على الرغم من الوعد الشهير الذى أعلنه اللورد آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا، في عام 1917، والذى يعتبره الكثيرون مسؤولا عن الصراعات المستمرة منذ قرن بين الفلسطينيين وبين اليهود المتشددين، حيث تعهدت بريطانيا بمقتضاه بإقامة "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، سعت الإدارات الأمريكية، نظريا على الأقل، على مدار الخمسين عاما الماضية- على الرغم من مواقفها الموالية لإسرائيل - والتي وفرت الحماية لها من الانتقاد الدولي بسبب استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية، سعت إلى إيجاد حل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس قيام دولتين. ويعني هذا القيام إلى حد ما بكبح الميول الإسرائيلية في ما يتعلق ببناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية والتحرك نحو ضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية. ويقول الدكتور محمد أيوب، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ولاية ميتشجان الأمريكية، إن إدارة الرئيس دونالد ترامب تنصلت تماما من هذا التقليد واهتمت برغبات العناصر اليمينية واليهود المتشددين في إسرائيل. وفى يوم 6 دجنبر 2017، أعلن ترامب اعتراف الولاياتالمتحدةبالقدس عاصمة لإسرائيل، وأمر بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. وفي مارس عام 2019، اعترفت إدارة ترامب بضم إسرائيل إلى مرتفعات الجولان السورية. ويضيف أيوب، وهو أحد الكبار بمركز السياسة العالمية، في تقرير له بمجلة "ذا ناشونال انترست" الأمريكية، أن الإدارة الأمريكي انشغلت، على مدار العامين الماضيين، بالإعلان عن إعدادها لاتفاق نهائي لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى الأبد. وتولى إدارة هذا الجهد جاريد كوشنر، صهر ترامب وكبير مستشاريه. وفي يوم 18 يناير الماضي، تم إعلان خطة ترامب – كوشنر للسلام، وأفضل وصف لهذه الخطة هي أنها حققت حلم اللورد بلفور بمنح جانب كبير من الضفة الغربية لإسرائيل وضمان أنها ستكون في وضع مسيطر في ما يتعلق بالجزء الضئيل من الضفة الغربية الباقي تحت السيطرة الفلسطينية الاسمية. وقال أيوب إنه في الوقت الذي رحب فيه بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بالخطة بحرارة، رفضها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، حتى قبل إعلانها رسميا، وكذلك فعلت جميع الأطراف الفلسطينية؛ بما في ذلك حماس، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والجهاد الإسلامي، لأنهم توقعوا تفاصيل الخطة. وقد أوضحت الخطة بالفعل أن مخاوف الفلسطينيين كانت صحيحة؛ فهي تتيح لإسرائيل الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على القدس والمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، وتقصر الدولة الفلسطينية المستقبلية على عدة مناطق مفككة، وتمنح وادي الأردن لإسرائيل. وبالإضافة إلى ذلك، تحدد الخطة عاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية في "أبوديس"، وهي بلدة ملاصقة للقدس؛ لكنها خارج حدود المدينة، وبالتالي تحرم الفلسطينيين من طلبهم بضرورة الاعتراف بالقدس الشرقية، بمواقعها المقدسة، الإسلامية والمسيحية، عاصمة لدولتهم. وعلاوة على ذلك، تعلن الخطة أنه يتعين نزع سلاح "حماس"، وأن يكون قطاع غزة وجميع أجزاء الدولة الفلسطينية المستقبلية منزوعة