“إذا كان ثمة أي مبدأ في الدستور يستحق بصورة أكثر إلزاماً تعليق أهمية عليه أكثر من غيره فهو مبدأ حرية الفكر، ليس حرية الفكر لمن يتفقون معنا ولكن حرية الفكر الذى نبغضه” القاضي الأمريكي أوليفر وندل هولمز إلى هيئة الدفاع التي آزرتنا بكل النبل.. إلى محمد الساسي وحسن طارق اللذين ما سايرا تبدلات الوقت الكئيب * قبل الدخول في الجوهر لدي ملحوظتان أحاول التأكيد عليهما منذ البدء، أولاهما أن أي تشابه بين أفكار أو شخصيات هذه المرافعة الخيالية وشخصيات ووقائع حدثت أو ستحدث في الآن والاستقبال على أرض الواقع هو محض صدفة. وثانيهما أَرِدُه على لسان الباحث Bernard verber في كتابه "Le père de nos pêres"، مما جاء فيه "بين ما أفكر فيه، وما أريد قوله، وما أظنني أقوله، وما أقوله فعلا، وما ترغبون في سماعه، وما تظنون أنكم تسمعونه، وما تسمعونه فعلا، وما ترغبون في فهمه وما تظنون أنكم فهمتموه، وما فهمتموه فعلا.. توجد عشر احتمالات لوجود صعوبات في التواصل ومع ذلك فلنحاول". سيدي الرئيس المحترم: تُجمع كل الروايات التاريخية من جيرمان عياش إلى جاك بيرك، على أن سبب نشأة الصحافة بالمغرب، يعود إلى القاضي محمد الطيب الروداني، الذي كان أول من أدخل المطبعة إلى بلدنا عام 1865.. كان في طريق عودته من مكة، حيث القبلة الروحية للمسلمين، ومرَّ على القاهرة، مركز السلطة المعرفية ومتروبول الإنتاج الرمزي في العالم الإسلامي ذاك القرن، ولأن حب الأوطان من الإيمان فقد جلب معه المطبعة إلى المغرب، فكانت الصحافة. هذه الخاصية في المغرب، أن يكون قاض هو سبب ولادة الصحافة، يدل على أن العدالة أخت للصحافة وحاضنة لها، ولا يمكن استعمال القضاء للقضاء على حرية الصحافة.. إن العدل أساس الملك لأنه لا يتغيى سوى الحق، والصحافة لا تدافع عن غير الحق، لذلك فإن الحق لا يضاد الحق بل يعاضده ويؤازره..ذلك هو فصل المقال فيما بين العدالة والصحافة من اتصال. إذا كان بعض الشر أهون من بعض فيحق أن نقول نحن محظوظون، أن تكون هذه أول محاكمة للصحافة، بدءاً ومساراً، في ظل دستور جديد أجمع عليه أغلب المغاربة يوم فاتح يوليوز الماضي.. إنه امتياز مزدوج لنا معا، صحافة وعدالة، لأن هذا الدستور منح القضاء سلطة أكبر واستقلالية أقوى، وكرس لأول مرة حق المغاربة في الإعلام والولوج الحر للمعلومات.. السيد الرئيس المحترم: حين قلت في تصريحاتي سواء لدى الفرقة الولائية للضابط القضائية أو لدى السيد نائب وكيل الملك: "إني أتحمل مسؤولية ما كتبْت في مقالي جملة وتفصيلا"، ليس لبطولة مزعومة في زمن نهاية البطولات وتضخم النرجسيات.. ليست لديَّ أي أوهام في مرحلة كبيرة بقلق أسئلتنا، صغيرة بربَّات حجالها ممن وُلُّوا تصريف أمور حكمنا، ونحن نتابع ما يحدث لزميلنا نيني، مثل "شاهد ما شَافْشِي حاجة".. لا أتوهم أنه بعد صدور حكم محكمتكم الموقرة أني سأرفع شارات النصر وتهتز قاعة المحكمة بالشعارات الحماسية، وسيتردد إسمي في تقارير وبيانات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان وحماية حرية التعبير، وستملأ صوري التلفزيونات والصحف وسائر وسائل الإعلام الوطنية والدولية، وتنهال علينا من كل حدب وصوب عرائض التضامن والوقفات الاحتجاجية.. شخصيا شبعت من إسمي، كتبت – بتواضع – مئات المقالات في عشرات الصحف الوطنية والعربية، مررت في عشرات القنوات التلفزية الوطنية والدولية... وأنا الذي وُلدت وسط "برَّاكة" بحي الخير بالرباط ونشأت بفم الأفعى بهوامش العاصمة، وسط جيل كان أقصى ما نحلم به حين نُسأل من طرف معلمينا هو أن يصبح الواحد منا شرطيا أو ممرضا أو معلماً أو مقدم حومة.. مع احترامي لهذه المهن النبيلة. لقد أنهيت مع عقدة نرجس وعشقه لصورته عبر 17 سنة من العمل الصحافي.. وسأظل مجرد صحافي صغير في وطن كبير، لقد قلت – السيد الرئيس – إني أتحمل مسؤولية ما كتبت من منطلق المسؤولية الأخلاقية التي تفرضها عليَّ أصول مهنة الصحافة، فكل كلمة وردت في مقالي، لا أقصد مضمون التصريحات التي هي