الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المحاكمة عن بعد وضمانات المحاكمة العادلة
نشر في هسبريس يوم 09 - 06 - 2020

صدر عن السيد وزير العدل بتاريخ 23 ابريل 2020 قرار يقضي باعتماد تقنية المحاكمة عن بعد في القضايا الجنحية بالنسبة للمعتقلين دون إحضارهم من السجن وذلك في إطار التدابير الاحترازية المتخذة لمواجهة جائحة كوفيد 19.
وباستقراء ردود فعل المهتمين والمعنيين بالقرار، وفي مقدمتهم المحامين، نجد أن كل هذه الردود يتجاذبها موقفان: الأول يثمن القرار بمبرر إكراهات مواجهة تفشي الوباء، والثاني يعارضه بمبرر مس الإجراء المذكور بحقوق الدفاع وإخلاله بمقومات المحاكمة العادلة.
ولا ترمي هذه الورقة إلى الاصطفاف إلى جانب هذا الموقف أو ذاك، بقدر ما تتوخى بسط معالجة قانونية موضوعية لموضوع مسطرة المحاكمة عن بعد في الميدان الجنائي بما لها وما عليها من الناحية القانونية، وذلك على ضوء قواعد الإجراءات الجنائية والمبادئ التي تحكم تدبير الخصومة الجنائية، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بحقوق الدفاع وبشروط المحاكمة العادلة، وتلك المرتبطة بواجب التوفيق بينها وبين متطلبات الحفاظ على النظام العام.
تعتبر مسطرة المحاكمة عن بعد في الميدان الجنائي مسطرة خاصة حديثة العهد على مستوى القانون المقارن، تقوم على اعتماد تقنية وسائل الاتصال السمعية البصرية في الاستماع إلى طرف أو أطراف أو شاهد أو خبير، ومناقشة القضية معهم دون حضورهم أو إحضارهم إلى المحكمة، وذلك متى دعت الضرورة الى ذلك وفي اطار إجراءات وشروط يحددها القانون.
ولا شك أن للمحاكمة عن بعد باستعمال وسائل الاتصال السمعية والبصرية عدة إيجابيات تتمثل بالخصوص في ربح الوقت، وادخار الجهد، بما يضمن البت في القضايا داخل آجال معقولة، وكذا المساهمة في الحفاظ على المال العام وترشيد استعماله لما تحققه التقنية المذكورة من اقتصاد في نفقات الدولة عن طريق تجنيبها المصاريف والتكاليف الثقيلة التي يقتضيها نقل المعتقلين، متهمين كانوا أو مصرحين أو شهود، وتوفير شروط حراستهم وحمايتهم. هذا فضلا عما تشكله التقنية من تحديث لمرفق القضاء يواكب التطور التكنولوجي ويمكن من مواجهة الظروف الاستثنائية التي يمكن أن تجعل من الاستماع للأطراف ونقل المعتقلين أمرا صعبا أو محفوفا بالمخاطر كما هو الحال بالنسبة للظرفية الراهنة المرتبطة بوباء كوفيد 19.
إلا أنه بالمقابل يجب الإقرار بأن لكل هذه الإيجابيات ثمنا باهضا، يتمثل فيما يترتب عن تطبيق مسطرة المحاكمة عن بعد من خروق كثيرة وخطيرة لمبدأ مشروعية الإجراءات الجنائية، أحد أهم مبادئ وأركان المحاكمة العادلة، إن لم نقل أهمها، بما يعنيه من ضرورة صيانة واحترام المقتضيات والقواعد التي تحكم مسطرة المحاكمة الجنائية إن على مستوى الشكل أو على مستوى الجوهر، وهو المبدأ الذي يجد سنده في الدستور الذي ينص الفصل 23 منه على أنه: "لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون"، وينص الفصل 117 منه على واجب تطبيق القانون وتحقيق الأمن القضائي الملقى على عاتق القضاء، ويقضي الفصل 120 على حق أي متقاض في محاكمة عادلة تضمن فيها حقوق الدفاع. كما يجد مبدأ الشرعية الجنائية سنده في قانون المسطرة الجنائية الذي جاءت جل مقتضيات الإجراءات الجوهرية للمسطرة فيه في شكل قواعد آمرة يترتب البطلان عن خرقها دونما حاجة إلى نص بذلك، كما نصت المادة 212 منه على ترتيب البطلان على أي خرق للإجراءات المرتبطة بحقوق الدفاع، قبل أن تختم المادة 751 باعتبار أن أي إجراء لم ينجز على الوجه القانوني يعتبر هو والعدم سواء. هذا بالإضافة إلى ما تضمنته الشرعة الدولية لحقوق الإنسان من مقتضيات مرتبطة بالموضوع ترمي إلى فرض صيانة وتكريس مبدأ المشروعية الإجرائية الجنائية وفي مقدمتها الفصل 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وهما النصان الذين اعتمدهما واضعوا قانون المسطرة الجنائية بذكرهما صراحة في ديباجته.
