أي مشعل للنور قد انطفأ // أي قلب قد توقف عن الخفقان شاءت الأقدار أن ينتقل إلى رحمة الله صباح الجمعة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، وقد خلف وراءه رصيدا زاخرا في الوطنية الصادقة والعطاء النضالي الراقي والنبيل، وهو المقاوم والنقابي والزعيم الوطني والصحافي والمحامي والقائد السياسي الفذ والنادر. كما خلف تراثا مكتوبا في شكل ذاكرة مسنودة برصيد وثائقي ثري ومتنوع حرص صديقه الأستاذ امبارك بودرقة (عباس) على إخراجه في شكل كتاب من ثلاثة أجزاء سنة 2018، تحت عنوان "أحاديث في ما جرى، شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة". أذكر أن الأستاذ مبارك بودرقة كان قد شرفني بدعوة كريمة لإعداد قراءة تفاعلية مع هذا المُنجز الذاكري والوثائقي، بمناسبة تقديمه بمدينة الدارالبيضاء يوم 9 يونيو 2018، إلى جانب الأستاذ أحمد شوقي بنيوب. ثم دعاني إلى لقاء ثان بمدينة المحمدية وآخر ثالث بمدينة طنجة، مما أتاح لي فرصة التفاعل عن قرب مع قامة وطنية وفكرية وإنسانية من عيار السي عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله، في أكثر من مناسبة، جعلت تقديري له يتضاعف واحترامي له يتجاوز كل الحدود. كان السي عبد الرحمان أكثر من مشعل للنور أضاء حقولا ومجالات ومحطات مختلفة، لذلك اخترت أن تكون قراءتي في كتابه عبارة عن إضاءات مهداة إلى روحه الطاهرة ، أعيد تقديمها كما يلي: إضاءة أولى: مخاض البوح وعتبة الحديث يمكن اعتبار "أحاديث في ما جرى" كتابا للبوح المستعصي، لرجل يتقن فن الصمت، يلوذ بالتلميح متى عز التصريح، ما لم يكتف بإطلاق ابتسامة تفي بالغرض لإيصال المعني. لذلك فالاستعانة بالسميائيات قد تكون ضرورة معرفية وليس ترفا فكريا، لمن رام فك شيفرات مذكراته، واستيعاب مكنوناتها. والولوج إلى هذا العالم كثيف الدلالات، ثري المعاني، لا بد أن يمر عبر عتبات ومداخل، يشكل عنوان الكتاب منفذها الأول، لما يختزنه من دلالات وإشارات، وما يحمله من معاني التكثيف والتركيز. عنوان الكتاب هو: "أحاديث في ما جرى"، مع عنوان فرعي شارح، هو: "شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة". هي إذن مجموعة أحاديث وحصيلة نقاشات مطولة، سرد ثري وحكي ثمين، يقول عنه الأستاذ بودرقة: "ويرجع اقتناعي بهذا القرار إلى سنوات خلت، حيث إنني كلما التقيت السي عبد الرحمان، كان يثير قضايا وأحداثا عاشها في الماضي، ويسردها بدقة إلى حد أنني كنت أتلقاها وكلي خوف على ضياعها، كانت ذاكرته خزانا متدفقا لتفاصيل ما جرى. وكثيرا ما حاولت إقناعه بتدوين سيرته، خصوصا أدواره ومواقفه في الحركة الوطنية، وفي المقاومة وجيش التحرير وفي ما شهدته بلادنا من أحداث جسام بعد استقلالها. وكان يقابل إلحاحي بصمت، أو بابتسامته العريضة التي لا تفارقه، الحاملة لكل المعاني والتأويلات التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن". لم يفلح صاحب الحلم في تدوين سيرة صديقه الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي إلا بعد أن عكف على جمع تراثه المكتوب الذي ناهز الألف صفحة، وأهداه إياه ذات صيف سنة 2017، فكان هذا الرصيد بحاجة إلى ما يسميه الفقهاء بتقديم المقدمات وتمهيد الأصول، وكذلك كان. فعبر جلسات عمل توزعت بين الرباطوالدارالبيضاءوباريس، جرت هذه الأحاديث التي كانت محكومة برؤية وغاية وأفق لمن عكف على تدوينها؛ إذ يقول الأستاذ بودرقة في هذا الشأن: "ومن عمق ذاكرته