قالت الناشطة الحقوقية والمؤرخة الأمريكية روكسان دنبر أورتيز إن العنصرية في بلادها "نظامية" و"بنيوية"، ولم تتردد في وصف أقوى دولة في العالم بالدولة "البوليسية"، قائلة: "نحن نعيش بالفعل في دولة بوليسية". وعبرت روكسان أورتيز، في حوار مع هسبريس، عن تأثرها وإعجابها بالاحتجاجات التي تشهدها الولاياتالمتحدة منذ حوالي 3 أسابيع على خلفية مقتل المواطن الأمريكي من أصول أفريقية جورج فلويد خنقا تحت أقدام رجال الشرطة، معتبرة أن كثافة الاحتجاجات تعود إلى الجهود التي بذلت من أجل التنوير بشأن القضايا المرتبطة بالعرق والعنصرية والاستعمار. وقالت المؤرخة الأمريكية أورتيز، التي عايشت احتجاجات حركة الحقوق المدنية خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، إن الجديد في هذه الاحتجاجات هو دخول العنصر الأبيض على الخط، فيما اعتبرت أن "ممارسات الشرطة ليست حديثة وإنما تعود إلى عهد العبودية". وفيما شددت على أن غالبية الأمريكيين يعيشون أوضاعا اقتصادية واجتماعية سيئة، عبرت أورتيز عن يقينها بأن ما تشهده الولاياتالمتحدة "ثورة تتقوى وتتسع يوما بعد آخر"، لكنها في المقابل تحتفظ بشيء من الحذر في التنبؤ بمآل هذه "الثورة". وهذا نص الحوار ما رأيك في الاحتجاجات المستمرة في الولاياتالمتحدة بعد وفاة جورج فلويد؟ كناشطة قادمة من الجيل الذي عايش حركة الحقوق المدنية خلال ستينيات وسبعينات القرن الماضي، أنا جد متأثرة ومعجبة بالاحتجاجات الحالية، لأننا حينها كنا نتظاهر ضد الحرب في فيتنام وكذا ضد القضايا العرقية في الولاياتالمتحدة، ولكن أعتقد المظاهرات الحالية تجمع أعدادا أكبر من المظاهرات التي عايشتها في السابق. ما هي الأسباب التي تجعل المحتجين يخرجون بهذه الأعداد الكبيرة؟ أعتقد أن ذلك يعود إلى الجهود التي بذلت من أجل التنوير بشأن القضايا المرتبطة بالعرق والعنصرية والاستعمار، خصوصا من قبل الباحثين الشباب، وهذه الجهود وجدت طريقها نحو فئات من المجتمع الأمريكي أصبحت أكثر وعيا بهذه القضايا حتى في القرى الصغيرة. أنحدر من ولاية أوكلاهوما، ورغم أنها ولاية جمهورية بامتياز، وكانت منطقة احتلال لأراضي الأمريكيين الأصليين (Native Americans)، إلا أن عددا كبيرا من القرى الصغيرة هناك خرجت للاحتجاج ضد الشرطة، وهذا ما يثير دهشتي. بما أنك عايشت الاحتجاجات التي عرفتها الولاياتالمتحدة خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، ما هي أوجه الاختلاف والتشابه بين الحركة الاحتجاجات الحالية وحركة الحقوق المدنية حينها؟ الجديد في هذه الاحتجاجات هو دخول العنصر الأبيض على الخط؛ فعدد من الأمريكيين البيض لم يسبق لهم أن شاركوا في احتجاجات سابقة، وحتى إن شاركوا فذلك يكون مرتبطا فقط بخسارة مباراة رياضية أو شيء من هذا القبيل، بعيدا عن القضايا السياسية. ومن خلال تجربتي، فبمجرد الدخول في هذه الأشكال الاحتجاجية يصعب بعدها العودة إلى الوراء، ومنذ السبعينات لم نشهد احتجاجات بهذا الشكل الكبير والمتواصل في الولاياتالمتحدة. حركة "حياة السود مهمة" الحالية بدأت سنة 2011، وبالعمل المتواصل الذي قام به ناشطون حقوقيون عدة تقومت هذه الحركة مع الاحتجاجات التي اندلعت في فيرغسون بولاية ميسوري سنة 2014، لكن هذه الاحتجاجات ظلت حبيسة مناطق جغرافية معينة. وإلى جانب ذلك، أصبح الناس أكثر وعيا بهذه القضايا بالمقارنة مع الماضي، كما أن السنوات الثماني التي شغل فيها باراك أوباما منصب الرئيس، كأول رئيس أسود في تاريخ البلاد، ساهمت في المقابل في بروز حركات العنصريين البيض الذين يطمحون إلى استعادة السلطة. لكن كيف ساهمت فترة أوباما في بروز هذه الحركات بشكل أكبر من السابق؟ خلال تلك الفترة كان تنظيمهم على أعلى مستوى، فهم يرتبطون بالجمهوريين الذين كانوا يسيطرون على الكونغرس، سواء مجلس الشيوخ أو النواب، ورفضوا كل سياسات أوباما، وكانت هناك مقاطعة رسمية للرئاسة. وعلى الرغم من أن ترامب الذي يعد أحد مشاهير ونجوم التلفزيون كان ليبراليا وصديقا لعائلة كلينتون ولم تكن له التزامات سياسية، لكنه برز في الإعلام مشككا في ولادة أوباما في الولاياتالمتحدة، وكان يطالبه بشكل دائم بنشر شهادة ميلاده، وهذا حظي باهتمام كثير من الأمريكيين في مختلف أرجاء البلاد. أثار ذلك اهتمام فئة من العنصريين في الولاياتالمتحدة الذين صدقوا ترامب، واعتبروا أنه الرئيس المناسب، وقاموا بتنظيم حركة شعبية، وهذا ما استفاد منه "حزب حركة الشاي" (Tea Party Movement)، الذي كان ينظم مظاهرات في مختلف أرجاء البلاد ضد أوباما، وذلك عبر التنظيم المحكم، وتقليد الحركات اليسارية في احتجاجاتها رغم اختلاف رسالتها وأهدافها. هل تعتقدين أن الشرطة تتعامل مع الاحتجاجات المناهضة للعنصرية بالشكل نفسه الذي تتعامل به مع احتجاجات مثل هذه الحركات اليمينية أم إن هناك ازدواجية في المعايير؟ على الإطلاق، الشرطة لم تقم أبدا بإزعاج احتجاجات "حركة الشاي" التي يخرج فيها المحتجون بأسلحتهم، ولا يتم التحقق من كون هذه الأسلحة مسجلة قانونيا، كما أنهم يتظاهرون بأسلوب عسكري. ورأينا ذلك أيضا في الاحتجاجات التي كانت ضد الأوامر التنفيذية الصادرة بسبب أزمة كورونا، واحتجوا في عواصم عدد من الولايات، بما في ذلك الولايات الليبرالية ككاليفورنيا، على عكس الاحتجاجات الحالية ضد العنصرية التي هي احتجاجات سلمية وغير مسلحة. ما هي أسباب هذا "التعامل المزدوج" بين هاتين الحركتين؟ ثقافة الشرطة مرتبطة بإرث "دوريات العبيد" (Slave Patrol)، وهم مجموعات منظمة من الرجال البيض الذين كانوا يفرضون الانضباط على السود، وهذا جد متجذر في تاريخ الولاياتالمتحدة، ولم تختف هذه الثقافة، بل هي مستمرة بأشكال أخرى. كما أن حركة "كو كلوكس كلان" العنصرية كانت تتحكم في مجلس الشيوخ لعقود طويلة، وتتحكم في صناعة القرار، بالإضافة إلى أن أغلب عناصر الشرطة كانوا من البيض، وجزء كبير منهم أيرلنديين. وأسباب ارتباط الأيرلنديين بالشرطة هي أنهم هاجروا إلى هنا بسبب ما كانوا يعانونه من الإنجليز الذين كانوا يستعمرونهم، ويفرضون عليهم زراعة البطاطس فقط، كما أن أكثر من مليون إيرلندي فقد حياته بسبب المجاعة، وهذا ما جعلهم يركبون القوارب نحو الولاياتالمتحدة، وكان تعداد الذين وصلوا يقدر بمليوني شخص. لكن بعد وصولهم تعرضوا مرة أخرى للتمييز، وكانت الشرطة هي أكثر المهن المفتوحة أمامهم، فدوريات العبيد لم تكن تستهوي باقي الفئات في الولاياتالمتحدة، وسنة بعد أخرى، أصبح الأيرلنديون يتوارثون العمل في الشرطة، ويواجهون الحركات المناهضة للتمييز ضد السود. وعلى الرغم من تواجد عناصر في أجهزة الشرطة من السود أو اللاتينيين أو العرب أو غيرهم، إلا أن هذه الثقافة ما تزال مسيطرة على هذه الأجهزة، وعليهم التعامل بالشكل نفسه الذي دأبت الشرطة على تبنيه لسنوات طويلة. هذه النقطة تدفعني للتساؤل حول ما إذا كنت تعتقدين أن العنصرية في أجهزة الشرطة هي "عنصرية نظامية" أم إنها مرتبطة فقط ببعض الحالات في ولايات ومدن أمريكية؟ بلا ريب، فهذه العنصرية هي عنصرية نظامية وبنيوية في أجهزة الشرطة، وفي أحيان كثيرة يطلق أفراد الشرطة من البيض النار على رجل يكون في الغالب من السود، وحينما يتم سؤالهم عن ذلك، لا يقدمون مبررات منطقية لما قاموا به، كما حدث مع شاب أمريكي من أصول أفريقية في مدينة ساكرامنتو بولاية كاليفورنيا، فقد حياته على يد شرطي، هذا الأخير قال إنه كان يعتقد أن الشاب يحمل سلاحا في حين إنه كان يتحدث في الهاتف بالحديقة الخلفية لبيته. وهذا ما كان يحدث مع السود الذين كانوا يعانون من العبودية، وكانت عناصر دوريات العبيد تقوم بالاعتداء عليهم، وتفريقهم خشية أن يتجمعوا ويثوروا ضد الوضع الذي كانوا يعيشونه. في هذا السياق، على الرغم من فوز أوباما بولايتين رئاسيتين، وتسيير عدد كبير من الولايات والمدن من قبل سياسيين ليبراليين، لماذا في رأيك تستمر أجهزة الشرطة في نهج الممارسات نفسها؟ هذه مسألة مثيرة، فهنا في مدينة سان فرانسيسكو حيث أعيش، وهي واحدة من أكثر المدن الليبرالية في الولاياتالمتحدة، وعدد كبير ممن يسيرون المدينة ليبراليون وماركسيون، كما أنهم متنوعون من بيض وسود ولاتينيين وشرق أوسطيين وغيرهم، كما أن الشرطة متنوعة هي الأخرى، لكنها تقوم بالممارسات ذاتها. وهذا يعني أن العنصرية بنيوية، ونحن نعيش بالفعل في دولة بوليسية، وجزء كبير من الميزانيات المحلية والفدرالية يذهب فقط إلى الشرطة. ما الذي يدفعك إلى وصف الولاياتالمتحدة ب"الدولة البوليسية"؟ نصف الميزانية في أي مدينة بالولاياتالمتحدة يذهب إلى الشرطة، ف 50 في المائة من النفقات في مدينة سان فرانسيسكو تخصص للأمن؛ إذ تتم الاستجابة لجميع الطلبات المالية للشرطة، وبالتالي هناك تواطؤ للحكومة، خصوصا حينما يتعلق الأمر بعلاقتها بنقابة الشرطة التي تتمتع بسلطات واسعة، أغلب من يسيرون مثل هذه النقابات من البيض، في حين إن عناصر الشرطة يستمعون لقادتهم في النقابات أكثر من تنفيذهم لأوامر رؤسائهم في العمل. مسألة التمويل تجرنا إلى واحد من أبرز الشعارات المرفوعة في الاحتجاجات الحالية، شعار يطالب بتقليص الميزانيات المخصصة لأجهزة الشرطة، هل تعتقدين أن على المتظاهرين المواصلة في هذا الاتجاه؟ أدعم بشكل مطلق هذا المطلب، الميزانية المخصصة للأجهزة الشرطة يجب ألا تتجاوز 10 في المائة من الميزانية العامة، وعلى الحكومات المحلية أن تقوم بتحويل الأموال التي كانت تخصص لهذه الأجهزة لدعم العاملين في القطاع الصحي، والعمل الاجتماعي. فمثلا، حينما يقع مشكل في أحد البيوت بسبب حمل أحد المختلين عقليا للسلاح، يتم الاتصال بالشرطة التي تأتي وتقوم بإطلاق النار على الشاب المختل، في حين إذا حضر أحد المتخصصين في الطب، يمكن أن يتم حل هذا المشكل بدون عنف، ويتم الاهتمام بالشخص المريض به في المستشفى بدلا من إطلاق النار عليه. ولهذا يجب على الاحتجاجات أن تستمر حتى تتم الاستجابة لهذا المطلب. بالحديث عن استمرارية الاحتجاجات، وبما أنك كنت شاهدة على ما حدث خلال ستينيات القرن الماضي، هل تعتقدين أن المظاهرات الحالية ستتوقف قريبا أم إننا نعيش هنا موجة ثانية لحركة الحقوق المدنية؟ أعتقد أنه ربط جيد بين السياقين، عاشت حركة الحقوق المدنية ما بين سنتي 1953 و1975 أقوى أيامها، بعد ذلك تم سجن عدد كبير من النشطاء السود بتهم مرتبطة بالمخدرات، تحت حجة سياسة الحرب ضد المخدرات، وأعتقد أن كل ذلك كان مخططا له من أجل قمع تلك الثورة. لكن الوضع الآن مختلف؛ ففي ذلك الوقت، خلال الخمسينات والستينات، عاشت الولاياتالمتحدة ازدهارا اقتصاديا، لكننا نعيش ركودا اقتصاديا مرعبا، والرأسمالية لم تعد قابلة للتطبيق، في حين إن المليارديرات يراكمون ثرواتهم. الوضع في غاية السوء خلال هذه المرحلة بالنسبة إلى غالبية المواطنين، خصوصا من الأقليات غير البيض التي ليس لديها ما تخسره، ولهذا فإن الاحتجاجات ستستمر. كنت أتردد كثيرا قبل قول ذلك، لكني الآن على يقين أننا أمام ثورة تتقوى وتتسع يوما بعد آخر، خصوصا في أوساط البيض، وهذا شيء لم يكن متوقعا، كما أنه من الصعب التنبؤ بما سيحصل في الأيام المقبلة.