من المؤكد أن طرح إشكالية الشباب في أي بلد لا يمكن أن يعبر إلا على الإرادة السياسية لطرح إشكالية الاستمرارية والتفكير في المستقبل وآفاقه، ومضامينه. فإذا افترضنا أن دولة متقدمة تهاونت في تعاطيها بجدية مع هذه الإشكالية، لا يمكن أن نتنبأ لها إلا بالتراجع. أما الدولة المتخلفة أو النامية التي لا تتوفر على سياسة محكمة للطفولة والشباب، فإن مستقبلها يكون غامضا ومهددا. فعناية الدولة بهاتين الفئتين شبيهة بعناية الفلاح بأرضه، ما يزرعه اليوم سيحصده غدا. وبذلك، فمنطق سياسة الدولة في مجال الشباب يحدد إلى حد بعيد طبيعة رجال الغد، أي منطق الفاعلين في دولة ومجتمع الغد. وعندما نتكلم عن الشباب كأساس للتفكير العمومي في المستقبل، لا يمكن أن نخضع هذه المسؤولية الجسيمة لاعتبارات ضيقة وغير موضوعية كربط حصيلة الوضع الشبابي بعمل الوزارة المختصة. على العكس من ذلك، فمسؤولية النهوض به هي من مسؤولية الدولة بكل مؤسساتها. إعداد الشباب للمستقبل، يحتاج إلى خطة مندمجة تتداخل فيها اختصاصات القطاعات الحكومية وتدخلات المجتمع المدني والسياسي والنقابي. وفي نظري، يجب أن ترتكز هذه الخطة على التربية والتعليم والتكوين، والثقافة، والرياضة، والفنون، والسياسة،... وعندما نتكلم عن التربية، نعني بذلك ضرورة توفر سياسة عمومية للتربية العلمية الحداثية تهتم بالطفل وعلاقته بمحيطه منذ مرحلة الحمل، مرورا بعلاقته الفطرية مع والديه في العامين الأولين من حياته، وخضوعه للتعليم الأولي، ودخوله إلى المدرسة ثم الإعدادي والثانوي وأخيرا الجامعي. وكما أشرنا إلى ذلك في مقالات سابقة على صفحات هذه الجريدة، يحتاج الطفل في مراحل مروره إلى الشباب ثم النضج إلى خطة مندمجة تشاركية يساهم في بلورتها وتنفيذها كل من وزير الشباب والرياضة، ووزير التربية، ووزير التعليم، ووزير الثقافة، والوزير المكلف بالتكنولوجيات الحديثة، ووزير التشغيل (من باب ضرورة ربط التعليم بالتشغيل)، والجماعات والسلطات المحلية. خطة يجب أن تلعب فيها الجمعيات الجادة، والأحزاب السياسية، والنقابات،... دور الشريك المرتبط بقضايا الوطن وبالإشكاليات الأساسية المرتبطة بمستقبله وعلى رأسها تربية وتكوين وتثقيف طفولتنا وشبابنا. إن الحماس الهستيري الذي يفجره شبابنا اليوم عند تتبعهم لمباريات كرة القدم الغربية خصوصا البارصا والريال، يعبر عن ارتباط قوي مع ما هو خارج الوطن والوطنية. وما يثير القلق أن إدمان الشباب على كرة القدم الأجنبية يوازيه إجراء العديد من المباريات الوطنية في ملاعب خالية من الجمهور وإخفاقات متتالية للكرة الوطنية. وإلى جانب كرة القدم، يعيش شبابنا وحتى أطفالنا إدمانا من نوع آخر، إنه إدمان على "الشاط" والإبحار في المواقع العديدة للانترنيت بدون مراقبة ولا تأطير. وهناك تعودات وسلوكيات أخرى يعرفها الجميع كالتعاطي للمخدرات والأقراص المهلوسة، وممارسة العنق، والتفوه بالكلام الساقط،... كلنا يتذكر التحليل الذي قدمه الدكتور محمد عابد الجابري لخلفيات الصراع الكروي الذي انفجر في المقابلة التي جمعت بين مصر والجزائر والذي نشر على الصفحة الأولى من هذه الجريدة. وما أثارني أن هذا المفكر قد حذر مبكرا من الاستغلال السياسي الديماغوجي المفرط لكرة القدم. ففي كتابه المعنون "من أجل رؤية نقدية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية الصادر سنة 1977 قال :" إن أشكال الانحراف كثيرة ومتنوعة. والكثير منا يعيشها أو يشاهدها يوميا في غدوه ورواحه في يقظته ومنامه. وكمثال واحد فقط نشير إلى ظاهرة خطيرة تشكل أحد جوانب هذه الوضعية المزيفة التي يحاول الشباب في البلاد المتخلفة أن يصنعها لنفسه، والتي تجعل منه حقا، شبابا متخلفا أقسى ما يكون التخلف. ذلك إننا لو قمنا مثلا بعملية إحصاء لرصد اهتمامات شبابنا لوجدنا