مقدمة: إن التأويليات في أدل تعريفاتها فن لتقريب الفهم، وتجاوز سوء الفهم، أو بعبارة شلاير ماخر هي فن جعل الغريب مألوفا، وقد مرت التأويلية من مسارات ومحطات كبرى، سعت إلى تغيير الوجهة التأويلية عن طريق نقلها من حيز ضيق يؤول النصوص المقدسة، إلى مجال أوسع يؤول مختلف النصوص، فتأصلت معالمها بضوابط حددها المشتغلون في الحقل التأويلي، فمن حقل تاريخي إلى حقل أنطولوجي، فتكونت لدينا ثلاثية تأويلية تجمع بين الوجود والفهم والتأويل، وإن المحطة التي وصلنا إليها وسنحدد تجلياتها المعرفية، وإسهاماتها في تطوير المسار التأويلي هي محطة بول ريكور الذي أقام هيرمنيوطيقا علمية تقوم على تفسير النصوص وفهمها بانفتاحه على حقول معرفية جديدة، مع جعل منهج الهيرمنيوطيقا منهجا موضوعيا لا ذاتيا، وتطورت تأويليته في مراحل ثلاث: المرحلة الرمزية في فهم وفك معاني الرموز والتفكير فيها، والمرحلة البنيوية بالتركيز على العلاقات الجدلية بين مختلف التأويلات، والمرحلة التأويلية الأساس منها معرفة المعنى الموضوعي للنص، وجعل آفاق القارئ متناسبة مع أفق المؤلف. فما مفهوم التأويل عند بول ريكور؟ وما مراحله؟ وما مهمة الهيرمنيوطيقا؟ وما الفهم؟ وما تجليات الهيرمنيوطيقا والبنيوية؟ والهيرمنيوطيقا والتحليل النفسي؟ والهيرمنيوطيقا والظاهراتية؟ وتشكل هذه التساؤلات محاور والورقة ومطالبها، وقبل أن نبدأ في تقديم ما حددناه لا بد أن نورد خلاصة موجزة للمشروع التأويلي حتى نعرف دور بول ريكور وموقعه ضمن التيارات التأويلية، فنقول: إن البداية الحقيقية للتأويلية قد كانت مع شلاير ماخر الذي اشتغل على تأويلية تاريخية تراعي قاعدتين أساسيتين قاعدة روح النص والقاعدة اللغوية بعدها جاء ديلتاي الذي أضاف فهم التجربة التي يعايشها المؤلف انطلاقا من التسرب إلى نفسيته، وجعل تجربة الحياة رابطا بين المتلقي والنص، ومع غادامير الذي حدد بأن الفهم يحصل بإدراك قوانين التفاعل بين التجارب المتراكمة والحقيقة التي يفصح عنها النص، على اعتبار هذا الأخير لعبة في يد المتلقي، ومع ريكور في جعل التأويليات تنفتح على مسارات جديدة تتغيى الموضوعية في الفهم.1 حاولنا مقاربة تأويلية بول ريكور انطلاقا من كتابه “صراع التأويلات”2، وننقل نصا له يعتبر نصا جامعا لأهم ما تحدث عنه، بقوله: “فما نحن اليوم سوى هؤلاء البشر الذين يمتلكون منطقا رمزيا، وعلما تفسيريا، وأنتروبولوجيا، وتحليلا نفسيا، والذين هم للمرة الأولى ربما قادرون أن يتناولوا مسألة إجمال الخطاب الإنساني بوصفها مسألة وحيدة”3. وإذا نظرت في الكتاب فستجد أن أغلب القضايا التي أشار إليها هي المحددة في النص، فاهتم بتأويل الرمز لما تحدث عن البنيوية، وعن التفسير في الأساطير والنصوص الفنية، واللاوعي في التحليل النفسي، فيكون الإنسان متساوقا مع نسقية هذه الاهتمامات التأويلية. I. مفهوم التأويل وغايته عند بول ريكور: توسع مفهوم التأويل عند