المتيقظة، أمكن استخراج العديد من الوقائع التي عاشها، وهو في قلب الأحداث وفي مقدمة الجبهات والصفوف، سواء داخل المغرب أو خارجه. وقد تم التوصل إلى هذا البوح الذي يجمع بين السيرة والمسار، والذي تم تعزيزه بشهادات وإفادات إضافية، تضمنها الجزء الأول من الإصدار، واخترت تسميتها بشذرات". لعل في هذه الجمل القصيرة ما يكشف دلالة العنوانين الرئيسي والفرعي معا، فبين السائل والمجيب تجمعت وتراكمت الشذرات، وفق منهج رصين، وفي فقرات مركزة كثيفة تجعل الشذرات لا تحيل بالضرورة في هذا المقام على المقاطع أو الأجزاء، بل ربما على كتابة شذرية، تتدثر بأسلوب النبذة، وتركن إلى الاقتضاب، لتقول مع الفيلسوف الألماني نيتشه في عشر جمل ما يقوله غيره في كتاب. هي شذارت في السرد الذاكري، لكنها ليست مجرد أحاديث، بل ذاكرة متيقظة جرى تنشيطها بنباهة السؤال وفراسة صاحبه، وحسن إدراكه لخبايا هذه الذاكرة وأسرار السيرة. ثم جرى وضع زبدة هذا المخاض داخل باقة وثائقية أرشيفية دسمة ومتنوعة، مما يطرح سؤال تجنيس الكتاب هل هو مذكرات أم سيرة أم رصيد وثائقي مرتب ومصنف مع تقديم، أم كل هذه الأمور مجتمعة؟ كما يطرح سؤال مَلَكَة القراءة وتقنية التعامل مع هذه المتون، بعيدا عن كل انتظارات مسبقة أو أحكام قيمة جاهزة. بمعنى، كيف يمكن للباحث سواء في التاريخ أو في العلوم السياسية أو باقي التخصصات المعرفية استثمار هذا الزاد الذاكري والوثائقي في خدمة الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه؟ والآلية نفسها في القراءة ستسعف أيضا الجمهور الواسع من القراء؛ فالأستاذ عبد الرحمان اليوسفي باح واستراح، نفض الجراب وأفرغ ما في الجعبة وأزاح الثقل، ووضعه على كاهل القراء وفي عهدتهم. إضاءة ثانية: "أحاديث في ما جرى" بين الذاكرة والتاريخ تحدث الأستاذ امبارك بودرقة عن سرد الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي لأحداث الماضي بشكل مبهر، وهو أمر مفيد جدا في أداء الذاكرة. كما توقف عند منهجه في العمل بالقول: "على مدار جلسات، حاولت أن أتلقى من الرجل، وبصيغ متنوعة، ما يتصل بهذا المستوى، من حيث التدوين المباشر، والتوثيق البعدي، والتسجيل الصوتي... ولأن غايتي من محاولة البوح، كانت تهدف وَصْل ما كتبه الرجل بذاكرته وبحكيه المباشر، وجب علي التحلي بالإنصات والصبر والمثابرة، ككلمات السر في التواصل معه، وهو الذي كان دقيقا في أجوبته، ممتدا في التنقيب عما جرى في أزمنة الماضي البعيد، لأزيد من ثمانين سنة". نَبَّه بيار جانيه في أحد دروسه بالكوليج دو فرانس إلى أنه من المفيد أن ينضبط الراوي، الذي يتذكر، لعدد معين من الضوابط في روايته. وبدون احترام هذه القواعد، سيعجز عن إشعارنا بما حدث. في هذا المستوى، تبدو مشكلة الذاكرة مرتبطة بمسألة السرد. وإذا كانت تقنية التذكر تمر إلى الملتقي عبر آلية السرد أو الحكي، أي من خلال وعاء اللغة، فإن تركيبة الذاكرة وآليات اشتغالها تطرح عددا لا يحصى من المشكلات والتعقيدات، فهي تقع في نقطة تقاطع بين حقول معرفية كثيرة قد تبدأ بالتاريخ وتنتهي بالطب مرورا بعلمي النفس والأعصاب. تتوزع وتتقابل داخل ثلاثة مستويات: ذاكرة فردية وذاكرة جماعية في مقابل ذاكرة تاريخية. وهو ما يستدعي على المستوى المعرفي تعاطيا ثلاثيا مواكبا، أي فينومينولوجيا الذاكرة الفردية وسوسيولوجيا الذاكرة الجماعية وابستيمولوجيا المعرفة التاريخية. لذلك قد يتبادر إلى ذهن قارئ كتاب "أحاديث في ما جرى" سؤال: هل يتعلق الأمر بذاكرة شخصية أم جماعية؟ نستحضر مع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور عناصر للتحليل مستمدة من سوسيولوجيا الفهم لماكس فيبر والفلسفة السياسية لحنا أرندت، ونطرح معه سؤال: "أليس هناك مستوى متوسط للمرجعية حيث تتم بالفعل عمليات التبادل بين الذاكرة الحية للأشخاص الأفراد وبين الذاكرة العامة للجماعات التي تنتمي إليها؟ إن هذا المستوى هو مستوى العلاقة بالأقربين الذين يحق لنا أن ننسب إليهم ذاكرة من نوع متميز"؛ إذ "علينا أن ندخل حقل التاريخ، ليس فقط مع فرضية الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، ولكن مع فرضية النسبة الثلاثية للذاكرة: النسبة إلى الذات، والأقربين والآخرين". يتوقف بول ريكور عند ما أسماه المستوى الأخلاقي-السياسي للذاكرة الملزمة متحدثا عن تعقيدات وصعوبات إنجاز هذه الذاكرة لواجبها بالقول: "نحن لا نستطيع أن نتكلم عن هذه الصعوبات بطريقة مسؤولة قبل أن نكون قد مررنا بالسهول الجافة لإبستمولوجيا المعرفة التاريخية وبلغنا منطقة الصراع بين الذاكرة الفردية، الذاكرة الجماعية، والذاكرة التاريخية، في تلك المنطقة حيث تواجه الذاكرة الحية للباقين على قيد الحياة النظرة الثاقبة والنقدية للمؤرخ، هذا إن لم نقل شيئا عن نظر القاضي". جاءت مقدمة كتاب "أحاديث في ما جرى" مستحضرة لعدد لا يستهان به من هذه الإكراهات، كاشفة عن استبطان واع لأدوات العمل. فنحن أمام عمل ضخم ممتد في الزمن، موسوم بالتريث والتوثيق؛ إذ حضرت الشهادة جنبا إلى جنب مع الوثيقة، وهو ما زاد من مصداقية العمل وقيمته. فمع الشهادة يفتح المؤرخ "دعوى ابستيمولوجية تنطلق من الذاكرة الإخبارية، وتمر بالأرشيف، وتنتهي بالبرهان الوثائقي". فالمثلث الأساسي للمعرفة التاريخية يتشكل من الأثر والوثيقة والسؤال، والأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ترك أكثر من أثر وأكثر من وثيقة، يبقى على المؤرخ أن يجيد طرح السؤال. بمعنى تملك الأدوات النظرية والمنهجية والمعرفية لسبر أغوار ذاكرة ثرية وموثقة ومتصالحة مع ذاتها. إضاءة ثالثة: فيض الذاكرة من طنجة إلى تافروات رأى الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي النور بمدينة طنجة يوم الثامن من شهر مارس 1924، وبها ترعرع ونما قبل أن يضطر لمغادرتها نحو مراكش فور حصوله على الشهادة الابتدائية. وبالمدينة الحمراء عاش تجربة من المثاقفة الخاصة مع أهل الجنوب، الذين احتضنوه، بل منهم من أصروا على دعوته إلى بلداتهم لاكتشافها، ومن بينها تافراوت التي تأجلت زيارته إليها لمدة ثمانين حولا، أي خلال شهر ماي سنة 2013. وبين أحوال طنجة في العشرينات من القرن الماضي، وأجواء تافروات مع مطلع القرن العشرين، لا يسافر قارئ كتاب "أحاديث في ما جرى" مع الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في الزمان والمكان فحسب، بل أيضا في الموقف، وهو الذي عبر المفازات والأزمنة حاملا لفكرة معبرا عن رأي، مؤديا الثمن، ودافعا للضريبة. فبين النشأة، ومُعاركة الحياة مبكرا بعد اليتم، آن للفتى ابن العشرين ربيعا أن يتشرب أصول العمل الوطني في أبعاده المختلفة، المقاوم والنقابي والسياسي، ويتحمل فيه المسؤولية، بما تتطلبه من قوة الشكيمة ونفاذ البصيرة وسداد الرأي وصواب الموقف، وما له أيضا من أتعاب وتبعات. وبين خيار المعارضة ورئاسة الحكومة، سلك الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي الدروب الصعبة، وكان فاعلا محوريا في أحداث كبرى من تاريخ المغرب الراهن. كان له أكثر من سفر في الزمان وموعد مع اللقاء بعد طول فراق، وهو الذي لَقَّح شغيلة السكر المغربي بلقاح نقابي وروح تعاونية، قُدر له أن يعيد الوصل بها بعد 72 سنة على تأسيسه لأول تجربة تعاونية بمعمل كوزيمار. مثلما دارت عجلة التاريخ لترتب له أكثر من موعد ولقاء مع زميل الصف في المدرسة المرحوم الأستاذ امحمد بوستة ذات طفولة بمراكش، بعد أن جمعتهما مدرسة النضال الوطني، هندس العمل الوطني بالحي المحمدي، وأبدع في تكريم الموتى، وفي العناية بالأحياء، خاصة الشباب منه، من خلال النوادي الرياضية والمدارس، قبل أن ينقل بذرة حزب الاستقلال إلى مسقط رأسه طنجة. رافع ودافع عن حرية واستقلال بلده لدى هيئة الأممالمتحدة في قلب باريس، عبر قنوات الجامعة العربية، فصار الترافع لاحقا جزءا من حياته المهنية، بعد أن فصل بذلة المحاماة على مقاس المناضل. إلى جانب الجدية والتضحية والنضال وكل ما ارتبط بالشأن العام، كانت هناك مساحة للبوح ببعض الخصوصيات، فمثلا تحت عنوان "الخيار الصعب: الزواج بالدكالية أو البكالوريا"، يروي الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي تفاصيل ما بعد رحلته القهرية من الرباط إلى آسفي، التي انتهت به إلى عاصمة دكالة، حيث كان على موعد مع رفقة طيبة لأصدقاء رأوا في زواجه من فتاة بالمنطقة حلا مريحا له، فيما سارع إلى طي صفحة العرض المغري، واضعا نصبا عينيه آفاقا أرحب. ثم يتحدث عن زواجه في الصفحات الموالية من مذكراته بالقول: "تعرفت على زوجتي هيلين HELENE بالصدفة بمدينة الدارالبيضاء سنة 1947، وكانت المناسبة انتهاء السنة الدراسية بنجاح فقررنا أن نقدم في الحفل المنظم عرضا مسرحيا، كان نصيبي فيه دور النادل (...) وفي سنة 1968، أي بعد إحدى وعشرين سنة من التعرف على هيلين وعائلتها، تم عقد زواجنا ببلدية الدائرة السادسة لمدينة باريس...". جادت ذاكرته بمعطيات ثمينة همت محطات كثيرة من تاريخ المغرب الراهن، خاصة العصيبة منها، وتحدث عن مستويات حضوره فيها ودرجة تفاعله معها، مستحضرا الوثيقة إلى جانب الشهادة متى توفرت أو متى استدعى الأمر ذلك. يلفي قارئ كتاب "أحاديث في ما جرى" نفسه أمام ذاكرة تحمل الماضي إلى الحاضر على بساط المصالحة، مشبعة بالأماني لمد جسور الحوار والتواصل من أجل التفاهم، لتفادي النشاز والتوتر، ولو بصيغة الماضي، لتحقيق ممكن أفضل مما كان، مع بداية الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة. إضاءة رابعة: الأثر المكتوب يفي بالغرض المطلوب يقول كل من شارل فيكتور لونكلوا وشار سينوبوس في كتاب "المدخل إلى الدراسات التاريخية"، وهو الكتاب الموسوم بإنجيل الوضعانيين، وهم سادة الوثيقة، الذين لم يتخيلوا إمكانية كتابة تاريخ بدونها: "التاريخ يُصنع من وثائق. والوثائق هي الآثار التي خلفتها أفكار السلف وأفعالهم. والقليل جدا من هذه الأفعال والأفكار هو الذي يترك آثارا محسوسة، إن وجدت فنادرا ما تبقى، لأن عارضا بسيطا قد يكفي لزوالها. وكل فكرة أو فعل لا يخلف أثرا، مباشرا أو غير مباشر، أو طمست معالمه، هو أمر ضاع على التاريخ، كأنه لم يكن البتة. وبفقدان الوثائق صار تاريخ عصور طويلة من الماضي مجهولا إلى الأبد؛ إذ لا بديل عن الوثائق: وحيث لا وثائق، لا تاريخ". كان هذا الكلام سنة 1897 وهو ما يزال صالحا في جزء مهم منه، بيد أن مدرسة الحوليات ابتداء من