لزعماء وقياديين حزبيين، وإنما كتابة المقال، كل كلمة هي من بناتي وأبنائي جاءت بوجع ومخاض، فهي ليس لقيطة ولا تبنَّيتها، بل لقد خرجت من الصلب والترائب، ولدت بحرقة ووجع، بمسؤولية وصدق وحسن طوية.. لذلك لم أتسوَّل لها أبا ولا استعرت لها إسما. قد أبدو لكم – السيد الرئيس – مثل بطل تراجيدي مطمئن إلى مصيره وهو يسير نحو حتفه ليثبت وجود قوة خارقة، أو مثل بطل دونكشوتي يحمل قيم الفرسان النبلاء في زمن مبتذل.. ولكني لم أُخَيَّر بين وضعين لأقول: "ربي إن السجن أحب إلي مما يدعونني إليه".. فأنا لست انتحاريا ولا مغامراً ولا متوهما لبطولة مزعومة، إذ أنا لست إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد. لي أطفال أعشقهم بجنون، ولي زوجة إذا ما وضعَت يدها على جبيني نسيت كل ظلم العالم. لكن لدي أخلاق السادة لا أخلاق العبيد، والحق أقول لكم إن المقال مُوقع بإسمي وأتحمل المسؤولية المهنية عن كل حرف فيه. العنوان عتبة الولوج نحو المصيدة السيد الرئيس المحترم: أنا هنا من أجل أن أساعد عدالتكم قصد الوصول إلى الحقيقة، حتى ولو كانت لا تخدمني بالمعنى الانتفاعي الضيق، وسأذكر زميلي ادريس بالحوار الذي دار بيننا زوال يوم الأربعاء 27 يوليوز الماضي، ونحن في السيارة، التي كانت تقودها زوجته النبيلة التي اكتوت بصهد هذه المهنة، في اتجاه ولاية أمن البيضاء، حين سألني ببراءة الأطفال: "يجب أن نتفق أولا حول ماذا سنقول لهم لحظة الاستنطاق، لكي لا يقع بيننا أي تناقض؟"، فأجبته بسذاجة العشاق: "قل الحقيقة فقط، صف ما حدث بصدق، فإننا حينها لن نتناقض أبداً".. المقال كتبتُه أنا وأتحمل كامل المسؤولية الأخلاقية والمهنية فيه، والعنوان المنشور به حدث لتحوير اقتضاه سياق وضعه عل الصفحة الأولى.. فالعنوان الأصلي للمادة التي كتبتها كان هو "لائحة الولاة والعمال المطعون في حيادهم الإداري"، وهنا لا توجد أي مشكلة مع العمال الثلاثة المعينين في نونبر 2010، لأني لم أُوقف مقالي على المتهمين من طرف الأحزاب السياسية بالتدخل في الانتخابات بل بمسألة عدم الحياد الإيجابي للإدارة الترابية الذي يمكن أن يتجلى حتى خارج الزمن الانتخابي.. السيد الرئيس: الكلام حمَّال أوجه لكن لا نريد أن يُحمل كلامنا على غير القصد الذي أردناه بسلامة طوية وحسن نية، فالعنوان تقنية صحافية لها قواعدها التي تُدرس في معاهد الصحافة.. من العنوان الإخباري إلى العنوان الفني/ التشويقي.. إذ قد يكون العنوان مجرد مبتدأ والمقال خبره، وقد يشتمل على جزء من النص أو قد يكون مجرد إيحاء استيعاري له أثر في المقال.. ولا يمكن الوقوف بأية حال عند العنوان لمحاكمة المقال أو اختزال الثاني في الأول. في أحد العناوين الفنية التي يُستشهد بها في جمالية العنوان، كتب صحافي ب "الاتحاد الاشتراكي": "الحاجة الحمداوية في السجن"، إنه عنوان مثير يحطم أفق انتظار القارئ، لأنه لا يقصد حَبْس الفنانة الكبيرة، وهو المعنى القريب لذهن القارئ وإنَّما يقصد إحياءها لسهرة فنية لفائدة السجناء. إن الوقوف عند القراءة الحرفية للعنوان هو أشبه بالوقوف في الآية الكريمة عند "ويل للمصلين"، العنوان مجرد قلادة نضعها على عنق النص.. تتذكرون – السيد الرئيس – بعض عناوين المحلات التجارية: "جزار الشعب"، "مطحنة الرحمة"، "مخبزة المسيرة" و"معصرة الأحبة".. العنوان هنا لا يُحيل على مضمون المهنة، بل الخدمة أو المنتوج الذي تقدمه هذه المحلات هو الذي يعطيها مضموناً وهوية! هويتان صحافيتان: النعمة والنقمة هناك اختياران في الصحافة على المستوى الكوني: اختيار طريق الأخبار الملساء التي تشبه خطابات الجنائز والتواطؤ مع من يمتلك المعلومة لحجبها على الناس، وهناك اختيار الصحافة التي تبني وتشكل إضافة نوعية من خلال المساهمة في مد الناس بالمعلومات وإعطائهم نصيبهم من المعلومة، لأن من يمتلك المعلومة يمتلك السلطة.. وقد وجدت نفسي – السيد الرئيس – منذ نشأتي الصحافية المتواضعة متورطاً بقوة الأشياء في صحُف النقمة، لكن احترازي