ريكور بتوسع تياره التأويلي، بعد الانفتاح على مختلف المناهج اللسانية من أجل إكساب الفهم موضوعية، فالتأويل عنده مرتبط بالفكر أو الوجود، أو الحياة الإنسانية، ويلعب دورا في كشف المعاني المخبوءة والثاوية في نص من النصوص، “إن التأويل هو عمل الفكر الذي يتكون من فك المعنى المختبئ في المعنى الظاهر، ويقوم على نشر مستويات المعنى المنضوية في المعنى الحرفي(…)وهكذا يصبح الرمز والتأويل متصورين متعالقين”4. فالتأويل آلية لكشف المعنى الخفي في المعنى الظاهر للنص، ودوره أن لا محدودية في كشف المعاني، وإن منطلق التأويل هو “التحديد المتعدد للرموز، ومن تحديدها تضافريا في التحليل النفسي”5، وكل تحديد للمعنى ينقلنا لثروة من الدلالات المتعددة، ويتم هذا عبر مستويات معينة، ترتبط بالمعنى الحرفي. بعد بيان المفهوم تأتي الغاية ونبينها انطلاقا من قول بول ريكور: “أيما تأويل إنما يقصد أن يتغلب على التباعد البعد الذي يفصل بين العصر الثقافي الذي تم، والذي ينتمي إليه، وبين المؤول نفسه، فإذا تجاوز المفسر هذا البعد، وأصبح النص معاصرا له، فإنه يستطيع أن يمتلك المعنى(…)وهكذا فإن كل هيرمينوطيقا هي فهم للذات، ضمنا وظاهرا، عن طريق المرور عبر فهم الآخر”6. لنخاطب النص ونقترب منه، فهما لغاية التأويل، منطلقين من الصيغة المستغرقة (كل) المتصدرة بمؤكد “إن” من أجل بيان أن بول ريكور لم يتجاوز الغاية التي سعى إليها شلايرماخر وديلتاي في فهم سيكولوجية المؤلف (روح النص)، وبتعبيره فهم الذات، كما ينص على أهمية الفهم في الحركة التأويلية التي تتجاوز سوء الفهم، مع إشارته إلى مسألة أخذها من غادامير وهي أثر المسافة الزمنية في فهم النص التراثي، إقرارا منه على أهمية كسر هذا التباعد بين المؤول والنص والذات المنتجة له، “فإن عمل (غاية) التأويل نفسه يكشف عن عزم عميق للتغلب على البعد، والتباعد الثقافي، كما يكشف عن عزم لجعل القارئ معادلا لنص أصبح غريبا، وكذلك لدمج معناه في الفهم الحاضر والذي يستطيع الإنسان أن يأخذه من نفسه بالذات”7 II. مراحل التأويل عند بول ريكور: مرحلتان رئيستان ذكرهما بول ريكور في كتابه “صراع التأويلات”، إذ تحدث عن المرحلة الوسيطة فاعتبرها مرحلة اهتمت بفهم الإشارات وفهم الذات، ونراه هنا يحدد ويؤطر مجال اشتغاله، فالإشارات إشارة إلى البنيوية والانتربولوجية البنيوية، وفهم الذات إشارة إلى الظاهراتية التي ركزت على الذات المتكلمة، يقول بول ريكور: “إن المرحلة الوسيطة باتجاه الوجود، هي التأمل، أي العلاقة بين فهم الإشارات وفهم الذات، لذا فإننا في هذه الذات نملك حظا للتعرف على الموجود”8. والمرحلة الثانية هي المرحلة الوجودية، بحيث أصبحت التأويليات موجودة بالضرورة، لما تأسست وأردت أن تتخذ لنفسها صبغة موضوعية في تأويل النصوص، جعلها ريكور تنفتح على فروع تتجلى فيها الصفة العلمية، يقول بول ريكور: “إن الهيرمينوطيقات الأكثر تعارضا تتجه