في سنة 2017، حذّر بنك المغرب والهيئة المغربية لسوق الرساميل ووزارة الاقتصاد والمالية، من التعامل بعملة "البتكوين" الشهيرة، بعدما كثر التهافت على شرائها من طرف المغاربة، نظرا إلى الارتفاعات الخيالية لسعرها في سوق العملات الافتراضية خلال فترة وجيزة. وعللت هذه الجهات المالية المغربية موقفها من التعامل بعملة "البتكوين"، باعتبارها نشاطا غير منظم، ينطوي على مجموعة من المخاطر المرتبطة بغياب إطار حمائي للزبون المتعاطي لهذا النشاط، وتقلُّب سعر صرف العملات المشفّرة، وإمكانية استعمالها في ارتكاب بعض الجرائم الخطرة. وسار مكتب الصرف المغربي في الاتجاه نفسه، إذ أصدر بلاغا اعتبر فيه أن التعامل بالعملات المشفّرة يشكل مخالفة لقانون الصرف الجاري به العمل في المملكة، ويعرّض مرتكبيه للعقوبات والغرامات المنصوص عليها في النصوص ذات الصلة. غداة ذلك، انبرى عدد من المتابعين إلى اعتبار موقف السلطات المالية المغربية "متخلفا"، معللين موقفهم بكون "البتكوين" وغيرها من العملات الافتراضية عملات المستقبل، في ظل التطور التكنولوجي والمعلوماتي الهائل الذي يشهده العالم، لكن ما موقف القانون المغربي من التعاملات المالية بالعملات المشفّرة؟ في مقال مطوّل نُشر بالعدد الأول من مجلة رئاسة النيابة العامة نصف السنوية، الصادر قبل أيام، يؤكد عبد الرحمان اللمتوني، رئيس شعبة تتبُّع القضايا الجنائية الخاصة برئاسة النيابة العامة، ومدير نشر المجلة، أن اعتبار نشاط ما جريمة يقتضي وجود نصّ قانوني صريح، يجرّم ويعاقب هذا النشاط، إعمالا لمبدأ الشرعية الجنائية. وأشار اللمتوني إلى أن المادة 55 من قانون الالتزامات والعقود، ينص على أنه "يدخل في دائرة التعامل جميع الأشياء التي لا يجرم القانون صراحة التعامل بها"، وهو ما يعني، بحسبه، أنّ مسألة إخراج الأشياء والأموال من دائرة التعامل "يجب أن تتم بموجب القانون". وتباينت الأحكام الصادرة عن القضاء المغربي في قضايا التعاملات بالعملات المشفّرة، إذ تمت إدانة متهمين تعاملوا بعملة "البتكوين" بعلة عدم قانونية هذا النوع من المعاملات، وأخرى برّأت ساحتهم بعلّة أن فصول مخالفات الضابط المتعلق بالصرف التي توبعوا بها، تخص العملات التقليدية وليس العملات الإلكترونية. ووضح القاضي اللمتوني أن تضارب موقف المحاكم المغربية بشأن التعامل بالعملات المشفّرة، يرجع بالأساس إلى اختلافها بشأن تحديد طبيعة هذه العملات، إذ أن الاتجاه القضائي الأول استنتج أنها تدخل ضمن مخالفات قانون الصرف، والفصل 339 من القانون الجنائي الذي يجرّم صنع أو تداول عملة تقوم مقام النقود المتداولة. أما الاتجاه القضائي الثاني، الذي برأ ساحة المتهمين بالاتجار في العملات المشفّرة، فإنه لم يَعتبر هذه العملات عُملة أو نقودا، بل أخرجها من نطاق النصوص القانونية سالفة الذكر، وصرّح بكون التعامل بها لا يشكل جريمة في غياب نص جنائي صريح. القاضي اللمتوني مالَ إلى الاتجاه القضائي الثاني، معتبرا أنه "يبقى الأقرب إلى الصواب"، معللا موقفه بكون العملات المشفّرة، فضلا عن كونها لا تتوفر فيها خصائص النقود والعملة التقليدية، فإنها أقرب لتوصف بأنها مال منقول معنوي، وبالتالي فهي غير خاضعة لأحكام الفصل 339 من القانون الجنائي، وباقي فصول الفرع الأول من الباب السادس