المهني واحتكامي لأخلاق الصحافة هو الذي جعلني طيلة 17 سنة من عمر ممارستي لمهنة النبل، لا أقف إلا مرتين في قفص الاتهام، في كلتي الحالتين: الدافع سياسي وراء المحاكمة! نحن أمام دستور جديد، يدفع بنا نحو التأويل الديمقراطي لباقي النصوص السابقة عليه، ولأن هذا الدستُور أكد على سمو المواثيق الدولية وعلى حق المغاربة في الإعلام والولوج الحر إلى المعلومات، فإني لم أعمل سوى على تعميم ما تداوله زعماء الأحزاب السياسية في ملف الولاة والعمال وشُبهة حيادهم السلبي لصالح حزب سياسي بعينه، احتماء بمنطوق الفصل 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حول الحق في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة وفي أي قالب دون مراعاة للحدود الجغرافية، ومروراً بإعلان "ويندهوك" بناميبيا في ماي 91 وإعلان "أَلْما آتا" في أكتوبر 92، الذي ركز على كيفية التحول الديمقراطي ودور الصحافة. يقول القاضي الأمريكي "أوغوبلاك": "لا يمكن العيش بحرية في دولة حين يُحتمل أن يُعاني مواطنوها جسديا أو ماديا إذا انتقدوا حكوماتهم أو أعمالها أو مسؤولياتها"، هل فعلنا غير ذلك؟! السيد الرئيس المحترم: نحن أمام دستور يُقر بسمو المواثيق الدولية، وبحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا. أتمنى أن يتسع خاطر محكمتكم الموقرة لأعرض أمامكم مفهوم الحق في حرية التعبير كما فسرته المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان على اعتبار أنه: "لا يهم فقط الأخبار والأفكار التي يمكن تلقيها بارتياح" أو بصفتها غير مؤذية أو لا مبالية، بل أيضا تلك الأفكار التي تؤذي وتصدم وتقلق، هذا ما تريده التعددية والتسامح وروح التفتح التي بدونها لا وجود لمجتمع ديمقراطي". ماذا فعلت "المشعل" السيد الرئيس؟ أثارت قضية كانت محط اهتمام الرأي العام، تداولتها مختلف وسائل الإعلام، المكتوب منها، الرقمي، المسموع والمرئي، وقد كان رأي المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في القضايا السياسية التي تكون محط تداول عام، أنه لا يقع عبء إثبات صحة الوقائع على الصحافي حين يكون ما كتبه مبنيا على أمور يتداولها الرأي العام، خاصة إذا تعلق الأمر بالسلطات العمومية، على اعتبار أن المؤسسات العامة -كما في العديد من الديمقراطيات- كيانات مجردة لا تبغي الربح وليس لها مصلحة عاطفية أو مالية في الوقاية من الضرر الذي يمكن أن يلحق سمعتها، وهي التي تملك وسائل الرد على حملات النقد بإصدار بيان عام مضاد، كما أن النقاش حول المسؤولين العموميين فيه خدمة للمصلحة العامة، وأنه كلما علا شأن المسؤول العام أو المؤسسات العمومية كلما وجب أن يتسع قلبها لتقبل النقد. والحكمة من هذا الاجتهاد القضائي مبنية على حسن النية، ما دام أن الصحافي أثار قضايا تهم الصالح العام وخدمة المصلحة العامة مهما كانت قساوة اللغة المستعملة التي تفاديناها، لأننا كنا نزن كلامنا بميزان من ذهب.. تحدثنا عن عمال وولاة "وُجِّهت لهم تُهمة عدم الحياد الإيجابي أثناء العمليات الانتخابية" و"عن عمال وولاة يُشتبهُ في تدخلهم في الانتخابات الأخيرة وما رافقها من تشكيل المكاتب المحلية والجهوية للجماعات المحلية"، وقد كان تعليل المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان للقضايا التي تناولها الصحافي وكانت محط اهتمام الناس، هو أن معاقبة صحافي في قضايا تهم الرأي العام سيردع الناس عن المناقشة الحرة لمواضيع ذات أهمية عامة، وبالتالي فهو فعل لا يتناسب فيه الهدف المشروع المتبع لحماية سمعة وزارة الداخلية مع إفادة الجمهور الواسع، ويُعد غير ضروري في مجتمع ديمقراطي. (انظر عبد العزيز النويضي: "الحق في التنمية بين القانون الدولي والعلاقات الدولية"). صرح لي السيد محمد بوستة، وهو رجل حكيم خبر دهاليز السياسة، في استجواب نشرته على العموم: "إن معضلة المغرب حتى اليوم، هي تزوير الانتخابات"... هل يمكن أن نخفي هذه الحقيقة وعمَّن؟ نحن نعرف خرُّوب بلادنا وخرابها، كما قال الزميل عبد الحميد جماهري.. وتأملوا معي السيد الرئيس هذه المتاهة: عام 1992، الملك الراحل يقول: "حرمت على نفسي وعلى إدارتي التدخل في الانتخابات". وتبين للكل أن نتائج انتخابات 25 يونيو و17 شتنبر 92 تعرضت للتزوير الفاضح، وفي عام 1996 سنة القرارات الكبرى، قال المرحوم الحسن الثاني:"سأنزل بكل ثقلي لضمان نزاهة الانتخابات".. واكتشف العموم التزوير السافر للإرادة الشعبية، وها نحن في 20 غشت 2011، الملك محمد السادس يتوجه إلى طرف أساسي ضمن أضلاع المثلث المسؤول عن شفافية نتائج الاقتراع، وهو الإدارة الترابية التي التمس منها جلالته: "التقيد الصارم بالقانون وتفعيل آليات تخليق العمل السياسي والبرلماني وتوفير شروط المنافسة الانتخابية الحرة والالتزام بالمساواة بين مختلف الأحزاب وبالحياد الإيجابي".. إنه ذات الشيء الذي لفتنا إليه الانتباه، اعتبرنا أن المغرب يدخل مرحلة سياسية انتقالية.. وهناك تطلع لأن تمر الانتخابات الحاسمة في أجواء سليمة لا تشوبها شائبة، وأن تعميم ما صرح به زعماء حزبيون هو بمثابة حِمَاية لاستحقاقات مصيرية خوفاً من أن تعود حليمة إلى عاداتها القديمة، وهو هم مشترك بين رئيس الدولة وأبسط مواطن مغربي، لذلك فإن ضرر حجب المعلومة هنا -مهما بدت ناقصة- أخطر من نشرها، لأنها تصب في المصلحة العامة. السيد الرئيس المحترم: في أواسط أبريل 2009، قال فؤاد عالي الهمة في لقاء حزبي بورزازات: "إن هناك بعض الولاة والعمال يتآمرون على حزب الأصالة والمعاصرة" ويشهرون به ويضربونه باستعمال وسائل وآليات الدولة، بل إن الوزير الذي تقلد منصب المسؤول الرئيسي بوزارة الداخلية قال: "إن الداخلية التي كنت أعرف لم تعد هي نفسها"، واعتبر أن ولاة وعمال يشجعون بعض المفسدين ضد مرشحي حزب الأصالة والمعاصرة.. ماذا فعل، السيد الرئيس، قادة وزعماء الأحزاب الوازنة غير ما قاله فؤاد عالي الهمة.. ولا أحد طالبهُ والجرائد التي نشرت الخبر بالدليل والحجة.. فيما نعلم الذئب إما حرام أو حلال! حول "العلنية" كُركن مادي في جرائم الصحافة السيد الرئيس: في جل جنح وجرائم الصحافة يعتبر النشر ركنا ماديا لجرائم الصحافة، أي النشر والعلنية.. لقد أثبتنا من خلال الدلائل والحجج المتوفرة لديكم أننا قمنا بتناول موضوع سيطر على الساحة الإعلامية وكان محط اهتمام الرأي العام، وسبق لأكثر من وسيلة إعلام مكتوب وسمعي وبصري... أن تداول موضوع الولاة والعمال وعلاقتهم المحتملة بحزب الأصالة والمعاصرة، بما يعني أن شرط "العلنية" سابق في الوجود على نشرنا للمقال الذي نحاكم بسببه اليوم، وأكثر من هذا فإن حجم الضرر الناتج عن وسائل إعلام عمومية أكثر انتشارا منا بمئات الأضعاف يعتبر سابقا عن نشرنا له في جريدة لا تطبع أكثر من 25 ألف نسخة قياساً إلى قنوات إعلامية يشاهدها الملايين من المغاربة، ومن جهة أخرى فإن الفصل 42 الذي نحاكم به إضافة إلى الفقرة الأخيرة من الفصل 55 تعتبر استثناء في قانون الصحافة، فيما يرتبط بشرط العلنية كركن مادي في جرائم النشر، إذ في جميع جرائم الصحافة يعتبر النشر وحده متضمنا لسوء القصد (كما في جرائم القذف وتشويه السمعة والسب والتشهير..) لكن المشرع استثنى الفصل 42 الذي نحاكم به ولم يعتبر تعميم الخبر ونشره بين الناس وحده دليلا على سوء نية مسبقة، بل اشترط المشرع أن يكون النشر مقترناً بسوء النية. جرائم الأخبار الزائفة في اللغة، تحدد القواميس مفهوم الزائف في المغشوش، المزور، المصطنع، الرديء والتقليد قصد الغش.. ومنه تزييف العملة وتزييف الذهب، أو تزييف هوية أو وثيقة.. في "لسان العرب" لابن منظور: يقال زافت عليه دراهمه أي صارت مردودة لغش فيها، وقال امرئ القيس: "وفي القوم زيف مثل زيف الدراهم"، وفي اللغة القانونية، يقول الباحث المصري عماد النجار في كتابه "الوسيط في تشريعات الصحافة" (ص225): "الخبر الكاذب هو الخبر الذي لا يطابق الحقيقة كلها أو جزء منها سواء عن طريق الحذف أو الإضافة أو غير ذلك من الوسائل التي تناقض الحقيقة