كل واحدة على طريقتها، نحو الجذور الأنطولوجية للفهم، وإن كل واحدة لتقول أيضا على طريقتها تعلق ذاتها بالوجود، أما التحليل النفسي فيكشف عن هذا التعلق في حفريات الذات، وأما ظاهراتية الروح، فتكشف عنه في غائية الصور، في حين أن ظاهراتية الدين تكشف عنه في الإشارات المقدسة”9. المفهوم من منطوق النص أن الجامع بين الهيرمينوطيقات المتعددة هو أنطولوجية الفهم، إلا أن كل اتجاه يكشف عن الفهم انطلاقا من مساقاته المؤطرة له. III. مهمة الهيرمنيوطيقا عند بول ريكور: تولد لدينا من المسارات التأويلية أن مهمتها هي تجاوز سوء الفهم وعدم الفهم، ولكن ريكور يبين أن مهمتها هي بيان “أن شكل التأويل يتناسب مع البنية النظرية للنسق الهيرمينوطيقي (وأن) الهيرمينوطيقا تبدأ البحث؛ إذ توسع الأشكال الرمزية، كما تبدأ تحليلا في فهم البنى الرمزية، فتقيم مواجهة بين الأساليب الهيرمينوطيقية، كما تقيم نقدا لأنساق التأويل، محيلة تنويع المناهج الهيرمينوطيقية إلى بنية النظريات المناسبة، فإنها تبرز كل منهج في حدود دائرته الخاصة، وفي مستواها الدلالي”10. يمكن استخلاص مهمة الهيرمينوطيقا من النص فيما يلي: توسيع دلالات الرموز وأشكالها. تحليل الرموز وشرحها. نقد الأنساق التأويلية وتصنيف التأويلات. الانفتاح على مناهج تخدم منطق الفهم. تأسيس نظريات ضمن حدود تأويلية. IV. ماهية الفهم عند بول ريكور: يعتبر الفهم النواة المستقرة وسط الدائرة التأويلية، ومحط اهتمام المؤولين في تأويلهم للنصوص، فهو المفرد الذي يضاف إلى التوجهات التي الفلسفية في التأويل، ليتخذ صبغة مركبة من قبيل تقريب الفهم، أو سوء الفهم، أو عدم الفهم، أو دائرة الفهم، أو الفهم الأنطولوجي، أو الفهم اللغوي والسيكولوجي، وقد ربطه بول ريكور بالوجود، قائلا: “إن الفهم هو نتيجة من نتائج تحليل الوجود هنا، هو ذاته الذي يفهم به، ألا يجب أن نبحث في اللغة ذاتها عن العلامة الدالة بأن الفهم هو طريقة من طرق الكينونة”11. فالفهم عند ريكور متأت في: اللغة أداة لفهم الوجود. فهم حفريات الذات بالتحليل النفسي. فهم ظاهراتية الروح. فهم المقدس والعقائد. فهم الرموز والأساطير والفنون. فهم الفهم وتجاوز سوء الفهم. V. الهيرمينوطيقا والبنيوية: تناول بول ريكور في مؤلفه “صراع التأويلات” إشكالية ربط الهيرمينوطيقا بالبنيوية السوسيرية، والبنيوية الانتروبولوجيا مع كلود ليفي ستراوس، وغايته في هذا أنه يأمل تحقيق الموضوعية في الفهم ونتائجه، على اعتبار أن البنيوية علم وليست فلسفة، وعليه فنتساءل فنقول: ما الغاية من هذا الجمع؟ وما العلاقة الجامعة بين المجالين؟ وما مستويات البنيوية؟ وما مهماتها؟ إجابة عن سؤال الغاية يكون منطلقنا نص بول ريكور حيث يقول: “إن هذا التقدير الموضوعي، المنجز في متصوري التزامن والتعاقب، هو الذي أريد أن أمارسه، أملا في إخراج تأويل النصوص من ذكاء ساذج إلى ذكاء ناضج، وذلك من خلال مذهب الموضوعية”12. لنتحاور مع النص من حيث طبيعة الصيغ الموظفة حتى يتأتى لنا فهمه، ولننظر فيه جيدا، لنفهم أنه يعتز بنموذج اشتغال السانكروني والدياكروني، وعبارة هذا التقدير تدل على ذلك، يقول في ذلك: “وليس قصدي أن أعارض بين الهيرمينوطيقا والبنيوية…فالبنيوية تنتمي إلى العلم، وإني لا أرى حاليا مقاربة أكثر دقة وأكثر خصوبة من البنيوية”13. ويأمل في تطوير التأويليات وتجاوز نسقها القديم، وعبارة أملا تؤكد ذلك أيضا، يقول: “إذا كانت البنيوية تسعى إلى إقامة مسافة وتحقيق الموضوعية، وإلى عزل المعادلة الشخصية للباحث عن بنية المؤسسة…فإن الهيرمينوطيقي يسعى إلى الغوص فيما استطعنا أن نسميه (دائرة الهيرمينوطيقا) للفهم والاعتقاد”14، مع السعي إلى إخراج تأويل النصوص من ذكاء ساذج هو الذاتية ويقصد كسر النزعة السيكولوجية الموغلة في ذاتية الكاتب، إلى ذكاء ناضج هو الموضوعية، والخطاب بضمير المتكلم، وكل هذا يؤكد لنا سؤال الغاية، فهو لا يريد أن يكون حبيس تصور شلايرماخر وإن كان مصيبا في تصوره، بل يتجاوزه إلى شيء آخر هو التميز وتطوير الهيرمينوطيقا. فاستخرج من النسق البنيوي ثلاث قواعد هي: النسق: الإشارات. التعاقبية والتزامنية. التأويل وزمن التأويل. وأما بخصوص العلاقة الجامعة بين الهيرمينوطيقا والبنيوية فنؤكدها من قول بول ريكور: “إن الذكاء البنيوي لن يكون أبدا خلوا من أي قدر من الذكاء الهيرمينوطيقي، وحتى لو لم يكن هذا الذكاء موضوعيا”15، ويقول أيضا: “نحن نقول لا يوجد تحليل بنيوي من غير عقل تأويلي لتحويل المعنى”16. النصان حاولا معا الإجابة عن تساؤل العلاقة، فتبين أن الموضوعية البنيوية توظف شيئا من الفكر التأويلي، وأنه لا يمكن حصول التحليل البنيوي في ظل غياب العقل التأويلي المؤدي إلى الفهم، “وإنه لا يستطيع أن ينفصل التفسير البنيوي عن كل فهم هيرمينوطيقي، خاصة وأن الوظيفة الأسطورية تستنفد نفسها في إنشاء العلاقات المتماثلة بين التضاد الدال، والقائم في عدد من مستويات الطبيعة”17 ومهمات التفسير البنيوي عند بول ريكور فيما يلي: نسق غير واع. لا يشكله الاختلاف والتعرض. مستقل عمن يرصده. وهذا مرتبط بتاريخانية: الأحداث المؤسسة. التأويل الحي للكتاب المقدس. الفهم. ونصل إلى ذكر مستويات التأويل وتعددية المعنى في هذه النقطة فيما يأتي: 1. المستوى الهيرمينوطيقي: وهي ما يسمى بالمعنى المضاعف، وقاربه انطلاقا من النصوص والرموز والأساطير، “وإن للنص معنى متعددا، وإن قضية المعنى المتعدد لا تطرح بالنسبة إليه إلا إذا جعلنا مثل هذا المجموع موضع عنايتنا”18. 2. مستوى الدلالة المعجمية: عن طريق تحديد المعنى في الإطار المعجمي للنص، “ويمكن لقضية المعنى أن تحدد فعلا في إطار الدلالة المعجمية بوصفها قضية تتعلق بتعددية المعنى”19. 