اعتبر الدكتور محمد أمعارش، وهو كاتب وباحث في قضايا التأويل والخطاب، أن "طالب فهم الأوبئة والكوارث والحوادث، يجد نفسه أسير مسبقات وإجابات تأسيسية جاهزة، تتمثل في مجمل السرديات الكبرى المؤسسة للعقيدة، التي تناولت الأوبئة والطواعين، خصوصا في الفترات المبكرة للإسلام، من قبيل نزاع التأويل الحاصل في "طاعون عمواس"، في فترة خلافة عمر بن الخطاب، والروايات الواردة فيه، والتي تناقلتها كتب الاعتقاد، وبنت على خلافاتها وانعكاساتها وآثارها تأويلها للوباء". وأضاف أمعارش، ضمن ندوة افتراضية تحت عنوان: "تأويل الوباء: معضلات الفهم وحدوده"، أن "طالب الفهم هذا يؤسس إجاباته ضمن حدودها، وفي قبضتها، وأن تغيير "براديغم" الفهم رهين ليس بإقحام بنيات جديدة على الفهم القديم، بل بالاشتغال على الفهم القديم نفسه ومحاورته ومساعدته على تحسين آلياته، والعمل من داخله على إبراز الاختيارات القابلة للتطوير والتعميق". واقترح الباحث "تعميق البحث في آليات الفهم والتأويل هذه، مع ضرورة إعادة بناء علم أصول الدين (علم الكلام) على أسس جديدة، تسمح له بنقل النقاش القديم في قضايا الجبر والاختيار والقضاء والقدر ومسائل الإيمان والمؤمن، والإمامة والخلافة، والأسماء والصفات الإلهية، والتي عولجت ضمنها إشكالات الشر والموت والكوارث والأوبئة، إلى علم إنساني كلامي جديد بموضوعات ترتبط بالأفق المعرفي الإنساني الجديد". وأوضح الأكاديمي أن هذا العلم الإنساني الكلامي الجديد ينبغي أن "تتحول فيه قضايا الجبر والاختيار والقضاء والقدر إلى قضايا حرية الإنسان التنمية والتخلف، وقضايا الإيمان والمؤمن ومرتكب الكبيرة إلى قضايا المواطنة والمواطن والسلوك المدني، وقضايا الإمامة والخلافة إلى قضايا الديمقراطية، ويتحول معه موضوع الأسماء والصفات إلى الفعل الإنساني وحقوق الإنسان". وأشار الباحث إلى أن هذه "المحاولات لبناء علم أصول الدين (العقيدة) هي استمرار في إعادة تشكيل العقائد وتطويرها وتحسينها، ذلك التشكيل الذي لم يخل منه مصنف من مصنفات العقائد وعلم الكلام وأصول الدين المتلاحقة في تاريخ الأمة وفرقها وذهابها"، منبها إلى "مشروع "التراث والتجديد" للدكتور حسن حنفي، الذي تضمن في جزء رئيسي منه محاولة إعادة بناء علم الكلام القديم على أساس رهاناتنا في العصر، ومن أجل إعطاء دينامية لإيمان الناس واعتقادهم من أجل بناء حياتهم، على التعاون والحرية والعدل والخير والجمال والسعادة، والثقة في قدرة الإنسان على تجاوز هشاشته وضعفه الذاتي، بإبداعه لشروط حياة أفضل في عالم الحياة والموت". خلال عرضه هذا، اعتبر الدكتور أمعارش أن "سؤال فهم الأوبئة والكوارث والحوادث، مرتبط بالبنيات الذهنية والنفسية، بما فيها من عواطف وانفعالات وأبنية ثقافية قبلية تشكل مسبقات تتقدم الفهم وتجيزه، وتتحكم في الأفعال وردود الأفعال التي يتلقى بها الأفراد والجماعات مستجدات الواقع، ولذلك، كان طرح سؤال الفهم واختبار تلقيات الناس للوباء مُهما، حسبه، في تعرف ردود فعلهم تجاهه، ومعرفة الشروط الممكنة المتاحة أمامهم لجعل موضوع فهمهم قابلا للفهم". في هذا السياق، أشار الباحث إلى أن "فهم الوباء محكوم على العموم بتقدم هذه البنيات وسبقها وعرضها للإجابات الممكنة والمحتملة عن سؤال الفهم، وللاختيارات المحصورة التي يمكن اللجوء إليها لبناء الفهم، وقد حدد المتدخل هذه البنيات في المحورين التأويليين في الثقافة العربية