او الاستبداد- تنتج حالة من فائض الحرية غير المألوفة، والمفقودة في عقود الاستبداد والاستعمار، والذي عوض فائض القمع السائد قبلا، وهو دليل حالة المد في الحريات وفي التعبير، وعلامة صحية على التحولات العميقة والايجابية التي تتفاعل في المجتمع، رغم انها قد تخلف ضحايا وخسائر كضريبة لعملية الانتقال هاته. امام هذا الوضع تجد هذه الحكومات امامها مقاربات مختلفة لتجاوز المرحلة. منها المقاربة الامنية الضيقة والتي تستند على ضرورة أن يتحمل المجتمع وحركاته الاحتجاجية ضريبة الانتقال وضريبة بناء الدولة الحديثة، وبالتالي فعليها ان تتفهم عدم الاستجابة لمطالبها الانية والمستعجلة، وانتظار العائد من الإصلاحات الهيكلية والعميقة التي تهدف إلى إقامة بنية اقتصادية قوية ومنتجة وتأهيل نظام الحكامة واقرار العدالة الاجتماعية. كما تستند هذه المقاربة إلى تفسير كل حركة احتجاجية بالمؤامرة التي تحركها ايادي خفية للنظام القديم أو جهات ما تريد إفشال التجربة الجديدة. فاعتمادا على هذه المبررات -ومبررات اخرى-، تعتمد الحكومات المقاربة الأمنية الضيقة من خلال تغليب العنف على الحوار وتوجيه الاتهامات للحركات الاحتجاجية، بهدف الحفاظ على النظام العام، وهو ما يهدد شرعية هذه الحكومات، ويبدد شعارات التغيير والإصلاح، ويغذي التيارات المتطرفة والعدمية. ونجد بالمقابل المقاربة الاجتماعية الفوضوية، بحيث قد تلجأ الحكومات إلى ضمان استمراريتها والحفاظ على السلم الاجتماعي وتفادي أي احتقان محتمل قابل للتطور والانفجار، والمراهنة على التجاوب مع الفئات الاجتماعية والشعبية للرفع من الرصيد الشعبي، وتقوية الصف الوطني، وتأجيل الاصلاحات الهيكلية لعميقة إلى ما بعد ضمان استقرار الاوضاع الاجتماعية، فلذلك تسارع الحكومة إلى إعطاء الاولوية إلى حل كل المشاكل الاجتماعية، والاستجابة لكل المطالب الفئوية مهما بلغت تكلفته وبدون نظرة استراتيجية، وهو ما قد يؤدي إلى ازمة اقتصادية حادة ناتجة عن ارتفاع النفقات وغياب التخطيط الشمولي، كما أنه سيشجع على حالة من الفوضى الاجتماعية، لأن كل فئة ستطمح إلى تحسين مستوى العيش والترقي الاجتماعي. وبين المقاربتين السابقيتين نجد المقاربة الوطنية والمندمجة، والتي تحاول التوفيق بين ضرورة الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي مع الاصلاح، وتعتبر هذه المقاربة ان الحرمان والاقصاء الاجتماعي مهدد للاستقرار، وأن المقاربة الامنية محدودة وغير كافية لمعالجة المشكلات الاجتماعية، وانه قبل الحفاظ على النظام العام الامني يجب ضمان استقرار النظام العام الاجتماعي والاقتصادي. إن وجاهة هذه المقاربة في كونها ترى بضرورة تدبير الطلب الاجتماعي المنفجر دون السقوط في الفوضى وعدم الاستقرار، وهو ما يتطلب إعلان حالة طوارئ اجتماعية و فتح حوار وطني حول المشكلات المطروحة، وتقديم حلول عقلانية ضامنة للسلم الاجتماعي ومساهمة في بناء دولة الحق ودولة القانون، وكذلك من خلال الرفع من منسوب الثقة وتنمية الحس الوطني من اجل تجاوز المرحلة الانتقالية بسلام. فانفجار الطلب الاجتماعي يبقى ابرز تحدي يواجه حكومات الربيع الديمقراطي، كما أن قدرة هذه الحكومات على إدارة الطلب الاجتماعي، بموازاة مع تأسيس نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يضمن العدالة الاجتماعية و الكرامة والحرية، ويعيد للشعوب أفق النهضة والتقدم والرفاه. لقد اختارت الشعوب خيار التغيير والاصلاح والقطع الماضي المظلم بظلام الفساد والاستبداد، وبذلك استعادت الأمل والإرادة لبناء غد أفضل... غير ان هذا الأمل والارادة يبقى مهدد بالتبخر ما لم يعرف رعاية مستمرة وجرعات اخرى من الأمل، من خلال إعمال المقاربة المندمجة في التعامل مع متطلبات المرحلة، والخروج الآمن من عنق الزجاجة. *باحث جامعي / فاعل جمعوي