3. مستوى الدلالة البنيوية: تحدد المعنى من البنية المغلقة للنص، أخذا بفكرة أن النسق لا يعرف سوى الاختلافات، ويتم هذا المستوى في مسائل محددة هي: مسلمة انغلاق العالم اللساني: تقوم على بنيات لسانية واصفة. المستوى الاستراتيجي للتحليل، بجعل الكلمات مرجعا، وإشراكها في البنى التحتية المبنية على التحليل. الوحدات التي نعرفها بوصفها وحدات معجمية في اللسانيات، تستعمل بوصفها منتجة للخطاب VI. الهيرمينوطيقا والتحليل النفسي: إن انفتاح بول ريكور على التحليل النفسي لفرويد لم يكن عبثيا، إنما كان لغرض خدمة النموذج التأويلي من أجل تحقيق الموضوعية في الفهم، وانصب اهتمامه على منطقة الوعي واللاوعي، فأراد أن يشتغل على ما توصل إليه فرويد في تأويل الأحلام، ليطبقه على كثير من الأشياء الوجودية، ويمكن تحديد مستويات التأويل عنده فيما يأتي: تأويل الأحلام: تأويل الحلم والعرض العصابي: الأنا والهو والأنا الأعلى. تأويل الثقافة: الاشتغال على الأعمال الفنية والأساطير والرموز. تأويل غرائز الموت الجنسية. يقول بول ريكور في حديثه عن اللاوعي: “مرحلة الانعتاق من وعي لصالح وعي آخر في البحث عن معنى، لتعد مرحلة أساسية بغية تكوين المنطقة النفسية، التي نسميها اللاوعي، وعندما نحيل دفعة واحدة، وجوهرا لا عرضا، اللاوعي المنهج التأويلي أولا، وإلى وعي تأويلي آخر ثانيا، فإننا نحدد بهذا صحة التأكيد وحدود صحة كل تأكيد ينصب على واقعية اللاوعي”20. الذي يهمنا هو جعل اللاوعي منهجا تأويليا، يسهم بشكل أو بآخر في مقاربة المسائل التي يشتغل عليها بول ريكور، “وإن اللاوعي يمثل موضوعا، وإنه ليكون بهذا المعنى مكونا من مجموع الإجراءات التأويلية التي تقرأه، ويعتبر منهجا بالنسبة إلى التأويل”21. ونتساءل عن سر اهتمام ريكور باللاوعي؟ نجيب عنه من خلال مسألة الأهمية، أو المهمة، يقول بول ريكور: “يفسر اللاوعي في الإنسان الجزء المنحط والتحتي المظلم، وإنه ليمثل شغف الليل، وأما الوعي فيعبر عن الجزء الفوقي والعالي والنهاري، وإنه ليمثل قانون النهار، وسيكون الهلاك حيئنذ أن يسكن المرء إلى انتخابية مريحة حيث الوعي واللاوعي متكاملين على نحو غامض”22. مهمة اللاوعي كشف الجانب الغامض في الإنسان وتأويله، وبيان الجانب الخفي منه، من حيث سلوكه وأفعاله. دور التحليل النفسي: يضطلع التحليل النفسي في التأويل على مهام كثيرة، ونذكرها بشواهد نصية من كتاب صراع التأويلات، أو بالأحرى نستخرجها من كل نص، فالتحليل النفسي يقوم على فهم نفسه بنفسه، وشاهد ذلك قول ريكور: “التحليل النفسي يكشف بنفسه عن طريق ترسيماته التأويلية الخاصة عن هذا التأخير وعن هذا التعليق لوعي الحدث الذي تمثله بالنسبة إلى الثقافة، إن الوعي كما يقول التحليل النفسي يقاوم فهم نفسه”23. ويقوم التحليل النفسي أيضا على معرفة الوعي المشترك أو الحس المشترك، لغاية التعمق في الجوانب الذاتية الداخلية للإنسان، شاهد ذلك قوله: “دع نفسك إذن تستعلم حول هذه النقطة…ادخل ذاتك عميقا وتعلم أولا أن تعرف نفسك، هكذا يفهم التحليل النفسي اندماجه الخاص في