في صورة من صورها.." على هذا يغدو مزيف الأخبار هو من قال شيئا باطلا غير صحيح، ففي عبارة: "الأخبار الزائفة"، الصفة هنا تابعة للمنعوت، مسندة إلى مسند إليه، فالزائفة كصفة مجرد محمول لا تقوم خارج الموضوع، والموضوع في حالتنا هنا هو قولنا إن زعماء وقياديين سياسيين وجهوا تهما لولاة وعمال بعدم حيادهم الإداري وخدمتهم لأجندة حزب سياسي.. وما دام أن المحمول لا يُفسر إلا بغيره، لأنه يحتاج دوماً إلى ما يتكئ عليه لأنه، فالزيف هنا ليس مسنداً إلى واقعة اتهامي أنا لعمال وولاة بعدم الحياد الإيجابي، لست سلطة اتهام وبالنسبة لي السيد الرئيس، من الناحية المهنية والأخلاق الدينية، أربأ بنفسي أن أكون في وضع الفاسق الذي يأتي بنبإ باطل لأصيب الناس بضلالة، وأميل إلى من قال عنه الرسول (صلى الله عليه وسلم): "دعوه فإن لصاحب الحق مقالا". وبالنسبة للمشرع المغربي، فقد اشترط في جريمة "الأخبار الزائفة" وجود ثلاثة عناصر أساسية: 1- عدم صحة الخبر 2- سوء نية الصحفي (أي علمهُ المسبق بزيف الأخبار قبل نشرها) 3- ترتيب الآثار المتمثل في الإخلال بالنظام العام وإثارة الفزع بين الناس. I عدم صحة الخبر: أي الأخبار التي بدت زائفة في مقالنا، هل هي إجماع الأحزاب الأساسية بالمغرب على توجيه شُبهة عدم الحياد الإداري للعديد من العمال وتدخلهم لفائدة حزب الأصالة والمعاصرة؟ لقد أفرز سياق المناقشة خلال أطوار المحاكمة، السيد الرئيس، أن هناك منطقين في تفسير مفهوم الخبر الزائف أو في مجال إثبات صحة الخبر في واقعتنا هاته: 1: منطق دفاعنا الذي نعتبره منسجما مع التأويل الديمقراطي لحقوق الإنسان وضمنها حرية التعبير وعلى رأسها حرية الصحافة، وهي أننا كصحيفة تناولنا قضية تهم مصلحة المجتمع وتهم مستقبل المغرب في سياق دستور جديد، وفي إطار التهييء يومها لانتخابات مصيرية في تاريخ المغرب.. ماذا فعلنا كصحفيين؟! اشتغلنا على تصريحات لزعماء حزبيين ولقياديين سياسيين وازنين، قالوا وجهة نظرهم في عمال وولاة في علاقتهم بحزب سياسي، قالوا كلاماً نُقل في جرائدهم الحزبية أو في جرائد وطنية مستقلة، وأُذيع في وسائل الإعلام العمومي، وتردد في مهرجانات عمومية، وهو ما يُبَرِّرُ أننا أَدْلَيْنَا لمحكمتكم الموقرة بوثائق سابقة وتالية لتناول جريدتنا للموضوع، بما يعني أن الأمر كان محط اهتمام الرأي العام ومتداول في الساحة العامة وليس في الصالونات الضيقة، والكلام الذي نقلناه لم يكن صادرا عن أيها الناس أو عن أفراد عاديين ولم ننقله عن الصالونات ونميمات المقاهي، بل عن مسؤولين وازنين في أحزاب مؤثرة، وبعضهم يحمل مسؤوليات حكومية ودبلوماسية وآخرون مؤهلون لأن يكونوا رؤساء حكومات قادمة، وقد ظلوا متشبثين بتصريحاتهم وأعادوها في أكثر من مناسبة.. وبحكم أن وظيفة الصحافة هي أن تكون مرآة لما يُعتمل في المجتمع، فالمطلوب منا في هذه المحكمة الموقرة أن نُثبت صحة المَقول لا صحة الوقائع، مطلوب منا أن نقدم أمامكم السيد الرئيس حججا ترتبط بأننا لم نحرف كلام هؤلاء القادة، لا بزيادة ولا بنقصان حتى يمكن القول بأننا نشرنا أخباراً زائفة، إذ نحن لم نختلق وقائع ولم ندع أخباراً غير صحيحة، ولا أسندنا كلاماً لغير قائله.. ما هي وظيفة الصحافة؟ إنها وسيط بين الفاعلين منتجي المعلومات والرأي العام، أي نقل الأخبار والمعلومات بصفة أمينة.. الصحافي يشبه القابلة، فهو مولد أفكار وأخبار من منتجيها ومعممها على الناس بدل سلطة الكتمان، وإذا كانت القابلة غير مسؤولة عن جنس المولود ولا عن وزنه أو أي حسن أو تشوه خلقي فيه فكذلك الصحافي، من هنا نصر على أن عبء الإثبات لا يقع علينا كناقلين للخبر. 