وتتمثل مختلف أوجه خرق مسطرة المحاكمة الجنائية عن بعد لمبدأ المشروعية الجنائية فيما يلي:
1 - خرق مبدأ الحضورية والتواجهية الشفهية:
وهو المبدأ الذي كرسه قانون المسطرة الجنائية في ديباجته التي جاء فيها بأن أول مبدأ من المبادئ التي تم الحرص على إقرارها في هذا القانون، هو أن تكون المسطرة الجنائية منصفة وحضورية وحافظة لتوازن حقوق الأطراف. كما كرست نفس المبدأ عدة نصوص أخرى متفرقة بنفس القانون أهمها المواد 311، 312، 313 و 314 وما بعدها والمادة 287 والمادتان 385 و 386 ...، ويترتب عن هذا المبدأ حق الطرف في الخصومة الجنائية والمتهم على وجه الخصوص في حضوره شخصيا لجلسة محاكمته والمشاركة المباشرة والفعلية في مناقشة قضيته بمعية دفاعه. بما في ذلك بسط روايته للوقائع، وبسط أوجه دفاعه، والاستماع مباشرة لوسائل دفاع الخصوم والتعقيب عليها، بطلب التدخل في المناقشات متى بدت له جدوى من ذلك، والاطلاع على ما يدلى به من وثائق من طرف باقي الأطراف وإبداء نظره فيها بمعية دفاعه، ومواجهة المحكمة والخصوم بما بحوزته من وثائق أو أشياء تخدم مصلحته، مع تقديم التوضيحات الضرورية بشأنها والتعقيب على ما يثار من ملاحظات بشأنها، وكذا حق الاطلاع على المحجوزات إن وجدت ومناقشتها، والرد على ملاحظات الأطراف الأخرى بشأنها، وكذا الاستماع إلى تقارير الخبراء وشهادات الشهود، بالإضافة إلى حقه في الاطلاع على محضر الجلسة وإبداء ملاحظات أو استدراكات أو تصحيحات بشأن مضامينه.
كما تعنى الحضورية والتواجهية والشفهية كذلك واجب معاينة المحكمة للمتهم وباقي الأطراف، وردود فعلهم، وطريقة تفاعلهم مع معطيات الملف ومجريات الجلسة، من خلال معاينة سحناتهم وما يرتسم على وجوههم وأجسادهم من تعابير وعلامات، وهي كلها أمور تساهم في تكوين هيئة الحكم لقناعة صميمة على وجه أصوب وأسلم، كل ذلك لكون العدالة ليست مرفقا كباقي المرافق يمكن أن تتحقق نجاعة نشاطه بمجرد تواصل بين الفاعلين فيه بأي وجه من أوجه التواصل ولو عن بعد، كما أن مسطرة المحاكمة ليست مجرد تنظيم تقني لجلسة يتم فيها تجميع تصريحات ومعطيات لإصدار حكم، بل هي أبعد وأعمق من ذلك، فهي تواصل وتفاعل حضوري يمتزج فيه القانون والمنطق بالمشاعر والأحاسيس ويتم بين مختلف الأطراف في مجلس واحد توفر فيه لهم جميعا كل شروط المواجهة والتناظر، وتوفر فيه فرص الحضور والمشاركة والدفاع بشكل متكافئ، وتؤسس فيه قناعة هيئة الحكم بناء على ما أحست به واقتنعت به وجدانيا من خلال تفاعلها الحسي المباشر مع وقائع الجلسة وأطرافها، أضف إلى ذلك، أن طقوس المحاكمة بمجلس قضائي تخلق جوا يطبعه من الوقار والجلال والهيبة ما يفرض على المتهم ضغطا نفسيا يجعله يعزف عن أية محاولة لتضليل العدالة ويروم ما أمكن الدفاع عن نفسه بحسن نية، وهو أمر يسهل عليه التحلل منه في حالة حضوره الافتراضي.
