عندما قرر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس فهو بخطوته تلك وفر كل عناصر اشتعال الوضع، وأقام حاجزا سميكا غير مسبوق في التاريخ أمام عملية السلام الموءودة والمشلولة. ورغم خطورة القرار ودلالته المستفزة وحمولته الباعثة على القلق، فإنه تمادى في تدمير فرص السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، عبر السعي بكل الوسائل إلى خنق وتفكيك منظمة "الأونروا" التي شكلت على مدى عقود ملاذا للاجئين الفلسطينيين في الداخل وفي عدد من دول الجوار، ومثلت لدى سكان المخيمات الأداة الوحيدة للحصول على المعرفة والتربية. غير أن موقف "ترامب" بتجميد مساهمة بلاده في تمويل "الأونروا" شكل إجهاضا لأحلام عدد كبير من أطفال وشباب المخيمات. وإذا أضفنا إلى هذا الكم الهائل من المواقف السلبية والمعيقة للتعايش والتفاهم والتفاوض البناء والفعال قرار الإدارة الأمريكية إغلاق ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وإضفاء الشرعية على سياسة الاستيطان والضم، فإن الخلاصة المنطقية التي يمكن الخروج بها هي أن السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" تعتبر عاملا أساسيا في تكريس حالة عدم الاستقرار والاضطراب، وعائقا كبيرا أمام أي محاولة لتسوية نزاعات الشرق الأوسط وتهديدا للنظام العالمي. فقرار نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس تزامن مع إحياء الفلسطينيين ذكرى النكبة التي أعقبت قيام دولة إسرائيل عام 1948، عندما هدمت العصابات الصهيونية المتطرفة القرى والبيارات الفلسطينية بشكل كامل ومروع وأرغمت مئات الآلاف على الهجرة. وهذا التزامن لم يكن اعتباطيا، بل أراد أن ينقل إلى العالم رسالة مفادها أن الإدارة الأمريكية تعتبر قيام دولة إسرائيل على أنقاض ما ارتكبته من جرائم، وما اقترفته من مجازر جماعية وما دمرته وما أحرقته من قرى وبلدات، هو حق مشروع وتاريخي للشعب اليهودي، وأن هذه الدولة قامت لتنشر قيم الديمقراطية والتقدم والسلام وسط صحراء من التخلف وأعداء التقدم. ويعد هذا انحيازا تاما لإسرائيل ودفاعا مستميتا عن أخطائها، وسياستها القمعية الاستئصالية تجاه الفلسطينيين. ومعروف أن الإدارة الأمريكية وقفت ومازالت تقف بالمرصاد في وجه أي لجنة تقصي حقائق والتحقيق في هذه الجرائم. إن الإيقاع الذي تسير بها السياسة الخارجية الأمريكية منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، خاصة بعد الكشف عن تفاصيل ما تسمى صفقة القرن، بحضور بنيامين ناتنياهو، يظهر أن الرئيس "ترامب" يسارع إلى الزج بالعالم في بحر من الفوضى لا ضفاف له. وفي منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت معادلا للاضطراب وعدم الاستقرار والحروب والنزاعات الناشبة في أكثر من بلد، أصبح الاختيار بين مطرقة السياسية الهجومية وغير المسؤولة للبيت الأبيض، أو سندان دبلوماسية الدول المضادة للديمقراطية من وجهة نظر أمريكية "إيران–تركيا–روسيا "، حيث الانتقام من التاريخ هنا له دلالة قوية، خاصة أنه تحركه خلفيات إيديولوجية، ومصالح إستراتجية، ورغبة جامحة في امتلاك العالم، والتحكم في تحديد مسارات ومآلاته. يحدث هذا بعد مرور أكثر من نصف قرن على هزيمة يونيو 1967، ومرور أزيد من ربع قرن على التوقيع على اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض برعاية الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلنتون". ورغم ضبابية والتباس نص اتفاق أوسلو، كان هناك أمل في انبثاق مرحلة جديدة، وعصر جديد في