الإسلامية، واللذين لا يخرجان عن المعنى اللغوي والشرعي للتأويل، والذي هو جدل الحال بين الأول والمآل، فالحال الذي هو النازلة المستحدثة المطلوب تأويلها، يكون التأويل فيها هو ردها إلى أولها أو أصل صدورها، أو الذهاب بها إلى مآلاتها ومقاصدها، فالتأويل صيغة تفعيل: ترجيع أو ترجيح وتصيير". وفيما يخص المحور التأويلي الأول المتعلق بإعادة إلى أول الأمر، فقد تطرق المتدخل إلى السرود الثقافية والتخييلية التي تجيب عن سؤال أصل الأوبئة والأمراض والشر، والتي تشكل، وفقه، خزانا ثقافيا ونفسيا، وخلفية عقدية لكثير من الإجابات عن سؤال فهم الوباء في ثقافتنا العربية والإسلامية، وذكر منها ما يأتي: أ سرديات المصدر الوجودي الغيبي الإلهي للخلق ولأصل العالم والخير والشر، والقضاء والقدر. ب سرديات الأرواح الشريرة من جن وعفاريت وشياطين. وفي هذا الإطار، استعرض الباحث روايات أخبار الجن، منها ما نقل من روايات في الطاعون والطواعين من أنها من "وخز الجن". ج سرديات المؤامرات والدسائس والحروب (سرود الكراهية)، التي لا تكف عن التشكيك في كل ما يحدث للناس من إضرار بمصالحهم ونشر الأوبئة في صفوفهم. د سرديات الطبيعة، التي تتضمنها المرجعيات الطبية والكيميائية والفلكية القديمة، والتي أغلبها نقول وسماعات وحكايات انتقلت إلى الفتاوى وكتب الأوبئة لفهم تشكل الأمراض، وتستند هذه السرود إلى تجارب وخبرات العصور القديمة ضمن أفقها الزمني والمعرفي. ه سرديات العمران والاجتماع المدني، التي تؤكد أن مصدر الأوبئة والأمراض المعدية الحادثة في الحضارات الإنسانية، هو بسبب فساد العمران والبيئة الحضارية الإنسانية (التأويل الخلدوني). أما في المحور التأويلي الثاني، فهو ذهاب بالوباء إلى نهايته ومآله ومقصده، إذ تناول المتدخل في هذا المحور المتعلق بفهم رسالة ومغزى ودرس الوباء، مجموعة من السرديات الكبرى المتضمنة لإجابات عن معنى الوباء، أو عن دلالته والهدف من وجوده، فكل طارئ وبائي هو عَرَضٌ من الأعراض المرضية، يحمل رسالة ما إلى البشرية وتنبيها إلى خطر قادم أو تحقيقا له وتأويلا له، كتأويل الرؤى والأحلام والاعتقادات بتجسيدها في الواقع ورؤيتها في العيان، وهذا تأويلها أي تحققها. وفي هذا السياق، ذكر المتدخل أنواعا من السرديات الأخروية والتبشيرية والنبوئية منها: أ سرديات القيامة وأشراط الساعة، وفناء العالم، والتي نجد من ضمنها أن الأوبئة والأوجاع المتفشية من علامات الساعة. ب سرديات التبشير بعالم آخر ممكن، ويندرج فيها اعتبار الأوبئة والمجاعات والكوارث أعراضا لحدوث تغيير ما في العالم، إما بإعادة توازن، وإما بإحداث تحويل جذري في الحياة، وكل الحالمين بالتغيير يجدون في الأوبئة التي تضرب البنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية القائمة ضالتهم للانخراط في التبشير بالقادم وبغد أفضل لن يكون كسابقه. ج سرديات الغضب الإلهي، أو غضب الطبيعة والحضارة، وتجتمع هذه السرديات في إعطاء دلالة لتفشي الأمراض والأوبئة والكوارث، ترتبط بغضب قوى ما على السلوك الإنساني الديني أو البيئي أو الأخلاقي والاجتماعي، فحوادث الشر التي تصيب الإنسان، هي عقوبة، والرسالة هي الاعتراف الإنساني بالخطأ والمعصية وإصلاحهما، والتوبة والرجوع والاعتبار وفهم الدرس، ولا يستثنى من هذه السرديات ما تنقله السياسات والإعلام والفكر في العصر من حديث عن "دروس الوباء" أو العبر المستخلصة لمن يعتبر.