ولا شك أن مسطرة المحاكمة عن بعد لا يمكن أن توفر كل هذه الشروط والضمانات، وذلك بكل بساطة لكون المتهم المعتقل يتحول من طرف في القضية يملك حق الحضور والمشاركة الفعلية والمباشرة في مناقشتها إلى متفرج على مجرياتها، أو بالأحرى على جزء يسير منها، من خلال الشاشة المثبتة أمامه بحيث أن الكاميرا تكون في وضعية ثابتة لا تسمح له برؤية سوى جزء من قاعة المحاكمة، وهو ما يفوت عليه فرصة معاينة كل ما يجري في الجلسة من تفاعلات وردود أفعال في حينها، وهكذا يبقى تحت رحمة الكاميرا الثابتة وحبيسها عوض أن يكون حرا في التقاط ما يريده من مجريات وقائع الجلسة والتفاعل معها، بل يحدث أحيانا أن يسمع تدخلا أو كلاما دون أن يتمكن من معرفة مصدره أو صاحبه، كما أنه سيجد صعوبة كبيرة إن لم نقل استحالة في طلب التدخل متى شاء، لكون تناوله الكلمة يبقى مرهونا وبشكل مطلق بإرادة رئيس الجلسة الذي لا يلتفت إليه إلا عندما يكون هو في حاجة إلى تدخله.
وعلاوة على ذلك، فإن ما يزيد من صعوبة تطبيق تقنية المحاكمة عن بعد ويجعلها قاصرة عن الوفاء بغرض صيانة مبدأ الحضورية، هو المشاكل التقنية المرتبطة أساسا بضعف التجهيزات التقنية اللازمة للعملية بكل من المؤسسة السجنية والمحكمة، وكذا بالأعطاب التي تحصل على مستوى صبيب الانترنيت، وهو ما يتسبب في انقطاع البت، أو توقفه فتنقطع الصورة أو الصوت أو هما معا بين الحين والآخر، أو يصلا معا بشكل ناقص ورديء يجعل عملية التواصل صعبة بل مستحيلة أحيانا، وهو ما يؤثر على السير العادي للمحاكمة.
وبالإضافة إلى ما ذكر، هناك مشكل آخر أفرزته التجربة الحالية وهو ما يحدث أحيانا من تعذر ربط الاتصال بالمؤسسة السجنية عندما تكون هذه الأخيرة رابطة الاتصال في إطار نفس مسطرة المحاكمة عن بعد، بمحكمة أخرى، بحيث تضطر المحكمة طالبة الاتصال إلى الانتظار إلى حين انتهاء الاتصال الجاري وشغور الخط، وهو ما يشكل عرقلة كبيرة وغير مقبولة للسير العادي للمحاكمة.
وهذه الإشكالات التقنية كلها تستدعي التقنين التقني للعملية، وذلك بالانكباب على سن نظام يتضمن من جهة، دفتر تحملات يحدد الحد الأدنى للوسائل التقنية (البشرية والمادية) اللازم توفيرها لإمكانية اللجوء إلى مسطرة المحاكمة السمعية البصرية عن بعد، ومن جهة ثانية، خارطة طريق لما يجب التقيد به من إجراءات وتقنيات يتم تحديدها بشكل مفصل ودقيق.
2 - خرق مبدأ العلنية:
ومفاد هذا المبدأ هو حق الجمهور في حضور المحاكمة، وحق المتهم نفسه في مناقشة قضيته بحضور العموم لما يمكن أن يسمح له به ذلك من التعريف بقضيته وبوسائل دفاعه، ولما يمكن أن يشكله كذلك من تحفيز للقضاء على توفير شروط المحاكمة العادلة للمتهم والتطبيق السليم للقانون، وتكريس لمبدأ تحقيق الردع العام، وهو من أهم أسس المحاكمة العادلة وضمانات حسن سير العدالة، وقد كرسه كل من الدستور في الفصل 123 وقانون المسطرة الجنائية في المادة 300 التي أوجبته تحت طائلة بطلان المحاكمة.
