فرضت الأوبئة على مر العصور ضريبة فادحة على الإنسانية لأنها فتكت خلال مراحل مختلفة بالعديد من البشر وفي مناطق مختلفة من العالم، ولم يكن وباء الطاعون ووباء الكوليرا متوطنين في المغرب، بل كانا يفدان عليه من الخارج، لا سيما من منطقة المشرق الإسلامي التي كانت من بين المناطق الرئيسية المصدرة لهما في حوض البحر الأبيض المتوسط مع عودة الحجاج إلى بلدانهم بالأساس. الهند مصدر الوباء لم يكن الحجاز مصدرا لهذا الوباء وإنما كان يفد عليه من الخارج، فقد ظلت الكوليرا محصورة في الهند إلى بداية القرن التاسع عشر ولم تظهر بمكة للمرة الأولى إلا في عام 1831م، ومن هناك اجتاحت العالم. وقد تنبه الرحالة ابن طوير الجنة لهذه الحقيقة مبكرا وفي وقت انتشارها؛ إذ رصد مكان انطلاق الوباء وتتبع طرق ومراحل تفشيه بين الدول وعلق على ذلك بالقول: "وعامنا هذا الذي وقفنا فيه على جبل عرفة الوباء الذي وقع فيه، ابتداؤه من بلاد الهند إلى بلاد الإنجليز، ومن الهند أيضا إلى العجم ومن العجم إلى اليمن ومن اليمن إلى الحرمين ومن الحرمين إلى بحر السويس، ومنهما إلى الاسكندرية وجميع بر مصر والشام وحلب وإسطنبول؛ وهو بلاد العثماني، وموسكو (...) وكرن وجميع بر النصارى". فتك الكوليرا بالحجاز ومصر تجدر الإشارة إلى أن ابن طوير الجنة أسهب في الحديث عن هذا الوباء؛ إذ أعطى تقديرات عن عدد الضحايا بالحجاز تعطي دلالة واضحة على هول الكارثة، بعد أن قدر عدد الضحايا في مكةالمكرمة لوحدها بألف ضحية في اليوم الواحد؛ إذ يقول: "أفني في مكةالمكرمة شرفها الله تعالى آلاف كثيرة لا يحصي عددها إلا خالقها"، وقد دعم هذا الرأي مواطنه أبو العلاء إدريس، صاحب الابتسام، من ناحية فداحة الأشخاص الذين هلكوا جراء هذه الجائحة دون أي يقدم أرقاما محددة للوفيات، ويضيف بالقول: "حدث وباء عظيم في مكة سنة ست أو سبع وأربعين [1831م] في أيام الموسم، فمات منه خلق كثير". ولم تسلم المدينةالمنورة بدورها من تفشي الوباء وإن كانت حدته أقل مما كان عليه في مكة، وفي ذلك أضاف الرحالة ابن طوير الجنة: "والمدينةالمنورة ... أفني فيها كثير في ثلاثة أيام، لكن هي أقل من مكة بكثير". ولم يكتف المؤلف بالحديث عن الوباء داخل الحجاز بل تتبع أخباره أثناء عودته إلى مصر، فيخبر بأنه انتشر بعموم القاهرة وأن حدته خفت بالتدريج عند وصوله إلى الاسكندرية إلى أن زال نهائيا، ويبدو أنه كان مهتما كثيرا بهذا الوباء ويملك معلومات وافية عنه؛ إذ تتبع أعداد الموتى التي فتك بها الوباء من الجيش البحري والبري المصري، فيقول: "مات من عساكر مصر في السفن في البحر سبعمائة، ومات في البر من العساكر ثلاثمائة". كما تتضمن روايته عن الوباء مقارنة قيمة بين وقع الوباء في المدن التي ذكرها، وإن كان أخف وطأة في المدينةالمنورة منه بمكةالمكرمة ومصر، ويعزى ذلك إلى تخوف الحجاج من إصابتهم بالوباء في المدينةالمنورة بعدما سلموا منه بمكة، فبمجرد إتمامهم مناسك الحج آثروا العودة إلى بلدانهم بسرعة على زيارة المدينةالمنورة، وهو ما يفسر كذلك تفشي الوباء بمصر أثناء عودة الحجاج الذين نقلوا معهم العدوى إلى مصر، وهذا ما عبر عنه بالقول: "الوباء المذكور أفنى كثيرا من مكة ... وفي مصر فناء خارج عن الحصر، ولم يتعد في المدينة ثلاثة أيام، وبعد ذلك قليل جدا حتى ارتفع عنهم عاجلا"، بخلاف مصر ومكة فقد أبطأ فيهما مع وجود بؤر للعدوى وسط حشود الحجاج وانعدام الاحتراز أو بالأحرى الاعتقاد في اللاعدوى والإيمان بالقضاء والقدر، مما عرضهم للهلاك بعد الإصابة بجرثومة الوباء. اجتياح وباء الكوليرا أوروبا يظهر أن ابن