الوعي المشترك”24. وينهض التحليل النفسي بمهمة النفاذ إلى الجمهور بوصفه ظاهرة كلية، لوصفه الجانب المستور فيه، وشاهدنا قول ريكور: “لقد نفذ التحليل النفسي إلى الجمهور بوصفه ظاهرة كلية لكشف المستور، وبهذا أصبح جزءا مخبوءا أو صامتا من الإنسان عموما، ولذا فنحن نتكلم عن الجنس ونحن نتلكم عن الشذوذ في وعي الكبت، وعن الأنا العليا، وعن الرقابة، وإن التحليل النفسي يعد حدثا “للنحن”، وموضوعا “للثرثرة”25. وأخيرا يتمكن التحليل النفسي من تأويل الثقافة ونتائج علم الأعراق والاقتصاد، دليلنا من الكتاب هو: “عن طريق التحليل النفسي تمكن من تأويل نتائج علم الأعراق الذي كان سائدا آنذاك، والمتعلق بالأصول الطوطمية للدين، وبأصول أخلاقنا الآمرة في المحظورات القديمة ويتمثل مفتاح إعادة القراءة بشكل نسقي أكثر مما هو تاريخي لعمل فرويد في تطويع كل التأويلات الوراثية والجزئية للتأويل (النموذج الاقتصادي)، الذي يعطي وحدة المنظور”26. التحليل النفسي وتعميم التأويل: أخذ التحليل النفس لما تناسب مع الهيرمينوطيقا صفة الأنطولوجية، فأصبح شاملا يوظف في مختلف الأجناس والقضايا، فلم يعد مركونا في الذات الإنسانية فقط، بل اتسع إلى آفاق جديدة، منها أن “التحليل النفسي هو تأويل للثقافة في مجموعها، وليس تفسيرا شاملا…وإن التحليل النفسي هو تأويل كلي من الأجناس، وهو بهذا المعنى يعد هو ذاته حدثا في ثقافتنا”27. وما يضبط لنا صحة تعميم التحليل النفسي وجعله منهجا تأويليا معمما هو قول بول ريكور: “يهدم التحليل النفسي في الحقيقة الحواجز التقليدية(…)، التي تجعل من التأويل ذي التحليل النفسي تأويلا كليا ومحدودا، كليا لأنه ينطبق حتما على كل الإنسانية، ومحدوداً، لأنه يمتد إلى أبعد من نماذجه…من خلال التساوق بين الكائن النفسي (الفردي) والكائن الجماعي”28. تشاركا مع النص نقول: إنه لما تضايق التحليل النفسي ممركزا في حيز اللاوعي، نقل إلى بيئة واسعة تسكن الوجود وتؤطره لغرض الفهم وتجاوز سوء الفهم، وهي الهيرمينوطيقا، وعليها أصبح التحليل النفسي انطولوجيا، يجاور ويتماس مع التأويليات من أجل الموضوعية في الفهم، ولكأن الأمر أمر تبادلي، فالهيرمنيوطيقا منحت للتحليل النفسي صفة الحياة والوجود، والتحليل النفسي قدم موضوعيته العلمية، حيث إن “الفهم لا يعبر عن العقل إلا بما يكون به صانعا للموضوعية”29. VII. الهيرمينوطيقا والظاهراتية: فتح بول ريكور الهيرمينوطيقا على مشروع الظاهراتية التي تهتم بالنص الواقعي ومعناه الظاهر، والثاوي فيه استجابة لغرض المتلقي، فهي كما قال محمد مفتاح: “تهتم بما قبل تشكل النص والنص، ومستوى تشكله وتنظيمه، وإعادة تشكيله من قبل المتلقي”30، وكان اهتمام بول ريكور على الظاهراتية مركزا على إنتاج المعنى ودور الذات المتكلمة في التأويل، والتركيز على العلامة، وخاصة عند نابير، يقول ريكور تقديما للظاهراتية: “يمكن أن نقدم الظاهراتية بوصفها نظرية