أحاديث في ما جرى – شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة، بهذا العنوان اختار الزعيم السياسي المغربي عبد الرحمان اليوسفي تسمية "مذكراته" الصادرة حديثا في الدارالبيضاء (فبراير 2018)؛ وليس اعتباطا أن يعلنها بصيغة الجمع والتعدد، وبطريقة شذرية؛ ذلك أن "الأنا" لدي الرجل تأبى الظهور، أو لا تكاد تطفو على السطح حتى تختفي بسرعة وراء "الأنا الجمعية". بل إن القليل مما تبقى من "تلك الأنا المحايدة" يلزمها للبروز شرط وجود "ذات أخرى" (مُتَحَدِّثٍ إليه) وليست أي ذات "خارجية" بل "ذات" موثوق بها، حميمة، ملحاحة؛ وحتى بعد استيفاء كل هذه الشروط، أُريدَ لها أن تكون مجرد "تمهيد" لخطب ورسائل وحوارات ومداخلات، كانت نُشرتْ من قبل وصارت عمومية. كما وجب انتظار بلوغ اليوسفي سن 94 عاما لكي يفصح في شكل "نتف" عن بعض "ما جرى" من وقائع عاشها طيلة مساره السياسي والنضالي الحافل... كل ذلك في لغة تقريرية بيضاء، مراقبة كليا، لا مجال فيها لأي انزياح لفظي أو بلاغي، خالية من كل انفعال، ما عدا بعض الطرائف الناذرة (مثل حكاية الطربوش والمارينز)... وحتى علاقته مع زوجته (هيلين) سُردت باقتضاب كبير، دون نبرة عاطفية. وبخلاف ما يمكن اعتقاده، فالابتعاد عن العَطَفات الأسلوبية يشير إلى وجود خطاب سياسي خالص، مهموم بقضايا المجتمع (الآخرين) ومنخرط في سيرورة التاريخ. بتعبير مغاير، نجدنا أمام كائن يستبشع التمركز حول "الأنا الذاتية"، مطبوع على "النَّحْنُيّة"، التي هي أساس كل فكر جماعي... **** أحاديث في ما جرى – شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة، هي انعكاس لشخصية اليوسفي المتزنة، ليس في اللغة الصارمة وحسب، بل في هندسة النص البالغة الإحكام. الكتاب قُسم إلى خمسة فصول: النشأة الأولى - الحركة الوطنية – المعارضة - قيادة الحزب – رئاسة الحكومة. خمسة عناوين عريضة تختزل أهم المحطات في سيرته الحياتية. التقسيم انْبَنى على مبدئيْ التعاقب الزمني والترتيب التصاعدي (الكمي). فالفصل الأول، المخصص لمراحل الطفولة - الصبا - الفتوة، ضم 25 صفحة؛ بينما احتوى الفصل الأخير (المكرس للعمل الحكومي) على 58 صفحة؛ ما يؤكد غلبة الشعور ب"النحن"، ونكران الذات لدى الرجل. وبلغ مجموع "الشذرات" 131، وُزعتْ بالتساوي تقريبا على الفصول (17/25/30/31/28)، في بنية سردية لم تتردد في العودة بشريط الأحداث الخطي، في آخر المطاف، إلى نقطة البداية. إذ ينتهي النص بقصيدة لبعض رفقاء درب الكفاح من أهل "تافراوت" احتفاء بزيارة اليوسفي للمنطقة، وتحقيق حلم كان أجهضه الاستعمار، لكنه ظل يراوده منذ اليفاعة (لمدة 80 عاما). بهذه اللُّقيا الغنائية تكتمل المسيرة السياسية الشاقة، رمزيا، بإعادة وصل الماضي بالحاضر، ربط الشمال بالجنوب، واسترداد وحدة الذات (الفردية/الجماعية) التي مزق الاحتلال أوصالها. وليس من المصادفة كذلك تقسيم العنوان المركزي للكتاب إلى جزأين: رئيسي، شامل (أحاديث في ما جرى)، يُدْرِج النص ضمن المحكي الشفهي عامة، وفرعي خاص (شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة) يَحْصِر المذكرات داخل مجال الأتوبيوغرافيا السياسية. يتضح أن الغاية من تمديد العنوان هي توخي الدقة، فمنذ الوهلة الأولى تم تحديد هوية النص الأجناسية وقناة إيصاله وتثبيت عناصر الميثاق السيرذاتي الذي يربط المؤلف بالقارئ، الضامن لِصدْقية الرواية ومُوافقتها للحقيقة. وتأتي لفظة "كما" للتأكيد على مطابقة الصيغة المنطوقة الأصلية للنسخة المكتوبة. هذا العقد سيزكيه الراوي في "الإهداء" (الموجه إلى القارئ)، المُصَوَّر والمُؤَرَّخ والمُوَقَّع بخط يده كدليل قاطع على وُثُوقية الرواية الشفوية، وسيزيده