سنة 1929 مع كل من مارك بلوك ولوسيان فيبر أضافت إلى هذا الطرح تصويبين مهمين؛ أولا توسيع مفهوم الوثيقة الذي لم يعد مقتصرا على الوثيقة الرسمية المتأكد من سلامتها، بل أصبح يشمل كل ما له علاقة بالإنسان، وثانيا فتح مناهج وسبل جديدة من أجل كتابة تاريخية قد تستعين بالوثيقة دون ارتهان أو تقديس لها. غير أن الذي لا اختلاف حوله بين الوضعانيين ومدرسة الحوليات أو حتى أصحاب التاريخ الجديد، هو أن التاريخ والوثيقة أو التاريخ والأرشيف عموما صنوان، التفاوت فقط في كيفية التعاطي والتوظيف. يتحدث الأستاذ بودرقة عن دقة التدوين عند الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بالقول: "كتب ما يكفي، بل كان يسهر شخصيا على تحرير مداخلاته وخطبه، ويحرص على انتقاء دقيق للكلمات، وصياغة الرسائل التي كان متفوقا في إعدادها وبعثها إلى أطراف الدولة والمجتمع". ويضيف: "بادرت إذن إلى تجميع ما في المتناول، وأخذت على عاتقي مهمة إصدار هذه المتون، من التاريخ السياسي والفكري لهذا الوطن، وذلك حتى يتمكن المؤرخ والباحث من الرجوع إليها، باعتبارها نتاج أحد الشهود الكبار حول مرحلة طويلة بصمت التاريخ المغربي الراهن". هي إذن متون غزيرة وكثيفة ومتنوعة جاءت في حوالي 970 صفحة موزعة بين وثائق تهم مواقف وأحداث خاصة، مرتبطة بمناسبات وسياقات مختلفة، أنتجت خطابات عكست تفاعل الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي معها من مواقعه المختلفة. ربما احتاج المرء إلى الاستعانة بالدرس الافتتاحي الذي قدمه ميشال فوكو بالكوليج دو فرانس يوم 2 دجنبر 1970 تحت عنوان "نظام الخطاب"، لفهم بنيتها ودلالتها، لكن الأكيد أن قلم الصحافي ونباهة المحامي وحنكة السياسي تحكمت في إنتاجها، وهي ثلاثية بصمت ولا شك الأثر المكتوب للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. كان الأستاذ بودرقة دقيقا ومكثفا لقيمة الحصاد الذي جمعه بعد أن تحقق حلمه في إخراجه إلى الوجود. وهو القائل: "شرعت في تجميع واستكمال وتوثيق ما يتصل بإنتاجات السي عبد الرحمان اليوسفي، وهي غزيرة، موصولة بماضيها، بنت زمانها، ومنفتحة على مستقبلها. إنتاجات في الفكر السياسي، صقلها بإبداع، وبعد نظر، متفاعلا مع القضايا الكبرى لبلده، على مستوى حقوق الإنسان والإصلاحات السياسية والدستورية وبناء رأي عام وازن بشأنها، وصولا إلى تحمل المسؤوليات الأولى في قيادة حزبه وعلى مستوى رئاسة السلطة التنفيذية". قد يقبل الدارس لهذا الرصيد الوثائقي الزاخر على تتبع محتوياته بشكل كرونولوجي أو موضوعاتي، وفي كلا الحالتين سيكون على موعد مع خيط ناظم شارح لنسق خطابها، مثلما قد تقوده نباهته إلى مقابلة الوثيقة بالشهادة إن رام الخوض في تمرين ابستمولوجيا المعرفة التاريخية انطلاقا من ثنائية الشهادة والوثيقة. وهي ثنائية تعانقت في كتاب "أحاديث في ما جرى" مثلما تعانقت فيه السيرة بالذاكرة. إضاءة خامسة: الجديد في كتاب "أحاديث في ما جرى" تتسم الذاكرة عموما بطابعها الانتقائي، تُقبل على أمور وتعرض عن أخرى، تختزن معطيات تعتبرها مهمة أو لمجرد أنها تجد ذاتها فيها، وتلفُظ أخرى قد تبدو لها تافهة، أو ببساطة لطابعها النشاز الباعث على النفور، وعند عملية التذكر تستحضر أمورا ولا تلتفت لغيرها، للأسباب نفسها التي يتقاطع فيها الموضوعي بالذاتي، أو المادي بالسيكولوجي. ولأنها كذلك، ونظرا لطبيعة نظامها وآليات اشتغالها، لا يُفترض في الدارس لها والقارئ لما