تعتبر المحاكمة العادلة من أهم المبادئ التي توصل إليها الفكر الحقوقي بمشارق الأرض ومغاربها، على اعتبار أنه أصل كوني يهم شرائح المجتمع بكلياتها. وموضوع المحاكمة العادلة، لئن كان يتناول في العادة بدءا من مرحلة ما قبل المحاكمة، أي أثناء البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي، وانتهاء إلى مرحلة ما بعد المحاكمة، فإن هذه الأسطر سوف تتناوله فقط في شقه المتعلق بالمثول أمام المحكمة وذلك بالنظر لارتباطه الوثيق بإجراءات السلامة الصحية التي اعتمدتها محاكم المملكة حفاظا على صحة وسلامة المعتقلين احتياطيا في ظل تفشي وباء كوفيد-19. وغني عن البيان أن المتهم بمجرد مثوله أمام هيئة المحكمة فإنه يتمتع بحقوق تدخل في صميم حقوق الدفاع، التي تجد أساسها في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات البعد الحقوقي وداخل التشريع الوطني أيضا من دستور وقانون المسطرة الجنائية (1). ولكن من أجل الحد من انتشار الوباء وحفاظا على سلامة المعتقلين، عملت السلطة القضائية على نهج نظام المحاكمة عن بعد ليطرح سؤال ملاءمة تلك بأصول ومبادئ المحاكمة العادلة (2). 1- أصول ومبادئ المحاكمة العادلة مما لا يخفى على شريف علم أحد ان المحاكمة العادلة تنبني على شروط ومقومات أساسية اتفق الكل عليها، وهي كما حصرتها منظمة العفو الدولية في دليلها حول المحاكمة العادلة تشتمل على مجموعة من الحقوق يمكن إجمالها في ما يلي: ا- الحق في المساواة أمام القانون والمحاكم: تنص المادة 26 من العهد الدولي على أن الناس جميعا سواسية أمام القانون ويتمتعون دون أي تمييز بحق متساو في التمته بحمايته. وينص الفصل 19 من الدستور المغربي على أن الرجل والمرأة يتمتعان على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. ب- الحق في المحاكمة أمام محكمة مختصة مستقلة ونزيهة مشكلة وفق أحكام القانون: وفي هذا الإطار تنص المادة 14/1 من العهد الدولي على أنه من حق كل فرد لدى الفصل في تهمة جزائية توجه إليه... أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية منشاة بحكم القانون. ج- الحق في المناقشة الحضورية والعلنية للقضايا: الأصل أن المحاكمات تكون علنية وحضورية والأحكام تصدر بتلك الصفة، اللهم ما استثني بنص كقضايا الأحداث. د- البراءة هي الأصل والشك يفسر لفائدة المتهم: ينص الفصل 119 من الدستور على أن كل مشتبه فيه أو متهم يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به. وتنص المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية على أن الأصل هو البراءة وأن الشك يفسر لفائدة المتهم. ح- الحق في محاكمة دون تأخير لا مبرر له: تنص المادة 14/3/ج من العهد الدولي على أن المتهم يتمتع بالحق في أن يحاكم دون تأخير لا مبرر له. وينص الفصل 120 من الدستور على أن لكل شخص الحق في متابعة عادلة وفي حكم يصدر داخل أجل معقول. خ- حق المتهم في أن يدافع عن نفسه بشخصه أو من خلال محام: الأصل أن المحامي يكون اختياريا في المادة الزجرية إلا ما استثناه القانون وخاصة المادة 316 من قانون المسطرة الجنائية، التي تنص على أن إلزامية المحامي تكون في الجنايات وفي الجنح في الحالات التالية: -عندما يكون المتهم حدثا أو أبكم أو أصم وبه أي عاهة تمنعه من الدفاع عن نفسه. -عندما يكون من المحتمل أن يحكم عليه بالإبعاد. 2- ملاءمة المحاكمة عن بعد مع مبادئ المحاكمة العادلة إن المحاكمة عن بعد بالطريقة الإلكترونية وعن طريق برنامج Skype أو أحد البرامج أو التطبيقات الأخرى التي تتيح التواصل بين مختلف المتدخلين في المحاكمة، من قضاة سواء للحكم أو للنيابة العامة ومتهم وضحية ومحامين، عن طريق الصوت والصورة ليس وليد اليوم وإنما انتشار الوباء سرع في إنزاله لأرض الواقع فقط على اعتبار أن المحاكمة عن بعد صورة من صور المحكمة الرقمية. وملاءمة المحاكمة الإلكترونية عن بعد مع أصول ومبادئ المحاكمة العادلة تجعلنا نقول إنها (أي المحاكمة عن بعد في زمن كوفيد-19) تحترم كافة شروط المحاكمة العادلة. بل الأكثر من ذلك، في نظرنا، يمكن اعتبارها حصن المحاكمة العادة الحصين وأساسها المتين وركنها الشديد الذي أوت إليه في زمن الحجر الصحي. ونقصد مما سلف ذكره أنه لولا المحاكمة عن بعد بالطريقة الإلكترونية لما احترم مبدأ من أهم المبادئ ومقوم من أهم مقومات وأصل من أهم أصول المحاكمة العادلة، ألا وهو الفعالية والنجاعة القضائيتين والبت في القضايا داخل أجل معقول، وهذا في حد ذاته مكسب كبير. كما أن مسالة عدم حضور المتهم للجلسة بشحمه وعضمه بالنظر لحالة الحجر الصحي التي تعرفه بلادنا لا يعني أن مبدا الحضورية لم يحترم بل الأصح هو أن ذاك المبدأ احترم احتراما شديدا، إذ أن التواصل الإلكتروني يمكن من معرفة ما يروج في الجلسة بكل حذافيرها حيث تمكن من معرفة ردود الأفعال بشكل يمكن القاضي الجنحي من تكوين قناعته. وفي هذا السياق قال الفقيه GEORGES RIPERT: les hommes ne sont plus séparés par la distance, le téléphone, le télégraphe, la radio, le cinéma, les rapprochent et les renseignent. وفي سياق مقارناتي، ذهب التشريع في فرنسا إلى سن قوانين تؤصل للمحاكمة عن بعد وهكذا نجد القرار رقم 2020/303 الصادر في 25 مارس 2020، المتمم لقواعد المسطرة الجنائية الفرنسية والمتعلق بحالة الطوارئ من أجل مواجهة جائحة كوفيد 19، والذي نص في مادته السابعة على أنه يمكن لرئيس الجلسة أن يأمر بجعل الجلسة سرية إذا دعت ضرورة الحفاظ على الصحة العامة ذلك. وفي الأخير، لا يسعنا إلا أن نختم هذه الكلمات بالقول إن إجراء المحاكمة عن بعد وعن طريق الوسائل الإلكترونية هو قرار مؤسس قانونا، حكيم تدبيرا وفعال عمليا. وفي هذا الإطار لا بد من رفع قبعة الفخر والاعتزاز ودق جرس الاحترام والتقدير لكافة قضاة المملكة المرابطين في المحاكم خدمة للوطن وتحقيقا للعدالة والأمن القضائي وكافة الساهرين على إنجاح الحجر الصحي. *باحث في القانون