ولا شك أن إجراءات المحاكمة عن بعد تعد مساسا بمبدأ العلنية، وذلك، من جهة، لعدم حضور الجمهور أصلا كما في حالة التدابير الاحترازية المرتبطة بالوباء، ومن جهة ثانية، وحتى في حالة حضور الجمهور بقاعة الجلسة، فإن العلنية تكون غير متوفرة أو على الأقل منقوصة وغير كاملة، وذلك لكون المتهم غائب عن الجلسة ومحروم من المناقشة الحضورية والعلنية لقضيته، ثم لكون الجمهور الحاضر غالبا ما لا يتمكن من رؤية المتهم وسماعه، أو يراه ويسمعه بشكل رديء وناقص لا يحقق الغاية من إقرار مبدأ العلنية، بل إنه إذا اعتبرنا أن الفضاء الذي يمثل فيه المعتقل أمام الكاميرا يعتبر جزءا افتراضيا من قاعة المحاكمة يمثل فيه الطرف الرئيسي في القضية، فإن المحكمة نفسها وكذا النيابة العامة يصعب عليهما معاينة وضبط كل ما يجري في هذا الفضاء، لكون كل ما يرونه هو وجه المعتقل المستمع إليه، وهو ما يخل بواجب ضبط هيئة الحكم لكل ما يجري بالجلسة والتصدي لكل ما يمكن أن يمس بحسن سيرها.
3 - خرق مبدأ المساواة في الأسلحة:
وهذا المبدأ يعتبر بدوره ركنا ركينا من أركان المحاكمة العادلة، باعتباره من أهم أوجه تكريس مبدأ المساواة أمام القانون وأمام القضاء. ومقتضى هذا المبدأ هو أن توفر لجميع أطراف الخصومة الجنائية نفس الحقوق وتمنح إياهم كل فرص الدفاع التي يسمح بها القانون وذلك بشكل متكافئ، وهو مبدأ مكرس في الدستور وفي القانون وكذا في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
ويعتبر هذا المبدأ بدوره من ضحايا تطبيق مسطرة المحاكمة الجنائية عن بعد، إذ في الوقت الذي يكون فيه الخصم الرئيسي للمتهم أي ممثل الحق العام حاضرا بالجلسة وناشرا وثائق الملف أمامه، ويمارس دفاعه عن المجتمع بشكل مباشر ودون حواجز بينه وبين باقي الأطراف والمتدخلين وهيئة الحكم، يتتبع مجريات المحاكمة بشكل سليم ودقيق، ويتدخل متى شاء ويطلع بسهولة على كل ما يدلى به، شأنه في ذلك شأن الطرف المدني إن وجد، نجد بالمقابل المتهم القابع في الجهة الأخرى بالسجن أمام كاميرا ثابتة لا يرى من خلالها إلا منظرا واحدا ثابتا من القاعة، محروما من كل ما هو متوفر لخصمه من إمكانيات، وهو ما يؤثر بشكل سلبي على ممارسته لحقوق دفاعه، باعتبار مناقشته لقضيته وهو داخل أسوار السجن، الشيء الذي يخلف أثرا سلبيا على نفسه ويخلق لديه إحساسا بالدونية وبفقدان أي أمل في براءته مهما كان إيمانه بها، وهذا الإحساس يكاد يكون قائما حتى لدى الحاضرين بقاعة المحاكمة، وهو ما يخشى معه أن يكون له تأثير على ترافع النيابة العامة، بل حتى على قناعة هيئة الحكم، والأمر يكون طبعا بخلاف ذلك عندما يكون المتهم حاضرا أمام المحكمة بحيث يستفيد بدوره من وضع مريح أسوة بخصومه، مما يعزز لديه ولدى الجميع الإيمان بقرينة براءته واحترامها بمن فيهم هيئة الحكم والنيابة العامة.
وقد خلصت دراسة ميدانية أنجزت على مستوى محاكم ولاية شيكاغو الأمريكية في هذا الصدد، إلى أن جل القضايا التي تم فيها استعمال تقنية المحاكمة عن بعد صدرت فيها أحكام قاسية بالمقارنة مع قضايا مماثلة لم تستعمل فيها هذه التقنية.
ومما يزيد وضعية المعتقل المستمع إليه عن بعد، تأزما، حضور موظف أو عدة موظفين بالمؤسسة السجنية إلى جانبه، لما يشكله له ذلك من إحراج يؤثر سلبيا على نفسيته وممارسته لحق الدفاع عن نفسه بشكل كامل.
4 - خرق حقوق الدفاع:
تعتبر حقوق الدفاع مربط الفرس فيما تعرفه مسطرة المحاكمة عن طريق الوسائل السمعية البصرية من مناقشات على مستوى الفقه والقضاء في الأنظمة القانونية التي شرعت منذ مدة في اللجوء إلى هذه المسطرة، بحيث أن هناك إجماع على أنه كلما كان هناك أدنى شك أو حتى خشية من أن يؤدي تطبيق هذه التقنية إلى المس بحقوق الدفاع وجب العزوف عن اللجوء إليها، وإلا اعتبرت المسطرة باطلة، وهذا ما تحاول تكريسه دائما هذه الأنظمة القانونية (فرنسا، إسبانيا وبلجيكا مثلا) في تشريعاتها وعملها القضائي، كما كرسته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ولو بشكل محتشم وغير واضح، في بعض القضايا التي عرضت عليها إلى حدود الآن على قلتها.