الشرق الأوسط، لكن بسرعة تبخرت الآمال بسبب تصلب إسرائيل وتشددها، وعدم حيادية الوسيط أو الراعي الأمريكي؛ ما أجل تطبيق اتفاق أوسلو، وتم تعديل المضمون وتكييفه وفق المقاصد والأهداف الإسرائيلية، التي أخذت اليوم بعدا موغلا في التصلب والتطرف والعجرفة والانقلاب على قرارات الأممالمتحدة ومقتضيات الشرعية الدولية. وتدل تركيبة الوفد التي حضرت حفل تدشين السفارة الأمريكية في القدس وقتئذ، والمكونة من رئيس “الكنيست” ورئيس بلدية الاحتلال في القدس ووزراء البيئة والتعليم والداخلية والعلوم والتكنولوجيا، تمسك مكونات الحكومة الإسرائيلية، وفي مقدمتها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالقدس الشرقية والغربية “عاصمة موحدة” لإسرائيل؛ علما أن إسرائيل وبدعم من الإدارة من الأمريكية سعت بكل الطرق إلى إسقاط ملف القدس واللاجئين من أي مفاوضات. إن الانزياح الخطير في السياسة الخارجية الأمريكية، ورفض الحكومة الإسرائيلية القبول بمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالجلاء عن كل الأراضي التي احتلها عام 1967 في مثل هذا الشهر، ورفضها الصريح حق اللاجئين في العودة، واعتبارها مدينة القدس بشطريها الشرقي والغربي عاصمة أبدية لكيانها، يعتبر بمثابة تفخيخ وعملية تفجير لما تبقى من أوهام السلام، ويحدث هذا في ظل وضع عربي مطبوع بالتفكك والتمزق والصراع والعجز السياسي والمؤسسي التام وانهيار كل المشاريع والأحلام التي راودت أجيالا كثيرة. الحكماء الأكثر واقعية وبراغمتية يرون أنه إذا كان مسلسل "أوسلو" قد أقبر كليا فإنه ليس هناك من خيار أو بديل سوى تعايش الدولتين؛ وهذا ما دفع المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد إلى القول وقتها "إن التنازلات من جانب واحد ومن طرف القيادة الفلسطينية لا تهيئ أرضية للسلام، بل على العكس من ذلك. علما أن السلام ضروري أكثر من أي وقت مضى، وأن النضال المشترك للشعبين هو ما سيمكن من بلورة حل للنزاع. جاء ذلك في مقال نشره في مجلة manière de voir N:54 -2000 بعنوان "خطر خضوع أبدي"، واعتبر فيه أن أوسلو صفت كل إنجازات وإيجابيات الانتفاضة. فمن دافع عن أوسلو علل ذلك بأنه ليس هناك خيارا آخر، لكون وصولهم إلى هذا الاتفاق دليل على أنهم رفضوا إمكانيات أخرى، معتبرا أن تقرير المصير ليس له من معنى سوى إذا قاد الفلسطينيين إلى الحرية والسيادة والعدالة، وليس إلى خضوع دائم لإسرائيل، علما أن عددا من المسؤولين الفلسطينيين حاولوا تقديم الاتفاق على أنه انتصار. الصورة مع شيخ فلسطيني في مدينة الخليل أبريل 2014 عام 1996، عندما كنت أنجز برنامجا وثائقيا بعنوان "فلسطين من الثورة إلى الدولة"، لفائدة القناة الثانية المغربية، التقيت بعدد من القيادات والمسؤولين الفلسطينيين، ومن بينهم الراحل حيدر عبد الشافي رئيس الوفد الفلسطيني إلى مدريد، استقبلني بمستشفى المقاصد بقطاع غزة وصرح لي بما يلي: "كنت مستاء، ولا أدري لماذا بقينا خارج ما يجري خلف الستار.. هذا فيه انتهاك لمبادئ العمل. سأكون سعيدا لو استجاب الاتفاق لمتطلبات السلام، لكن لاحظت منذ البداية أن هذا الاتفاق سيء، فأبعدت نفسي. لم أشهد حفل التوقيع، ولا شاركت في أي من المفاوضات الأساسية بعد أوسلو"، وأضاف في اللقاء نفسه: "ما تم تحقيقه هو أقل بكثير مما كنا نأمل. قضية السلام تقتضي الاستجابة للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. بالنسبة لنا تعني الوصول إلى حقنا في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وحقوق