الناسخ (بودرقة) توضيحا أكثر عند ذكر الظروف السياقية المحيطة بنشأة العمل في "كلمة شكر" و"محاولاتي مع بوح سي عبد الرحمان اليوسفي"... وينبغي الإقرار بأن اليوسفي وَجَدَ في صيغة الأحاديث/الشذرات (بمعنى مقتطفات) الشكل التعبيري الأنسب لأسلوب تفكيره العقلاني، ولوضعه المتقدم في السن (94 عاما). فهي، بخلاف المذكرات الحميمة المُسْتَبْعِدَة للموضوعية، تخوله بصفته شاهد عصره مرونة الانتقال بين الأزمنة وضبط الوقائع وانتقاء ما يستوجب التوضيح والإضاءة... ولعل أبرز مميزات هذا النوع من المذكرات هو أن العلاقة بين الراوي والمروي له (الوسيط) غالبا ما تُحَدِّدُ المعنى؛ بل قد تتحول إلى أهم شيء في المُؤَلف. غير أننا نفاجأ هنا باختفاء الناسخ (عباس بودرقة) تاركا "أحاديث" اليوسفي تطفو على سطح النص كما لوحدها؛ وذلك بعدما هيأ الظروف بصبر وأناة، وأعد الوثائق بعناية وأنجز بأمانة صياغة "الأحاديث" كتابة؛ ووضح منهجية اشتغاله، التي اعتمد فيها بالأساس على إجراء أبحاث، وعقد "جلسات" مع اليوسفي. ولا شك أن علاقة الثقة الوطيدة والألفة الطويلة بين المناضلَيْن ساعدت على تنشيط الذاكرة؛ ومكنت "بودرقة" من استنباط المعلومات اللازمة والتأكد من صحتها، مع مقارنتها بالمصادر الأخرى التي بحوزته. هذا المنهج هو الذي أنتج التفاعل بين الرواية المنطوقة والنص المكتوب، وأعطى مذكرات خالية من الشوائب. **** أحاديث في ما جرى هي بالخصوص ثلاثة أجزاء متكاملة، تضم وثائق ثمينة، لا غنى عنها لكل طامح إلى السلطة، لكل متتبع للشأن العام المغربي... لا ينبغي إغفال الجانب البيداغوجي، التنويري، الكامن وراء نشرها. والقارئ المتفحص لهذه المتون يخرج بنظرة شمولية عن أوضاع البلد. وبالإمكان عقد مقارنة بين خطابات فترة حكومة التناوب التوافقي (1998/2002) وخطابات زمن المعارضة الطويل (30 سنة)، أو بين حصيلة حكومة اليوسفي وما سبقها وما تلاها من الحكومات للوقوف بشكل موضوعي على الثابت والمتحول في الحالة المغربية المعاصرة. سنتعرف باندهاش، خلف الجمل الرسمية، على الصعوبات المزمنة التي تؤجل دوما النقلة التاريخية نحو الملكية البرلمانية، ومما يضاعف من أهميتها صدورها عن مجاهد صادق ومناضل أصيل، خاطر بحياته في سبيل تحرير الوطن، وكابد المشقات والمحن من أجل إرساء نظام الحكم على أسس ديمقراطية... لم تستهوه يوما المناصب والمكاسب، ولم يتخل قط عن مبادئه... *** لكن أجمل الشذرات هي تلك التي يتحدث فيها اليوسفي عن ذاته، علانية، بضمير المتكلم المفرد، لاسيما في بداية الفصل الأول، حيث ستتحدد معالم حياته المستقبلية. نكتشف جملة من المآسي حلت بالصبي مبكرا، منها فقدانه ثلاثة من إخوانه في عام واحد (1943). عبد السلام الذي اعتقلته الميليشيات الفرانكوية، والذي سيختفي إلى الأبد في سجن "واد لاو" (شمال تطوان).. مصطفى العامل في المطبعة، الذي رسخ في فؤاده "هوس الصحافة"، والذي توفي بمرض السل الناتج عن "احتكاكه بمادة الرصاص"؛ وسيلحق بهما شقيقه محمد، وقبلهم وفاة والده عند حصوله على الشهادة الابتدائية (1937)، تاركا الأم تعاني مع عبد الرحمان المتغيب مرارا. من هذه المرحلة المضطربة سيرث اليوسفي وضعا صحيا هشا سيلازمه مدى الحياة، نذكر منه إصابته وهو فتى في الثانوي بدائي "الجرب" والسل، استئصال رئته اليمنى في مدريد بعد عمليتين جراحتين (1955)... ستتفاقم حالته الصحية أثناء الإضراب عن الطعام في سجن "لعلو" (1959).. وستتوالى محنه الصحية زمن التناوب، منها إصابته بالسكري، و"سرطان القولون"، إلى حد الاعتذار بذلك عن رئاسة الحكومة. فكان رد الحسن الثاني أكثر رَهَفا وإقناعا: "(أنا) أيضا مريض، وهذا قدرنا أن نتقاسم معا نحن المرضى عبء هذه