بكل تأكيد أن تسعين في المائة منها منحصرة في تتبع ما جرى ويجري وسيجري في ملاعب كرة القدم، حتى لقد أصبح الاهتمام بمثل هذه الأمور هو القسم الأكبر من مشاغل شبابنا. وذلك لعمري، أفيون للشباب، فتاك وخطير. وذلك، لعمري، لبرهان ناطق على تخلف فكري فظيع. أن تكون حركات دماغ الإنسان مستمدة من حركات الكرة فقط، فهذا ما يعجز الإنسان عن إعطاءه اسما آخر غير كلمة التخلف. انه "أفيون الشباب. وعليه، فأعتقد أن ما يعيشه المغرب من إكراهات ومشاكل وقلق وتوتر جراء ما يعرفه المجال السياسي من تراجع ما هو إلا حصيلة لمنطق تعامل الدولة والنخب التقليدية المحتكرة للكراسي مع شباب الأمس (رجال اليوم). كما أن منطق عقلية وسلوكيات أغلب رجال اليوم (المسؤولين على الخصوص)، جعل شباب اليوم يحس وكأنه مفصول عن ماضيه، ومقطوع الاتصال بالمستقبل الذي ينشده ويطمح إليه. إنها بوادر أزمة سلوكية معقدة تجعل أبناءنا يتكلمون عن المستقبل متجاهلين الماضي ورافضين الحاضر وما يمارسه من ضغوطات على شخصياتهم والتي تفوق قدرتهم على التكيف، ورفع تحدي الاندماج والتنافس. وهذا التيه في الحقيقة لا يمكن أن يكون إلا انعكاسا لتيه الدولة التي ليست لها القدرة على معرفة أين هي الآن بالضبط، وإلى أين تسير خصوصا في مجال صنع رجال الغد. وهذا ناتج بالطبع عن عدم توفر الشروط بشكل كافي لتمكين النخب الوطنية الحقيقية من صنع حاضرها (الدولة) بإرادتهم والتفكير في مستقبلها من خلال مشهد سياسي يرجح منطق الالتقائية والحرية على حالة الغموض والمقاومة. إن التدارك الذي جنب المغرب الوقوع في "السكتة القلبية"، هيأ للبلاد هامشا من الوقت للتفكير الجدي في كيفية التعامل مع واقع أبناء اليوم لتحويله إلى مصدر قوة تمكن نسبيا من التحكم في مصير المستقبل. إنها فرصة بالغة الأهمية في تاريخ المغرب السياسي وجب استغلالها استغلالا كاملا. فالأمل في الغد مرتبط بقناعة الفاعلين في العهد الجديد بالتركيز بنزاهة فكرية كبيرة على كل ما من شأنه أن يحول شباب اليوم إلى ركائز الدولة القوية في الغد. وفي هذا الشأن، قال محمد عابد الجابري في كتابه السالف الذكر :"الشباب الذي عرف عنه التاريخ في كل أحقابه وأطواره، أنه القوة الحية الدافعة، والأداة الحادة الصامتة. وهذا هو السر في أن بعض البلدان المتخلفة بدأت تعيش آمالا تزداد انتعاشا لأن الشباب فيها تحرك أو بدأ يتحرك، في حين ما زالت بلدان مماثلة أخرى سجينة التوتر والخوف لأن الشباب فيها لم يحصل لديه بعد وعي كامل بالمهمات الملقاة على عاتقه، ولا بالدور التاريخي العظيم الذي قدر له أن يقوم به والذي لا مناص له منه، طال الزمن أو قصر". ونفهم من كلام الجابري أن تحرك وتحريك الشباب يجب أن يكون من أولويات انشغالات الدولة والمجتمع. إن تربية الأطفال والشباب تربية علمية ستمكنه من اكتساب القدرة على الفعل، وعلى جودة كبيرة في الذوق والاختيار. فمثلا إن تربية الطفل على هواية القراءة والثقافة والفن والرياضة والسلوك الحسن،... ستمكنه من تكوين شخصية خاصة به مستقلة ومقاومة بمناعة كبيرة لإغراءات رواد الفساد والتطرف. وبالمقابل، كلما ترسخت ثقافة القراءة في سلوكيات شبابنا كلما تقوى وعيه السياسي. وكلما ارتفعت نسبة قراءة الجرائد، والكتب الفكرية، والمجلات، وتتبع الإصدارات الجديدة، وتقوية النقاشات السياسية الموضوعية،.. كلما توفرت شروط تشجيع الإبداع، وبلورة المواقف الفكرية والسياسية وبالتالي تقوية الأحزاب السياسية الجادة والرفع من جودة العمل السياسي. إن نسبة الشباب في المغرب تقارب 70 بالمائة من الساكنة ووضعه يدعوا إلى القلق ووضع البلاد في نفس الوقت لم يتجاوز كثيرا منطقة الخطر. ونظرا لأهمية هذه النسبة في الهرم السكاني المغربي، ونظرا لكون من ساهم في الماضي في تردي أوضاع شباب الحاضر لا يمكن أن يساهم مبدئيا