2- المنطق الثاني: وهو الذي راج في هذه المحكمة الموقرة، والذي مفاده أن الصحافة يجب ألا تنشر أي خبر إلا حين توفرها على الإثبات المادي على صحة الوقائع، وحتى حين تلتقط تصريحات الفاعلين السياسيين وفي مجال رسمي كالبرلمان، فعلى الصحافي أن يسائل المستجوب عما لديه من إثباتات، وإذا لم يحصل بين يديه على الحجج المادية فعليه أن يحجم عن نشر تصريح الفاعل السياسي، وهذا معناه أنني كصحافي حين سأذهب إلى البرلمان وأنصت إلى قيادي على رأس حزب سياسي كبير يقول كلاماً خطيراً في البرلمان وأمام أعضاء الحكومة، علي ليس فقط أن أبقى مخلصاً لمضمون ما قاله هذا البرلماني بل علي أن أتوفر على الإثبات المادي، وإلا فإنني سأُتابع بالفصل 42 من قانون الصحافة فيما لن تحرك النيابة العامة ذات المسطرة أمام البرلماني أو العضو القيادي في حزب ما.. أليست هذه آلية خطيرة لحجب المعلومات عن الناس، وللجم حرية التعبير؟ تصوروا معي السيد الرئيس، ما حدث في نهاية التسعينيات، عندما خرج معتقلو تازمامارت من الجحيم، الراحل الرايس، أعكاو، الوافي، بنبين.. وأخذوا يحكون مآسيهم الدامية للصحافة، فوفق هذا التفسير الثاني الضيق لحرية التعبير، فإنه كان يجب أن تُتابع الصحافة على ما نشرته من تصريحات للناجين من جحيم المعتقل الهاديسي والذين حكوا فيه عن الذين ماتوا قهراً وعن الأوضاع اللاإنسانية التي وُجدوا فيها، وكان على الصحافي عبد الحميد اجماهري الذي أسدى خدمة جليلة للذاكرة المغربية بترجمة مذكرات الرايس أن يطلب من الراحل الرايس أن يمده بالوثائق والحجج، ودلائل ثبوتية حول مكان دفنهم... ألا يعتبر ناج من الجحيم، حجة إثبات؟ من المستفيد من وضع مثل هذا الحرية أم الاستبداد؟ ووفق هذا المنطق، الذي يبحث دوماً على الحجج ودلائل الإثبات في كل التفاصيل، فإنه لن يكون هناك أي معنى لمفهوم السبق الصحافي، الذي لا يعني في هذه الحالة سوى المحاكمة والسجن، وتغدو بيانات الأحزاب السياسية، التي اعتمدنا عليها بشكل كبير في مقالنا، بلا معنى، إذا لم تُرفق بأي إثباتات أو دلائل يجب أن تكون بين يدي الصحافي قبل نشر البيان، معناه أيضا ممنوع علي نشر تقرير لجنة برلمانية لتقصي الحقائق أو تقرير دولي لمؤسسة وازنة لأني لا أتوفر على الحجج والأدلة المادية.. هل هذا هو التأويل الديمقراطي لمبدأ حرية الصحافة والحق في ولوج المعلومات؟ ليس عليَّ سوى انتظار ما ستنشره وكالة المغرب العربي للأنباء وتصريحات الناطق الرسمي للحكومة.. هل هذه هي صاحبة الجلالة؟! إن الإشكال الأساسي – السيد الرئيس – هو في نشر لائحة بأسماء محددة من مسؤولي الإدارة الترابية، وهنا الكلام حمَّال أوجه، هل هذا الإسم معني أم غير معني، درجة الصحة والخطأ فيما صرح به الزعماء، وهنا نجد أنفسنا الركن الثاني المرتبط بجريمة الصحافة كما وردت في الفصل 42 الذي نتابع به. II/ حسن النية ليس حصان طروادة من صُلب احترام الصحافي لمهنته احترام الحقيقة وعدم تزييف الوقائع أو تحريف الأحداث.. لقد نصَّ إعلان ميونيخ، الذي يحدد حقوق وواجبات الصحافيين، على أن يحترم الصحافي الواجبات المترتبة عن ممارسة مهنته.. لكن بحكم أن الصحافة مهنة إنسانية، مشوبة بالنقص كأي عمل إنساني (الجزار مَرَّة مرَّة تيضرب صبعو)، فإن إعلان ميونيخ أكد على مبدأ حسن النية في المجال الصحافي، وهو مبدأ لا علاقة له بالمفهوم الأخلاقي لحسن النية حيث أن طريق جهنم مفروش بالنيات الحسنة، ولا أعرف إن كان يتقاطع في بعض الأوجه مع مفهوم القصد القانوني (القصد الجنائي الخاص)، حيث يُشترط أن يعلم الجاني بنتائج الفعل الإجرامي ويسعى إليه بإرادة (توافر عنصري العلم والإرادة). إذا كانت الأشياء تُعرف بضدها، فإن سوء النية في الصحافة مرتبط ليس بما وقر في الصدور مما لا يعلمه إلا الله، ولكن بعناصر يمكن تبينها بشكل ملموس في الواقع، وهي ثلاثة: 1- العلم المسبق بزيف الوقائع والأخبار الكاذبة قبل نشرها. 2- المعرفة المسبقة بتأثيرها على الناس، وعلى النظام العام أو الصحة أو الآداب العامة (الصحافي له النية في إحداث الأضرار). 