من الانعكاسات الإيجابية لجائحة كورونا على العالم، أنها عادت بالبشرية إلى أصلها الطبيعي، القائم على التضامن والتعاون والتآزر. فالإنسانية برمتها تعيش هذه الأيام زمنا عالميا متجانسا، باتت تشعر فيه بالألم المشترك، وبارقة الأمل الجماعي في التشبث بخيط البقاء، والتطلع للخلاص من شبح هذه الجائحة التي عصفت بالمعمور شرقا وغربا، حتى بدا كأن العالم اليوم بدأ يتحدث لغة كونية واحدة، لغة صامتة عنوانها الصبر والصلاة والصوم واليد الممدودة للآخر على حدّ قول جيل دولوز (Gilles Deleuze). من البديهي في ظل هذا الإحساس الإنساني المشترك أن تتأثر بوصلة علاقة الغرب بالإسلام بوهج التلاحم البشري الذي أفرزه الوباء العالمي، وأن تعود الديانات إلى أصلها الطبيعي في التلاقي والتحالف، من أجل بناء الإنسان وتحقيق الغاية من وجوده، بعيدا عن مشاهد التعصب والتشنج، وأعطاب الهويات القاتلة حسب تعبير أمين معلوف، وهي مشاهد أفرزتها للأسف المصالح الاقتصادية والسياسية. نحاول في السطور التالية رسم الخطوط الأولية لهذا التقارب والتسامح الإنساني من خلال محورين يعكسان "شهر العسل" الذي أصبحت تعيشه الحضارات برمتها في زمن كورونا، وخاصة الإسلام والغرب. 1. فتاوى جديدة في زمن كورونا: تفاعل وانفتاح بين الإسلام والغرب لا سبيل لإنكار انعكاسات جائحة كورونا في توجيه مؤسسة الإفتاء بأوروبا نحو تطويع أجوبتها حول النوازل الواردة عليها من أبناء الجاليات الإسلامية بما يتماشى وظروف وقوانين البلاد التي تعيش تحت كنفها، ودعوتها للتآزر والتعان مع الآخر. أستند في هذه الفرضية إلى كتاب جديد صدر مؤخرا بعنوان "نوازل الأوبئة" في طبعة إلكترونية، ببرمنجهام أبريل 2020، يسلّط فيه مؤلفه محمد علي بلاعو الضوء على هذه المسألة من خلال ما جمعه من نوازل همّت قطاعا عريضا من الأقليات الإسلامية بأوروبا، علما أن المؤلف يشغل عضوية بعض لجان هيئة الفتوى ببريطانيا، وقام بترجمة بعضها حسب ما ذكره في مقدمة الكتاب. وبطبيعة الحال، ثمة كتب أخرى صدرت مؤخرا في عزّ جائحة "كوفيد 19" تسير على المنوال نفسه، ولكننا اقتصرنا على الكتاب الأخير كنموذج. إن نظرة راصدة لمجموعة من النوازل والفتاوى التي يحويها هذا الكتاب، وتفكيك نسيح مكوّناتها، وافتحاص السياقات المؤطرة لها، يجعلنا نضع الإصبع على خانة من الخانات التي تعكس تطور العقل الفقهي الإسلامي، وانفتاحه وتفهمه وتفاعله مع شروط وظرفية البيئة الغربية التي يعيش فيها، وحرصه على التأقلم مع أزمة الوباء، ومع قوانين الطوارئ الصحية التي أعلنتها السلطات الأوروبية. فالمفتي يسعى جاهدا لتوسيع منظوره، وترحيله من الدائرة التشريعية الإسلامية الصرفة نحو أفق التفاعل المركّب مع الدائرة الكونية، لأن الوباء عالمي بامتياز، ولا يمكن الإجابة عن النوازل المطروحة إلا من خلال تفاعلها مع الوسط العالمي. كما يؤكد استنطاق هذه النوازل ما تتميز به الشريعة الإسلامية من لون متجدد، متفاعل مع تغيرات الأزمنة، واختلاف الأمكنة، ومراعاة الاستثناءات، وتطويع النصوص والأعراف في "أزمنة الشدة"، مما يلزم المفتي بالتحاور مع الوضع الاستثنائي بكافة أشكال الليونة، لأن مثل هذا الوضع تترتب عليه قضايا جديدة تتطلب من العقل الفقهي عدم الانزلاق في حفرة الجمود والتحجر، والتعامل معها بمواقف تتسم بالتعقل والاجتهاد الذكي. نسوق مثالا على هذا التكيّف