ولا شك أن التخوف من مساس مسطرة المحاكمة الجنائية عن بعد بحقوق الدفاع يعتبر تخوفا مشروعا، باعتبار أن كل ما ذكر أعلاه عن مساس المسطرة بمبدأ الحضورية وبمبدأ التواجهية، وبمبدأ العلنية، وبمبدأ المساواة في الأسلحة، يؤثر بالتبعية والتلازم على حقوق الدفاع بما تعنيه بصفة عامة من حق المتهم في ولوج عاد وكامل للعدالة عن طريق حضوره شخصيا جلسة محاكمة يتوفر فيها شرط العلنية، وتضمن له فيها نفس شروط وفرص الدفاع الممنوحة لباقي الأطراف بما فيها النيابة العامة، هذا فضلا عن حقه في اختيار دفاعه وفي التواصل معه بكل حرية وفي وقت كاف وبشكل يكفل سرية الاتصال.
ومما لا شك فيه أن حرمان المتهم في مسطرة المحاكمة عن بعد من الحضور الشخصي والجسدي بجلسة محاكمة علنية يعني حرمانه من مواكبة كل مجرياتها ومناقشة قضيته بشكل مباشر، وعلى قدم المساواة مع باقي الأطراف، وإلزامه، عوض ذلك، بالمثول أمام كاميرا جامدة بالسجن ينتصب أمامها إلى جانبه حارس السجن عوض المحامي، ولا يرى من خلالها إلا جزءا من قاعة الجلسة، ولا يسمع في الغالب إلا جزءا مما يروج بها، ولا يملك القدرة على التدخل، ولا على التواصل مع محاميه وفق مستجدات المناقشة،
ولا يعرف مضامين ما يمكن أن يدلى به من وثائق، وهو ما يصبح معه المتهم المعتقل المستمع إليه عن بعد محروما من مجموعة من الحقوق المكفولة له إجرائيا، منها على سبيل المثال فقط حقه في الاطلاع (305) ق.م.ج شخصيا على محضر الجلسة عن طريق تلاوته، وحقه في الاطلاع بنفس الشكل على ما يدلى به بالجلسة من مستندات وما تتضمنه المسطرة من وثائق من قبيل محاضر المعاينات، والتفتيش أو الحجز، وتقارير الخبراء (المادة 321)، وكذا الأشياء المحجوزة، وكذا حرمانه من المؤازرة الفعلية والفعالة للمحامي، لاضطرار هذا الأخير إلى الاختيار بين الحضور إلى جانبه بالسجن، أو الحضور بالجلسة، وفي كلتا الحالتين ستكون استفادة المعني بالأمر من مؤازرة المحامي ناقصة، وحتى تدارك ذلك بتنصيب محاميين اثنين أو أكثر سيكون مكلفا وماسا بحق الولوج إلى العدالة بدون ضرر. كل ذلك إذن يشكل ضربا خطيرا لحقوق دفاع المتهم يجعل المسطرة مشوبة بالبطلان تطبيقا للدستور ولمقتضيات قانون المسطرة الجنائية المرتبطة بالموضوع.
تلكم كانت، إذن، أهم المؤاخذات التي يمكن تسجيلها على مسطرة المحاكمة عن بعد باستعمال الوسائل السمعية البصرية، والتي تستدعي ممارسة كل الجهات ذات الصلاحية رقابة ضيقة على التطبيق الحالي لمسطرة المحاكمة الجنائية عن بعد، بشكل يضمن صيانة مقومات المحاكمة العادلة والأمن القانوني والقضائي وذلك بعدم السماح بسلوك المسطرة المذكورة إلا عند الضرورة القصوى، وبشرط توفر بنية تحتية تكنولوجية كفيلة بتحقيق المبتغى، مع الحث على منح المعتقلين الحاضرين بالجلسة عبر الشاشة، وقتا أطول، وصدرا أرحب، وفرصا أوسع من أجل المشاركة الفعالة في المناقشة وممارسة حقوق الدفاع بشكل أكمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.