اللاجئين، كما نصت عليها قرارات الأممالمتحدة. أنا لست متفائلا ولا تقدم حقيقي قد تم. إسرائيل تقيم الحقائق على الأرض لصالحها ولصالح المستوطنات رغم انسحابها من الأراضي المأهولة. إسرائيل هي التي أرادت تحديد صورة الوضع النهائي كما تريده هي". وفي السياق نفسه قال لي محمود الزهار، القيادي في حركة حماس، وكان آنذاك هو الناطق الرسمي باسم الحركة: "نحن نعتقد أن اتفاقية أوسلو "أ" و"ب" لم تأت بالحد الأدنى الذي ترغب فيه منظمة التحرير، وهي بالتأكيد لا تلبي احتياجات وموقف حركة حماس من قضية فلسطين. القبول بتجزئة اتفاق أوسلو وتطبيقه على الأرض إلى مراحل سيضر بمصلحة الشعب الفلسطيني". ولقد سبق ل"راموس عوس"، الروائي الإسرائيلي الراحل الذي كان ينتمي إلى معسكر الحمائم، أن اعترف في تصريح لإذاعة " بي. بي. سي" في شتنبر 1993 بأن اتفاق أوسلو هو "النصر الثاني الكبير للحركة الصهيونية عبر كل تاريخها". ما يلاحظه العديد من المهتمين بتطور القضية الفلسطينية أنه بعد كل هذه السنوات التي مرت على توقيع معاهدة أوسلو وغيرها من المعاهدات، فإن الانتفاضة الفلسطينية الأولى لم تكن إرهابا، بل مقاومة شعبية شاملة، ودفاعا مستميتا عن حقوق ثابتة وعادلة؛ وهي التي أرغمت إسرائيل على الانسحاب من عدد من المناطق. وفي وقت كان يحلم الفلسطينيون بدولة مستقلة، وذات سيادة وبمؤسسات ديمقراطية، وبوحدة وطنية قوية، وبعيش كريم بعيدا عن الإذلال والاحتقار والإهانة اليومية، فإنهم يصدمون بالواقع المر، كون إسرائيل لم تتوقف عن سياسة الاحتلال والضم والتهويد وبناء المستوطنات وترسيخ جدار الفصل العنصري، كعلامة جلية على مفهوم العقلية الإسرائيلية لعملية السلام والتعايش. فهي تتحكم في كل شيء، في الحدود وفي المعابر والبر والبحر والجو، والاقتصاد والصادرات والواردات، وعملتها "الشيكل" هي المتداولة، ونسبة كبيرة من العمال الفلسطينيين يشتغلون في المعامل الإسرائيلية، وهي التي تتصرف في المياه والطاقة، وبإمكانها أن تمنع أي مسؤول من السفر إلى الخارج، أو الدخول إلى أراضي السلطة الفلسطينية. وفي المقابل تصدعت الوحدة الوطنية الفلسطينية واستعرت الخلافات بشكل غير مسبوق واحتدم الصراع بين حركتي فتح وحماس، فاستثمرت إسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية بشكل براغماتي وانتهازي هذا الوضع، الذي نجم عنه انتشار اليأس والإحباط في المجتمع الفلسطيني، خاصة في محيط عربي مخرب وقاتم. وحتى الآن لم تدرك الفصائل الفلسطينية المتناحرة أنه حان الوقت لطي الصفحة السوداء لصراع عمر سنوات، وكان الخاسر الأول جراء ذلك القضية الفلسطينية والوحدة الوطنية. ولا نحتاج إلى تفكير إستراتيجي وفقه سياسي لاستنتاج هذه الحقيقة المرة. فالشيء المؤكد هو أنه كلما كبر وامتد الحلم الإسرائيلي، صغر وتقلص الحلم الفلسطيني. والمفارقة الغريبة عندما يدعو مخطط صفقة القرن على لسان "جاريد كوشنر"، صهر ومستشار الرئيس ترامب، إلى السلام والازدهار، وتحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جنة تجارية واعدة بالخير العميم والثروة الهائلة؛ علما أن هذه المناطق تعيش في حصار يومي، ولا إمكانية لها لمراقبة حدودها والتصرّف في مقدّراتها، ولا تتوفر على بنياتٍ تحتية تؤهلها لتلعب الدور الذي يتوخاه الحالم كوشنر، فمشروع ميناء غزة الذي وضع حجر أساسه في يناير 1996، بحضور الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الهولندي الراحل "فيم كوك" في يوم ماطر وعاصف، وكنت حاضرا في تلك المناسبة، لم يتحول إلى شريان