طوير الجنة قد أرّخ لهذا الوباء بشكل لم يسبقه فيه أحد من الرحالة المغاربة، بحيث ترصد لكل ما يتعلق به، ليس فقط في المشرق الإسلامي بل تعداه إلى القارة الأوروبية، وفي ذلك يقول: "ويموت في بر النصارى في اليوم الواحد ما هو خارج عن الحصر، بل لا يحصيه إلا الله خالقهم"، لم ينزع المؤلف في هذه الإشارة إلى المبالغة والتهويل، فعلى الرغم من المستوى السوسيو-صحي المتقدم لسكان أوروبا وما حققه الطب من تقدم، إلا أن الكوليرا أحدثت بالفعل فتكا ذريعا في سكان القارة، حيث بلغ عدد الضحايا في إنجلترا على سبيل المثار 5500 ضحية، وفي فرنسا أزيد من 100000 ضحية. وعلى العموم، فهاته الأرقام ليست بعيدة كثيرا عما صرح به المؤلف. وقد فتك هذا الوباء كذلك بسكان موسكو حيث "مات منهم نحو المائة ألف"، مما يجعلنا نتساءل عن المصادر التي استقى منها الرحالة هذه المعلومات الدقيقة التي ربما تكون من إحدى الشخصيات الرسمية الدينية أو السياسية التي التقى بها في رحلته هاته وحصل من خلالها على هذه المعطيات، خصوصا إذا علمنا بأنه ذهب إلى المشرق بعدما التقى السلطان المغربي المولى عبد الرحمان الذي ساعده على الحج، وأثناء عودته حصل على مساعدات مهمة من سفير فرنسابالجزائر الذي اهتم به كثيرا ويسّر له الإقامة هناك، وهذا لا يخفي كذلك أهمية شخصية ابن طوير الجنة باعتباره ممثلا عن النخبة العلمية في إقليم شنجيط. تفشي الوباء بالمغرب وفي ختام الكلام عن رواية ابن طوير الجنة للكوليرا التي اجتاحت العالم سنة 1831م، تجدر بنا الإشارة إلى ما ذكره عن أسباب تفشي هذا الوباء الذي ارتبط في جزء كبير منه بسفن الحجاج أولا ثم السفن التجارية التي كانت تربط الهند بالقارة الأوروبية ثم إفريقيا ثانيا، كما ساهم الحجاج بدورهم في احتضان الوباء والتنقل به داخل أرجاء الحجاز ومصر والمغرب، والأهم من ذلك كله انعدام الوعي بأهمية الاحتراز منه، فهو يخبرنا بأنه سمع بالوباء وهو في طريقه إلى مكة إلا أن ذلك لم يمنعه كما لم يمنع الكثير من الحجاج باستثناء أقلية منهم من مواصلة السير لأداء الفريضة. بعد تفشي هذا الوباء في مكة ووفاة ما يقارب 12 ألف حاج سنة 1831م، ثم نقله بواسطة الحجاج إلى مصر ثم إلى تونسوالجزائر، ليجد طريقة نحو المغرب، وذلك بعد تسجيل أول حالة بفاس سنة 1834م، وينتشر في ربوع المملكة مخلفا آلاف الضحايا. تبين هذه المعطيات المخاطر التي كانت تهدد المغرب بحكم ارتباطه الوثيق مع المشرق الإسلامي عن طريق الحجاج، غير أن الطريق البرية عبر صحراء الجزائر ومصر كانت تشكل حصانة طبيعة لطول مدة السفر، حيث يتخلص الركب من كل المصابين بالعدوى، لكن مع احتلال الجزائر وتحول الطريق نحو البحر تضاعفت المخاطر مع تقلص مدة السفر إلى حوالي شهر، وأصبحت السفن البخارية القادمة من المشرق مصدر الوباء الرئيسية التي تنقله إلى السواحل المغربية. تحدثت المصادر المغربية عن دور الحجاج المباشر في نقل الوباء إلى المغرب عبر السفن منذ سنة 1818م، حيث تحدث الزياني عن قدوم الأميرين مولاي علي ومولاي عمر وبصحبتهما الحجاج والتجار من الإسكندرية إلى مرسى طنجة على ظهر مركب إنجليزي، "ولما نزلوا بطنجة كان ذلك سبب دخول الوباء للمغرب"، ويضيف أحمد الناصري في كتابه "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" قائلا: "ولما نزلوا بطنجة حدث الوباء بالمغرب، فقال الناس إن ذلك بسببهم". أقر الكتاب المغاربة بظاهرة الاكتساح الواسع للوباء وعدد الضحايا المتزايد فتتبعوا خطوات زحفه من الظهور إلى الذروة فالتلاشي. يتبع... *باحث في التاريخ والتراث والعلاقات المغربية المشرقية