المسؤولية".. في 20 /6/ 1999 سيتعرض لوعكة "صحية خطيرة في الدماغ"، ستدفع الملك الراحل إلى عيادته بمستشفى ابن سينا بالرباط، حيث سيُسْلم الروح بعد شهر في نفس الجناح الذي كان يرقد فيه (23 /07/ 1999)، ما كان له وقع "الصاعقة" في وجدانه، إذ لم يستسغ أن تتخطف يد المنون سريعا الملك المُوَّحِد، ويبقى هو، كما يقول: "أمارس فضيحة الحياة رغم الأمراض التي عانيت منها".. في أكتوبر 2016، سيصاب بوعكة أخرى، اضطرت الملك محمد السادس إلى عيادته مرتين خلال أسبوع، في مستشفى الشيخ خليفة بالدارالبيضاء... ومعروف في عالم السياسة القاسي أن مرض الزعماء والقادة يجعلهم أكثر إنسانية، أكثر قربا من الناس وتفهما لمعاناتهم... ثمة عامل آخر سيحدد توجه الطفل فكريا وسياسيا، يتمثل في البيئة أو الوسط الاجتماعي الذي نشأ وترعرع فيه، لاسيما مدينة طنجة الدولية، بتعدد سكانها ولغاتها وعاداتها؛ ثم انتماؤه إلى عائلة يصنفها "ضمن البرجوازية الصغيرة"..كان أبوه مُلِمّا باللغات وأصول الدين الإسلامي، ما أهله إلى العمل في شركة بنكية، ثم وكيلا قضائيا، فمُقَدَّما ينجز التقارير للمندوب السلطاني بالمدينة. كما أنه سيسلك نفس المشوار الدراسي المعروف وقتذاك لدى أبناء الأعيان.. وإبان الحقبة الاستعمارية لعب دورا مهما في التمهيد لزيارة محمد الخامس التاريخية إلى مدينة البوغاز (1947).. ومباشرة بعد نفي الأخير، انخرط في جيش التحرير (1953)، وشارك في تنظيم المقاومة المسلحة انطلاقا من شمال المغرب. كانت مرحلة وحدة المصير والرباط المقدس بين الحركة الوطنية والملكية سرعان ما ستبدأ في التصدع، بعيد الاستقلال (1959)، لتصل إلى درجة الصدام العنيف أثناء الحقبة الأوفقيرية السوداء، وتدفع باليوسفي وبعض رفاقه إلى دروب المنفى (مدة 15 عاما). في مطلع الثمانينات، وبعد تغير الظروف السياسية، ستعود العلاقة تدريجيا إلى سابق عهدها، وابتداء من 1992، سيقبل اليوسفي بالمساهمة إلى جانب الحسن الثاني في تدبير مرحلة "التناوب التوافقي" والانتقال الديمقراطي. ويلخص الملك الراحل بفصاحته المعهودة تلك العودة مخاطبا اليوسفي: "نحن مثل روافد نهر افترقنا ثم التقينا من جديد، لنصب في نفس المجرى الأصل"... في هذه الصفحات المؤثرة يقر اليوسفي، بلا مواربة، في إخلاص تام لذاته، بانتسابه إلى البرجوازية الصغيرة وقربه من الدوائر المخزنية. نكتشف أن الرجل لم يكن يوما ما ثوريا رومانسيا، ولا اشتراكيا طوباويا، ولا انقلابيا عنيفا، بل كباقي أقرانه من زعماء الحركة الوطنية، مناهضا عنيدا للاستعمار، ولكل أصناف الظلم والاضطهاد، متمسكا بقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية... وبالتأكيد، مثل معظم المثقفين من جيله، مناوئا للنزعات اليمينية المحافظة، ملتزما بالعمل ضمن صفوف اليسار... ذلك اليسار الذي كانت تحركه البرجوازية الصغيرة، المتنورة، التي تقتصر الممارسة السياسية لديها في إعطاء الأسبقية للنشاط البرلماني، واعتماد نهج النضال الدستوري والمقاربة الحقوقية. فهل سيكون عبد الرحمان اليوسفي الطوطم الأخير لليسار المغربي؟ المراجع : 1- عبد الرحمان اليوسفي، أحاديث فيما جرى – شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة – إعداد امبارك بودرقة (عباس) -، الدارالبيضاء، دار النشر المغربية، 2018 ، ج. 1 ، 454 ص. 2- عبد الرحمان اليوسفي، أحاديث فيما جرى – 27 مارس 1992 - 30 أكتوبر 1999 – إعداد امبارك بودرقة (عباس) -، الدارالبيضاء، دار النشر المغربية، 2018 ، ج. 2 ، 438 ص. 3- عبد الرحمان اليوسفي، أحاديث فيما جرى – 21 يناير 2000- 10 شتنبر 2003 – إعداد امبارك بودرقة (عباس) -، الدارالبيضاء، دار النشر المغربية، 2018 ، ج. 3 ، 366 ص.