في الحاضر في بناء مستقبله (المشاركة في الإصلاح)، إخراج البلاد من حالة الشك والريبة والتردد يبقى من مسؤولية الشباب. مسؤولية لا يمكن أن تعطي أكلها بدون توفر الإرادة لخلق الاندماج بين جيل الأمس الغيور على وطنه وجيل اليوم من الشباب. من ساهم في فساد التشريعات، ونهب المال العام، وتزوير الانتخابات، وممارسة القمع، والدفاع على الباطل... لا يمكن له أن يتحول إلى رجل إصلاح سياسي وأن يشارك في بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي يريده صاحب الجلالة. على الدولة وعلى رجال الأمس الشرفاء وعلى شباب اليوم أن يتحملوا مسؤوليتهم كاملة في هذا الشأن. نقول هذا لأننا نعتقد أن للشباب نصيب في وضعية الركود السياسي الذي تعيشه البلاد، أي أنه، بمعنى من المعاني، مسؤول عنها ومتسبب فيها. إن منطق التبعية غير المبررة فكريا للنخب التقليدية الفاسدة أصبح اليوم أمرا غير مقبول سياسيا لأنه يحول قوة فعل الشباب في الإصلاح والتنمية إلى قوة مكبوتة مما يسبب حالة مستمرة من التنافر بين نمو ديمغرافي قوي، ومصادر اقتصادية ضئيلة (ضآلة تزايد الإنتاج بسبب كثرة الشباب الذي لا ينتج). وفي هذه النقطة بالذات، علينا أن نفطن بعض مناورات وخطابات رجال الماضي المقاومين للتغيير والذين يقدمون صورة قاتمة للشباب ويستهزؤون من واقعه ويدعون كحل إلى تحديد النسل. إنها مناورة المراد منها هو استمرارهم في التحكم في مصير البلاد واحتكار خيراتها لأبنائهم. إنها مناورة ترمي إلى إبعاد الأذهان عن التفكير الصحيح في أزمة اليوم، والتي يلخصها أغلب المختصين في عنصر أساسي واحد هو ضرورة الوعي بالأزمة لكي لا نقول التخلف وتحديد دور الشباب في الخروج من هذه الوضعية. إنها مسؤولية كبارنا للاقتراب بل للالتحام بشبابنا لتحويل المنطق الكمي السلبي إلى منطق كيفي إيجابي بعيدا عن منطق الاحتكار العائلي وخدمة المصالح الخاصة. لقد تأكد أن الجهل، والفقر، والمرض، والبطالة .. لم تمنع الدول الغربية بالأمس من المرور إلى وضعية التقدم اليوم. فما عاشته الإنسانية كلها، قرونا وقرونا من تفشي هذه الظواهر، لم يمنع من ظهور العولمة والتكنولوجيات الحديثة والوسائل المتقدمة للنقل. ومما يدعوا للأمل، فشبابنا يحتاج فقط إلى التفاتة صادقة لدعم تطلعاته وتفجير طاقاته. لم يعد أحدا يردد العبرة الدارجة "اتبع حرفة بوك لايغلبوك". بالرغم من تفشي الظواهر التي ذكرناها أعلاه في صفوف الشباب، يحدونا الأمل في استغلال بعض نقط القوة التي تثير التفاؤل. لقد أصبح الشباب يعبر عن تطلعات جديدة جعلته يدرك جيدا حقيقة وضعيته، وحقيقة ما عليه أن يفعل، لكن تعوقه مقاومة مختلف فئات السكان الأخرى من كهول وشيوخ (الأعيان) الذين لا يطيقون المنافسة الشبابية، ويبذلون كل ما بوسعهم لتكريس منطق التبعية التقليدية والانتهازية. هذا الوضع اللامنطقي يدفع البعض من الشباب إلى تحويل كل مكبوتاته إلى سلوكيات ابتزازية يعبر عليها إبان الاستحقاقات الانتخابية بينما يلجأ البعض الآخر إلى ممارسة منطق الامتناع والعزوف. نقول هذا لأننا نعتقد أن استمرار المقاومة بإمكانه أن يزيد من حدة جمود أو تجميد الوعي، وفي هذه الحالة يتحول الوعي الذي كان إيجابيا إلى وعي سلبي لا يمكن أن تتمخض عنه إلا التأوه، والتشكي، وهما سبيل اليأس. إن تقوية نبضات قلب المغرب تبقى مرهونة بمدى قدرة الدولة والمجتمع على تحويل دور الشباب إلى دور طلائعي، يعمق الوعي بالأزمة، ويجعله وعيا ايجابيا يترجم ميدانيا إلى حركة وفعل. ليس للمغرب من طريق آخر ليتقدم سوى قوة شبابه الكمية والكيفية. قوة أساسها التعليم والتربية والثقافة والاقتناع بكون التحول التاريخي سيتم طال الزمن أو قصر وإلا سيعيش شبابنا وضعية فرار تتحول إلى اصطناع وضعية واهتمامات مزيفة وكاذبة هي أبعد ما تكون عن رهانات المستقبل.