للغة معممة، فاللغة تتوقف على أن تكون نشاطا، ووظيفة وعملية بين عمليات أخرى، إنها تتطابق مع الوسط الدال الكلي، ومع شبكة العلامات المرمية كشبكة فوق حقل إدراكنا، وعملنا وحياتنا”31. هكذا تصبح الظاهراتية فاعلة في استخراج وبيان أثر هذه العلامات اللغوية في تطوير المعاني النصية، وتوليد دلالات جديدة، مع بيان دور الذات المتكلمة في ذلك، وتجلي مجموعة من تجليات النص؛ لأن “الظاهرة هي التجلي في تعبير مدرك لعملية داخلية لا تستطيع أن تتأكد مما هي عليه، إلا ببذل الجهد موجها نحو هذا التعبير، فإن الظاهرة تعد لازمة هذا اليقين بالذات في اختلاف الذات مع نفسها”32. وصولا إلى الموضوعية في الفهم بهذا الانفتاح التأويلي على معارف مختلفة، ويقول بول ريكور: “إنه لحقيقي إذن أنه في كل الميادين التي يتبين فيها العقل بوصفه مبدعا، فإن الفكر يكون مدعوا للعثور على الأفعال التي تخبئها الأعمال وتغطيها منذ أن تعيش حياتها الخاصة، وكأنها منفصلة عن العمليات التي أنتجتها، إن المقصود بالنسبة إليها هو بيان العلاقة الحميمية للفعل والمدلولات التي يصبح فيها موضوعيا”33. إن غاية الظاهراتية هي أن تبين الانسجام والاتساق الحاصل بين الأفعال التي يتم بيانها من الأعمال الأدبية التي تتكون من مشيرات وضمائر وزمان ومكان، ومؤشرات، وذات متكلمة وفعل خطاب، وتعالقها مع المدلولات المستخرجة. أطروحات الظاهراتية: حدد بول ريكور من خلال دراسته للظاهراتية في ترابطها مع الهيرمينوطيقا ثلاث خلاصات تقوم عليها:34 أن المعنى هو المقولة الأكثر شمولا للوصف الظاهراتي: فهي من ثمة تركز على الذات المتكلمة، فسميت بنظرية الذات. إن الذات هي الحاملة للمعنى: ينكشف المعنى في الضمائر وأسماء الإشارة والمؤشرات والمقامات… الاختزال هو الفعل الفلسفي الذي يجعل ممكنا ولادة كائن من أجل المعنى: وهو من يصنع ظهورنا في العالم. وعليه فأطروحات الظاهراتية ثلاثة: نظرية المعنى. نظرية الذات. نظرية الاختزال. وهذه النظريات إنما هي لغرض الموضوعية في الفهم، إذ غاية “الظاهراتي أن يضع الآنية إلى جانب الذات المتكلمة، والتعاقبية إلى الجانب الموضوعي للعلم، فإنه يشرع في دمج وجهة النظر الموضوعية في وجهة النظر الذاتية”35. بناء على ما مضى فإن غاية بول ريكور كانت غاية مشروعة الطريق، في جعل الهيرمينوطيقا الفلسفية تنفتح على مجالات متعددة، حتى تتكامل معالمها وأنساقها التأويلية، ولتكون شرعية أرداها أن تلبس لباس العلمية والموضوعية، بعد أن كانت مساراتها الأولى ذاتية، تركز على الجانب السيكولوجي، متعسفة على ذاتية صاحب النص، ودون مراعاتها لمقتضيات مهمة، وجد بول ريكور صداها في حقل البنيوية والتحليل النفسي، والظاهراتية، وكانت اللبنة الأولى التي انطلق منها بيتر سوندي ليؤسس تأويلية أدبية. * أستاذ مادة اللغة العربية في السلك الثانوي- طالب باحث في صف الدكتوراه بالمدرسة العليا للأساتذة، جامعة محمد الخامس