جادت به أن يطبق عليها معيار الإنتاج الأكاديمي؛ فهي ليست أطروحة جامعية تبحث عن شرعية علمية انطلاقا من استحضار السابق المنجز، والبحث عن التميز عنه بالجديد في الموضوع. فصاحب المذكرات عندما يكتب يكون متحررا من كل سلطة علمية؛ إذ هو يكتب لذاته أولا، ثم لجمهور بصيغة الجمع وليس المفرد. فهو، في الغالب الأعم، لا يستحضر فلانا أو علانا ليطيب خاطره بكلمة أو شهادة، بل يكتب للجمهور الواسع، الذي لا شك يقبل على هذه المذكرات بانتظارات متباعدة. بيد أن ذلك لا ينفي السعي لتحقيق التراكم في مجال المذكرات دائما، في علاقتها ببعضها أولا، قبل تجميع معطياتها في مختبر التاريخ لاستخراج المادة العلمية منها. لذلك من الطبيعي أن يترقب قراء المذكرات جديدا في البوح، وإزاحة لمزيد من الستائر على أركان بيت ذاكرة فاعلين يعلمون أن كشف أسرارهم قد يفيد في تسليط الضوء على أمكان عتمة كثيفة في الماضي البعيد لبلدهم. جاء الحيز المخصص للبوح في "كتاب أحاديث في ما جرى" صغيرا مقارنة مع المساحة التي شغلتها الوثائق، غير أن الصفحات المأتيين وخمس عشرة المخصصة لما باحت به ذاكرة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي جادت مع ذلك بالجديد، بل قدمت معطيات تسمح بإعادة فهم محطات مهمة من تاريخ المغرب المعاصر، وبالقيام بمقارنات بين تجارب في تاريخنا الراهن. سأركزها في أربعة معطيات أعتبرها حاملة لجديد منتج يستحق الانتباه والاستحضار في إعادة قراءة تاريخ مغرب القرن العشرين: يقول الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في الصفحة 51 من الجزء الأول من مذكراته: "بدأ زرع البذور الأولى لتأطير البروليتارية المغربية سنة 1944، كانت البداية مع شِغِيلة معمل السكر "كوزيمار" تحت غطاء محاربة الأمية وإعطاء دروس إضافية لأبنائهم، وامتد هذا النشاط ليشمل العديد من المعامل، منها معمل الصابون وشركة السكة الحديدية وشركة الإسمنت وغيرها". ثم يروي تفاصيل تجربته من داخل حزب الاستقلال في تأطير الطبقة العاملة في الدارالبيضاء، وينبه إلى أن "هذا التحول في البناء القاعدي للحزب لم يكن يحظى بعين الرضا من طرف العديد من القياديين في حزب الاستقلال (...) وقد استحسن الزعيم علال الفاسي هذا التغيير عكس بعض القيادات الأخرى". تسعف الذاكرة هنا، من خلال هذه المعلومة، في تصحيح نسبي لطرح سائد عند بعض الباحثين في تاريخ المغرب المعاصر، ينتصر للقول إن حزب الاستقلال ظل يعتبر العمل النقابي من بنات أفكار الشيوعيين، ولم يحدث الاختراق لهذا الفهم إلا بعد صدمة ضربة ساليكان يوم 7 أبريل 1947. يكشف الجزء الأول من المذكرات في الصفحة 128 معلومة جديدة تتعلق بالتحضير للمؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، تهم ترشيح عبد الرحيم بوعبيد لعمر بنجلون ليتولى قيادة الحزب، وهي المعلومة التي كشف خلفيتها امبارك بودرقة في مذكراته الصادرة هذه السنة تحت عنوان "بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة". المعلومات الجديدة المرتبطة بالتغطية الصحية الأساسية في الصفحتين 216 -217 تستحق الانتباه من طرف المشتغلين بالأداء الحكومي خلال الفترة الراهنة. المعطيات الجديدة التي كشف عنها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في قضية فضيحة النجاة في الصفحتين 218-219 جديرة بالدراسة في ضوء ما جاء بعدها. *أستاذ التاريخ والحضارة بكلية الآداب عين الشق-جامعة الحسن الثاني-الدار البيضاء