3- حدوث أضرار ملموسة كنتيجة للنشر. تبعا لذلك يُعَرف حسن النية في أخلاقيات المهنة في ارتباط بأوضاع وشروط ممارسة مهنة المتاعب داخل سياق مجتمعي معين، ويعرف الفقهاء حسن النية في هذا المقام بكونه "موقفا أو حالة يوجد فيها الصحافي تشوه حكمه على الأمور رغم تقديره لها تقديراً كافيا أو اعتماده في تصرفه على أسس معقولة". كل صحافي بل كل "متهم بشكل عام"، يمكن أن يدعي أنه كان يتوفر على حسن النية، لكن أخلاقيات المهنة حددت معايير خاصة، كلها تتوفر في مقالنا، فيما يرتبط بالمعلومات التي يمكن أن تراها محكمتكم الموقرة ناقصة وفي الأخبار التي ترون، السيد الرئيس، أننا لا نملك الدليل الكافي عليها، منها: 1- عدم معرفة الصحافي بزيف ما نشر، وتدارك أخباره بالتصحيح والتصويب ونشر حق الرد مع التوضيح والاعتذار.. وهنا نتوفر بشكل ملموس على أكثر من دليل على حسن نيتنا، ففي ذات العدد الذي ورد به المقال الذي نتابع بسببه، نشرنا في (ص4) تصويبا واعتذاراً الوزير السيد أحمد التوفيق نتيجة لُبْس في الأسماء، وفي ذات العدد والصفحة نفسها كتبت عموداً بعنوان "كي لا تضر حقوق بحقوق".. أنا أعي -السيد الرئيس- أن حقي في حرية التعبير لا يسمح لي بمس حقوق الآخرين. لا تعتبروا أن نشر حق الرد والتصويب والاعتذار أمر سهل على مسؤولي التحرير إنه أشبه بلحظة الجحيم، فنحن كصحافيين متشدّدُون على أنفسنا قبل أن نصل إلى القضاء، لدينا ما يكفي، في حدود الطاقة البشرية، أن نميز بين الخطأ والصواب قبل النشر، وكلما أحسسنا بخطئنا عالجناه بفضيلة التصويب والاعتذار، ولعل هذا هو مضمون البيان الذي عممه زميلي شحتان بعد استدعائنا في الموضوع، والذي يجسد تحلينا بفضيلة الاعتذار عن الخطأ وتدارك النقص بالتصويب. 2- أن يكون الخبر المنشور مناسباً للحجم الذي أعطي له، وألا يتدخل الصحافي بإضافة الأوصاف والنعوت التي تهول الأمر وتبالغ في أثره (أي الالتزام بحدود الخبر). 3- غياب حالة العَوْد في نفس الواقعة، أي الرجوع إلى ذات الموضوع أكثر من مرة بدون إضافات إخبارية مما يدل على غياب حسن النية، فحسن النية هنا يتمثل في السلوك الموضوعي والحذر الكبير للمسؤول عن النشر ولكاتب المقال. 4- اختيار مناسبة النشر بشكل كَيْدي يمكن أن يسيء إلى شخص أو هيئة أو مؤسسة و تخدم جهة دون أخرى. 5- وجود خلفية ارتشاء عبر مقالات مؤدى عنها، لتصفية الحساب مع جهة على حساب أخرى. III/ ترتيب الآثار الناتجة عن نشر الأخبار الزائفة: (الإخلال بالنظام العام وإثارة الفزع بين الناس) حين نتكلم -السيد الرئيس- عن الإخلال بالنظام العام وإثارة الفزع بين الناس، فنحن نتكلم عن النتيجة أو الأثر في المدى العام، أي ذلك التغير الملموس -وليس المفترض- في العالم الخارجي كأثر للنشاط الإجرامي الذي يمس المؤسسات والمواطنين نتيجة نشر الأخبار الزائفة، والمدلول القانوني للنتيجة بسبب نشر مقال ما ليس إلا التكييف القانوني للآثار الناتجة عن نشر المقال، وهنا عبء إثبات حصول إخلال بالنظام وإثارة الفزع بين الناس يقع على المدعي لا على المدعى عليه كما تعْلمون أحسن مني. 1- الإخلال بالنظام العام: في التعريفين الفرنسي أو الإنجليزي، أو ما يسمى بتعريف النظام العام بالسلب أو تعريفه بالإيجاب، يبدو أن الفصل 42 غير مناسب البتة في القضية موضوع المقال الذي نتابع بسببه اليوم. فالمفهوم الأنجلو ساكسوني للنظام العام يتحدد بغياب القلائل، والتعريف الفرنسي يُحدد النظام العام بكونه مجموع القواعد الأساسية التي يقوم عليها المجتمع والتي لا يجوز مخالفتها أو خرقها.. وقد تقدم الاجتهاد الفقهي اليوم، حيث أصبح احترام حقوق الإنسان وضمنها حرية التعبير والرأي جزءا أساسيا من النظام العام الذي يتضمن في عناصره الأساسية: الأمن العام، الصحة العامة، السكينة العامة، الآداب أو الأخلاق العامة، جمال الرونق والرواء.. إن الفصل 42 لا يتحدث عما من شأنه الإخلال بالنظام العام كما كان عليه الأمر في القانون السابق، على شاكلة ظهير 35 السيئ الذكر، فالفصل المذكور يتحدث عن الأثر المادي العيني لا المفترض لمبدأ الإخلال بالنظام العام، لقد مرت أكثر من ستة شهور على نشر المقال، والمغرب بلد مستقر، ومؤسساته تدور عجلتها بشكل عاد، ها هي الانتخابات مرت بشكل سليم وإدارة الداخلية هي من أشرفت عليها وضمنها العمال والولاة المذكورون في مقالنا، لم تتوقف الحياة الإدارية في العمالات 18 ..