مشكلة المغرب هي في واقع الأمر مشكلة رجاله، رجال أمسه ورجال يومه ورجال غده. "" بالأمس القريب كرس رجال التخلف وحشدوا آلياته إلى أن وضعوا البلاد في دوّامة تنمية التخلف. أما رجال اليوم، فقد عاشوا على أمل التغيير، منهم من رآه تغييرا جذريا ومنهم من فضلوا التغيير السلس، تحمل الكثير منهم القمع الشرس وتداعيات الاستبداد والقهر في مختلف المجالات في انتظار غد وردي، إلا أن حلم هؤلاء، سواء أصحاب التغيير الجذري أو التغيير السلس، لم يعاينوا إلا اغتيال حلمهم بالتقسيط، جزءا جزءا، ورغم التضحيات الجسام وتحمل الويلات لم يحصدوا إلا الإحباط تلو الإحباط، إنه، بحق، جيل الأزمات واغتيال الأمل، ويحق في هذا الجيل الوصف القائل: شهداء على سبيل التجربة. زاد الحال سوءا وتعمقت الأزمة المركبة في ظل سيادة فقدان الأمل إلى حد أن رجال الغد، الكثير منهم، باتوا خارج الدائرة، يصارعون صراعا مريرا، للحصول على مجرد مكان تحت شمس وطنهم ليس إلا، بعد أن أرغموا على التخلي عن كل أحلامهم حتى البسيطة منها. لقد دنونا جدا من الحضيض إلى حد أن رجال الأمس واليوم قدموا استقالتهم بخصوص إعداد مستقبل رجال الغد. كيف يمكن الاطمئنان على الغد والنزر القليل من 150 ألف رجل تعليم هم الذين يهتمون حقا بعملهم ورسالتهم الحضارية، والدليل واقع حال تعليمنا العمومي، الذي يستحوذ على ثلث الميزانية العمومية والسائر بخطوات حثيثة على درب الانحطاط والتدني. وتزداد الصورة قتامة لاسيما أن تحفيز رجال التعليم ليس مرتبطا بإضافة عشرات أو مئات الدراهم، ما دامت القضية ليست قضية "مادة" فقط. أزمة وإحباط في كل ميدان ومجال وفي صفوف كل الأجيال، هذا في وقت يطلع علينا فيه كبير وزراء الحكومة ليقول إن الأغنياء هم الذين يستفيدون أكثر من الفقراء، من مختلف السياسات المعتمدة، حيث إنهم الأكثر استفادة من صندوق المقاصة أكثر من غيرهم. وهذه مفارقة غريبة في بلد استشرى فيه الفقر وتآكلت القدرة الشرائية لدى أغلب الساكنة، فصندوق المقاصة يستفيد من ثلث غلاف الاستثمارات العمومية، وهي طبعا مقتطعة من مال الشعب، وأكبر المستفيدين منه، بشاهدة كبير الوزراء، هم الأغنياء، وهم قلة، أليس هذا مظهرا من المظاهر الجلية على سياسة إغناء الغني وتفقير الفقير خلافا لما يروج له، إغناء الفقير دون تفقير الغني؟ فمنذ التسعينات حتى الآن، وبالرغم من كل ما قيل عن التغيير وتجميع الشروط لإعادة إنعاش الأمل، ظلت طبيعة مسار بلادنا مطبوعة بالإجهاز على المكاسب الاجتماعية، ومنها عدم الاهتمام بالسلم المتحرك للأجور وتجميد الرواتب والتوظيف، وبالمقابل تم الإقرار سنة 2006 بالزيادة في معدلات الضريبة على القيمة المضافة من 7 إلى 10 بالمائة ثم إلى 14، وصولا إلى 20 بالمائة، هذا إضافة إلى إخضاع مواد وخدمات أخرى أساسية لم تكن خاضعة من قبل للضريبة، والزيادة في جملة من المواد الاستهلاكية والرفع في ثمن تسعيرة الكهرباء بنسبة 7 بالمائة وفي ثمن تذاكر النقل الحضري بين المدن واللائحة طويلة. كيف يمكن أن يتسرب بصيص التفاؤل بين سطور هذه الورقة ومؤشرات الإحباط والتذمر كثيرة ولا يُحسّها إلا من يعيشها، فقد تعددت المؤشرات والإحباط واحد. اللافت للنظر، هو أنه إذا كانت حالة التذمر هي المسيطرة على الشارع، فإن حالة القلق تجاه المستقبل هي المسيطرة على النخب السياسية النزيهة. فعدم ثقة الناس في جدية الإجراءات الحكومية مرده انهيار الثقة المستمر في الحكومات منذ سنوات، فالناس عادة لا يميلون إلى تصديق الرواية الرسمية، والشكوك تسبق التدقيق في المعلومات ما دامت من مصادر رسمية. وإذا كانت الحكومة الحالية لا تتحمل المسؤولية بخصوص الأوضاع الراهنة، فإنها مثل كل الحكومات تجد نفسها حاليا مطالبة بالأفعال لا الأقوال. وباعتبار أن أهم المشاكل التي يعيشها أغلب المغاربة مردها إلى فقرهم، ما دامت قضية الفقر لم تعد مجرد ظاهرة محدودة أو "جيوب" كما ظل القائمون على أمورنا ينعتونها في الأدبيات الرسمية، وإنما أضحت حالة اجتماعية واسعة تشمل نصف المجتمع، وجب التفكير إذن في إحداث وزارة تهتم بشؤون الفقراء، وهذا ما سيمكن على الأقل من فرصة تمثيل الفقراء في الحكومات بشكل دائم، وإن كان من الصعب قبول هذه التسمية، يمكن تعويضها بوزارة تنمية الفقراء ما دام أن قطاع الفقر هو القطاع الوحيد الذي بات له مستقبل ببلادنا، والذي يسجل نموا مطردا تلمس آثاره شرائح اجتماعية واسعة بالملموس وعلى أرض الواقع المعيش.