اقتصادي، مع أن فرنسا وهولندا وألمانيا تكفلت بتمويله، بعد إنجاز الدراسات والتصاميم ودراسة العوامل البيئية، وتحديد المنطقة التي سيقام عليها المشروع. ولكن التحولات الدرامية التي عصفت بكل الأحلام، وسياسة القبضة الحديدية المستمرة التي طبقتها إسرائيل، والاعتداءات المتتالية التي أشعلتها على مراحل، ونشوب صراعات مأساوية بين حركتي فتح وحماس، كلها عوامل أجهضت كل المشاريع الضامنة لشيء من التحسن الاقتصادي. وينطبق الأمر نفسه على مطار غزة – رفح الدولي الذي أشرف على بنائه المكتب الوطني للمطارات في المغرب، وتولت بناءه شركة "المقاولون العرب"؛ فهذا المشروع الحيوي الذي كانت السلطة الوطنية الفلسطينية تراهن عليه، ليكون نافذتها على العالم، وشريانها الحيوي، أصبح أطلالا بفعل الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية. وأتذكر جيدا أنني عندما زرت هذا المطار، لمست جرعة عالية من الحماس والأمل لدى الفلسطينيين هناك. ومن وقف على إيقاع الأشغال وقتئذ، وكان قد أنجز جزء كبير منها، كان سيغشاه الشعور نفسه، ويصل إلى النتيجة نفسها. وقد قال لي ضيف الأخرس، الذي كان وقتئذ مستشارا اقتصاديا للرئيس الراحل ياسر عرفات: "إن مشروع هذا المطار الذي يمتد على 150 هكتارا ذو دلالة سيادية لفك الحصار المفروض على فلسطين". ربما يجهل كوشنر الحقائق، ويضع نصب عينيه أهدافا وحده يتخيل وقعها السحري الافتراضي على الفلسطينيين، بما في ذلك تحقيق ثورة غير مسبوقة في مجال الاتصال، على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي هو من يتحكم في كل الموجات والترددات والذبذبات في الأراضي المحتلة. وحتى لو افترضنا أن هذا الشاب يؤمن إيمانا راسخا بأنه ينوي إحداث انقلاب جذري في المنطقة، فهل نسي أن المستوطنات اليهودية سرقت مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية، ومنها التي توجد في محيط القدس الشرقية التي تتعرض يوميا للتهويد وسياسة القضم؟. ليس هناك أي شك في أن مخطط صفقة القرن المليء بالالتباسات يتحرّك خارج الواقع والوقائع، وخارج معطيات التاريخ ومحدّداته وإكراهاته، وخارج الجغرافيا وما تطرحه من تحدياتٍ حقيقية؛ ولكن يظهر أن هذا المخطط الذي سوّقته مؤسسات إعلامية عديدة، وحتى بعض الدول، هو من إملاء اليمين الإسرائيلي الذي يرفض أصلا مبدأ قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. وعندما منح الكنيست الإسرائيلي منتصف شهر ماي الماضي الثقة للحكومة الائتلافية برئاسة بنيامين نتنياهو والمكونة من الليكود وحزب أزرق أبيض وحزب العمل والأحزاب المتشددة، تعهد نتنياهو بضم المستوطنات اليهودية بالضفة الغربية وكتابة فصل جديد في تاريخ الصهيونية. وهذا ما جعل الفلسطينيين، سلطة وفصائل ومجتمعا ونخبا، يطعنون في صفقة القرن التي تلغي حلم وفكرة الدولة الفلسطينية من البداية، خصوصا أن مسالك حل النزاع واضحة تبدأ من القاعدة السياسية، وقد أنتجت بشأنها أدبيات ووثائق وقرارات وتوصيات أممية ذات قوة مرجعية ثابتة. مؤكد أن المخطط الأمريكي-الإسرائيلي الجديد هو خليط من الأفكار المفكّكة والمتنافرة، عدا عن أنها تغفل أن المفهوم الإسرائيلي للسلام وللتعايش هو العقبة الأساسية التي يصطدم بها أي مسعى نحو أي سلام أو ازدهار، ويحول دون ترجمة أي مشاريع حقيقية في هذا الخصوص على الأرض. كما أن المخطط نفسه يرفض، بشكل جذري، حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، ويرفض مبدأ الأرض مقابل السلام الذي شكل أساس كل مبادرات التسوية السابقة. *صحافي وكاتب