التي وردت في مقالنا، ولم يشن المواطنون عصياناً مدنيا ولا كفوا عن أخذ وثائقهم من العمال والولاة الذين ذكرناهم، فأين هو الإخلال بالنظام العام؟! 2- إثارة الفزع بين الناس: لم نسمع – السيد الرئيس – بأن رجال أعمال فروا إلى الخارج بعد نشر مقالنا، ولا المواطنون هبوا فزعين إلى الأسواق للتبضع خشية أن يقع مكروه، ولا أغلق الناس بيوتهم وأضربوا عن التعامل مع العمالات 18، بعد نشر مقالنا يوم 27 يوليوز حتى اليوم، فإن الفلاح استمر في الذهاب إلى حقله والعامل إلى معمله، والموظف الإداري التحق بمقر عمله في ذات العمالات 18 والمواطن استمر في أخذ شواهده من مسؤولي ذات الإدارات الترابية التي وردت في مقالنا! نحن نرى في هذا الباب أن ضرر نشر المعلومات وإذاعتها بين الناس حتى ولو كانت ناقصة وتحتاج إلى التصويب والتقويم أخف من حجبها في ظل دستور يؤكد حق الناس في الوصول إلى المعلومات. صدقوني، السيد الرئيس، حتى وأنا أقف الآن في قفص الاتهام أمام محكمتكم الموقرة، لا أعتبر العدالة خصماً للصحافة، وما نتداوله في هذه القاعة اليوم يهم مستقبل الصحافة بالمغرب الذي نريده جميعا، فلا مراتب تفاضلية بيننا في حب هذا الوطن، أنتم وسلطة الاتهام وهيئة الدفاع ونحن وهؤلاء الحاضرون فضولا أو اهتماماً، ولا يمكن أن يُزايد أحد على غيره في إرادة الخير لهذا البلد.. ما سند الصحافي الحر؟ هل هو السلطة التنفيذية أم هو السلطة التشريعية؟ أبدا، إنه السلطة القضائية، فهي تحمي الصحافي من نفسه وانحرافاته الممكنة وتساعد على الحفاظ على نبل المهنة، والعدالة بدورها تستفيد من الصحافة، إما عبر الانتقاد الموجه لقطاع العدل أو الدفاع عن استقلالية القضاء وحماية مهنة شريفة من سلطة الجهاز التنفيذي ومن المفسدين الذين يسيئون لصورتها لدى المتقاضين وعموم الناس.. السيد الرئيس، كنت ولا أزال ممن يدافعون عن أن يكون لنا بالمغرب ليس سيف العدالة، أمْقت هذه الكلمة، بل تاج العدالة، على اعتبار أن العدل أساس الملك، وحين طرحتم علنا أنا وزميلي أسئلة دقيقة، عدت إلى عشرات المراجع الوطنية والدولية في تشريعات الصحافة وأخلاقيات المهنة، اتصلت بباحثين كبار مغاربة وأجانب، في النقابة الوطنية للصحافة وفيدرالية الناشرين والفدرالية المغربية للإعلام وأساتذة باحثين في المعهد العالي للإعلام والاتصال.. ليس لمساندتنا في محنة بل كنت أستفسرهم عن إيجاد أجوبة لأسئلة عميقة وردت من طرفكم السيد الرئيس أو من طرف السيد ممثل النيابة العامة أو من خلال مرافعات عميقة لهيئة الدفاع التي تؤازرننا، قصد تصحيح معلوماتي لأقويها أو أقوم اعوجاجها بما يفيد تطوير المهنة، إذ لست ممن يريدون دفع السكين عن وريدهم ولا يهمهم إن وضع على رقبة المهنة أو على وريد الوطن! السيد الرئيس: كان الراحل محمد الماغوط يقول: "ليس الموت هو الخسارة الكبرى، بل الخسارة الكبرى هي ما نفقده ونحن أحياء".. فالحكم الصادر عن محكمتكم الموقرة هو الذي من شأنه أن ينقذنا من الخسارة الكبرى وألا تموت فينا أشياء كبيرة ونحن أحياء، وماذا لدينا غير حب المهنة وحب هذا الوطن الذي نكسو أديمه، فيحرمنا حتى رضاه ويمنع! لذلك نتمنى أن يكون حكمكم في نازلتنا قلادة تُزين عنق جسد العهد الجديد لا قيداً يُكَبِّل حرية الصحافة، إذ نعتبر أن ضرر إلجام أقلامنا وفرض رقابة ذاتية على تفكيرنا لن يُقوِّي مهنة الصحافة ولا يخدم مصلحة اجتماعية ملحة.. اجعلوا حكمكم في قضيتنا هاته، قلادة لا قيداً في عنق هذا المغرب الذين نريده أن يستحقنا ونستحقه.. نحن في قاعة سبعة، ولرقم سبعة دلالات عميقة.. أسطورية، سحرية ودينية، من سبعة رجال إلى سبعة أيام حتى "سبع مواج"، وحيث أن الله خلق العالم في ستة أيام واستوى على العرش في اليوم السابع.. نريد أن يذكر التاريخ، هذه القاعة رقم 7، ضمن السبع سنابل اليانعات والسبع بقرات السمان، لا ضمن السبع بقرات العجاف والسبع السنابل اليابسات.. ولمحكمتكم الموقرة واسع النظر.