السلاح. كما تتطلب الخطة اعتراف الجانبين بأن دولة فلسطين هي الدولة القومية للشعب الفلسطيني، وأن دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وليس الشعب (الإسرائيلي). ويرفض الفلسطينيون، وحتى قطاع كبير من الإسرائيليين، هذا المطلب الأخير. والقيد الوحيد الذى وضعته الخطة على إسرائيل هو عدم بناء أي مستوطنات جديدة طوال أربع سنوات في المناطق التي ليس مقررا أنها جزء من إسرائيل. وليس هناك شك في أن الخطة تروق لنتنياهو وحزب الليكود؛ لأنها تبدو محاولة من جانب ترامب لضمان فوز نتنياهو بالانتخابات الإسرائيلية المقررة في مارس المقبل، من خلال تدعيم تصويت الجناح اليميني له. وتتيح الخطة لإسرائيل الضم الفوري لجميع المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى منطقة وادي الأردن الشاسعة. وأعلن نتنياهو، يوم الثلاثاء الماضي، أن الحكومة المؤقتة التي يترأسها سوف تصوت على هذه الخطوة يوم الأحد المقبل؛ ولكن مصادر أخرى نفت ذلك. وهناك تكهنات منتشرة في إسرائيل تفيد بأن نتنياهو قد يضم المستوطنات ووادي الأردن قبل الانتخابات، لتعزيز احتمالات إعادة انتخابه. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن خطة ترامب لن تقر فحسب باستحواذ إسرائيل لجزء كبير من الضفة الغربية؛ ولكنها أيضا سوف تضفى الشرعية على خضوعهم طويل الأمد للدولة اليهودية. وإذا ما حدث ووجدت دولة فلسطينية صغيرة منزوعة السلاح وعلى شكل كانتونات، فإنها ستبقى تحت رحمة إسرائيل، التي سوف تسيطر على منافذ الدخول إلى مثل هذه الدولة، وستهيمن عليها اقتصاديا وعسكريا. وهذا هو السبب في أن جميع الفصائل الفلسطينية رفضت الخطة تماما. وأضاف أيوب، في تقريره الذي نشر أمس الأحد، أن الجهود التي سوف تبذلها إسرائيل لتنفيذ الخطة من خلال ضم المستوطنات اليهودية ووادي الأردن يمكن أن تليها تداعيات ضخمة عديدة؛ أولها، أنها قد تؤدي إلى الانهيار الكامل للسلطة الفلسطينية، والتي تأسست كجزء من اتفاق أوسلو الذى سوف تتجاوزه الآن خطة ترامب. ومع انتهاء تصور السلطة الفلسطينية، سوف تعود الأراضي الفلسطينية إلى وضع ما قبل أوسلو كأراض محتلة يتعين على إسرائيل تحمل المسئولية الكاملة عنها وفق القانون الدولي. وثانيها، من المحتمل أن تؤدي هذه الجهود إلى ردود أفعال عنيفة من جانب الفلسطينيين في الضفة الغربية وإلى هجمات صاروخية من قطاع غزة على إسرائيل، تشنها حماس والجهاد الإسلامي. ومن الممكن أن تؤدي هذه الهجمات إلى توغل إسرائيلي في غزة على نطاق لم يحدث منذ عملية "عامود الدفاع" الإسرائيلية، التي دمرت غزة في نونبر 2012. وقد تؤدي إلى أن تتحول غزة، التي تعانى بشدة بالفعل بسبب الحصار الاقتصادي الإسرائيلي، إلى حالة شبه فوضوية مما يمثل تهديدا أمنيا أكبر لإسرائيل. ويختتم أيوب تقريره بالقول إن النتيجة طويلة الأمد، والأكثر أهمية لخطة ترامب، سوف تتمثل في دفن حل الدولتين إلى الأبد. وفي ظل احتمال الانتهاء من طرح إقامة دول قادرة على البقاء، فإن الرأي العام الفلسطيني، الذي يميل بالفعل نحو حل الدولة الواحدة، وبأغلبية، سوف يفضل مثل هذه النتيجة بدلا من دولة مفككة زائفة معروضة عليه. ومن ثم، فإن خطة ترامب- كوشنر قد تصبح دون قصد تمهيدا لتحقيق دولة واحدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. وسوف تكون هذه طريقة غريبة لتحقيق حلم بلفور، وقد يتحول الحلم إلى حقيقة بفضل خطة ترامب للسلام. *د.ب.أ