منه، والتي تتحدث عن النقود المعدنية والنقود الورقية، "باعتبارها ذات تجسيد فيزيائي مادي، ولها قوة إبرائية وموضوع قبول عام من طرف عموم الناس". واعتبر اللمتوني أن المشرّع المغربي جرّم كل فعل يؤدي إلى زعزعة الثقة في العملة الوطنية وحماية قوتها الإبرائية، أو خلق نقود تشبه العملة الوطنية أو تقوم مقامها، في حين أن العملات المشفّرة لا تتوافر فيها خصائص العملة الكلاسيكية. وأوضح أن العملات المشفرة "هي مجرد أرقام ومعاملات رياضية، لها قيمة اقتصادية نابعة من دور نظامها في المصادقة على صحة المعاملات المنجزة بواسطة سلسلة الكتل، وليس لها وجود مادي أو فيزيائي أو شكْلٌ يشبه النقود المعدنية والنقود الورقية". وأشار إلى أن غاية المشرّع هي تجريم كل محاولة لخلق نقود مماثلة للنقود الورقية والنقود المعدنية، سواء تم ذلك عن طريق التزييف أو التزوير أو التقليد، لافتا إلى أن الاتفاقية الدولية لمنع تزييف النقود وجميع التشريعات التي نهلتْ منها، إنما تهدف إلى محاربة النقود المغشوشة أو غير الصحيحة. واعتبر أن الدراسات أثبتت أن العملات المشفرة لا تمثل أي تهديد للأنظمة المالية ووسائل الأداء القائمة، بسبب النسبة الضعيفة جدا لحجم المعاملات المنجزة بواسطتها، مقارنة مع المعاملات المنجزة بواسطة وسائل الأداء التقليدية، فضلا عن أن مستوى دمج هذه العملات المشفرة في النظام المالي التقليدي يبقى محدودا جدا. وتوقف اللمتوني عند الحالات التي توبع فيها أشخاص في المغرب أمام القضاء بتهمة إجراء معاملات بعملة البتكوين، دون أن يثبت أنهم قاموا بتعدين هذه العملة، معتبرا أن أحكام الفصل 339 من القانون الجنائي لا تنطبق على مثل هذه النوازل، ما دام أن تعدين هذه العملات يتم في العالم الافتراضي من طرف أشخاص قد يتواجدون في دول تسمح قانونا بالتعامل بالعملات المشفّرة، مثل فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية، ولم يتم إدخال هذه العملات إلى المغرب. ولتجاوز الإشكالات القانونية التي تطرحها المعاملات المالية بالعملات المشفّرة، وتفادي مخاطرها وحماية مصالح الدولة ومصالح المستهلك؛ اعتبر اللمتوني أن تحقيق هذه الغاية ممكن، من خلال وضع مجموعة من الإجراءات التقنية، وسن نصوص تشريعية مواكِبة للتطورات التي يعرفها هذا المجال. واقترح، في هذا الإطار، وضعَ نظام للترخيص والتسجيل يسمح بإحداث منصات للتعامل بالعملات المشفرة، مع إخضاع المقاولات التي تستعملها لمراقبة بنك المغرب أو وحدة معالجة المعلومات المالية، على غرار ما هو معمول به في عدد من الدول. وفي الشقّ التشريعي، اقترح اللمتوني وضع نصوص زجرية رادعة بشأن الممارسة السرية لنشاط تحويل العملات المشفرة دون مراعاة قواعد التسجيل والترخيص، وتعديل المقتضيات المتعلقة بمكافحة غسل الأموال، بجعل المقاولات التي تباشر نشاط تحويل العملات المشفرة ضمن لائحة الأشخاص الخاضعين، وإلزامها بواجبات اليقظة والتصريح بالاشتباه لوحدة معالجة المعلومات المالية. وفي الجانب المتعلق بحماية حقوق الدولة وحماية المستهلك، قال اللمتوني إن ذلك يقتضي تحديد الإطار الضريبي الذي تخضع له النشاطات المتعلقة بالعملات المشفرة، ووضع مقتضيات قانونية لحماية المستهلك والمتعاملين بهذه العملات المشفرة، مما قد يتعرضون له من احتيال وخداع.