مع الواقع الأوروبي من خلال تحذيرات المؤلف عند تأطيره لنوازل كورونا، وحرصه على عدم وقوع المفتي في فخّ المقارنة والمماثلة بين المواقف من الجوائح التي عرفها التاريخ الإسلامي الباكر، من دون فهم تغير الزمن التاريخي الذي أنتجها، ذلك أن مقارنة الأوبئة المعاصرة من "قبيل إنفلونزا الخنازير أو إيبولا أو كوفيد 19، بطاعون عمواس أو وباء الجدري عام الرمادة أو غيرها من الجوائح والأوبئة التي حصلت زمن الصحابة ومن بعدهم، ينبغي أن يحكمه ضابط مراعاة تغير الظروف وتفاوت الأزمنة عند إصدار الفتوى. صحيحٌ أن الجامع بينها أنها أوبئة، إلا أن الظروف والأزمان مختلفة ومتباعدة"، على حدّ تعبير المؤلف. واستنادا إلى رأي كاتب مقال "إغلاق المساجد بسبب كورونا، وأزمة العقل الفقهي"، آخذ جامع هذه النوازل على الفكر الفقهي التقليدي افتقاره إلى فقه الاستشراف، وغلبة العاطفة على العقل، وانفصال التكوين الفقهي عن العلوم الطبية، ومن ثمّ الحاجة إلى تغيير منظومة الدراسات الشرعية. لذلك يذهب إلى أن تشكّل بنية الفتوى ينبغي أن يتكيف مع مجموعة من المتغيرات التي رافقت وباء كورونا، وهي على الخصوص: مراعاة ظرفية الأزمة (الشدة)، الحلّ الواقعي والتيسير، ورفع الحرج، وجلب المصالح، واحترام بيئة الاستقبال، وضرورة سرعة تنزيل الفتوى بما يتلاءم مع مستجدات الوضع الصحي التي تتغير يوما بعد يوم، وغيرها من المعايير التي يتبناها الفقه المقاصدي، مما يشي بأن فقه الأقليات يسعى إلى حسن تدبير أزمة كورونا، وإعادة تجسير العلاقات بين الجاليات الإسلامية وبيئية الاستقبال الأوروبية. وتجسّد نوازل الوفيات وترتيب الجنائز الواردة في هذا الكتاب تجلٍّ آخر من تجليات تطويع فقه الأقليات وتكيّفه مع الواقع. فارتفاع أعداد الوفيات جسّد الحدث البارز في جائحة كورونا بأوروبا، لذلك بات من البديهي أن تشكل نوازل الجنائز والدفن والاختلاط مع غير المسلمين السقف العالي في هذه النوازل. وقد اعتمد المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قواعد تخدم هذا الاتجاه، منها أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن المشقة تجلب التيسير، ولا تكليف إلا بمقدور، ولا واجب مع العجز، خاصة في حالات استثنائية كغسل المصاب بهذا الوباء، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه. وتطبيقا للتغيرات التي طرأت على بنية الفتوى بالنسبة للأقليات الإسلامية في أوروبا وتأقلمها مع ظرفية وباء كوفيد19، وتجسيدا للتقارب الذي حصل بين المسلمين والأوروبيين، نورد أربعة نوازل تصبّ في هذا الاتجاه: نازلة حول الدعاء لغير المسلمين بالشفاء: ورد سؤالٌ إلى هيئة الفتوى في بريطانيا من ممرضة مسلمة تقول فيه: "أنا أعمل ممرضة في قسم العناية المركزة بمستشفى كبير في برمنجهام، وهو ممتلئٌ حاليا بمرضى وباء كوفيد19، وهم مختلطون بين مسلمين وغيرهم، فهل يجوز الدعاء لغير المسلمين بالشفاء؟". نصّ الجواب: (وهي الفتوى الصادرة عن المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث تحت رقم 10/30): "لا حرج أبدا في الدعاء لجميع المرضى بالشفاء، لا سيما في هذ الأوقات الحرجة التي يجب على المسلمين فيها أن يكونوا جزءا من مجتمعاتهم، والمشاركة مع الناس في حملات التوعية، وما يساعد على تخفيف المصاب، وإظهار التضامن، ومنه الدعاء، خاصة وأن هذا الوباء عامٌ، والمريض به يمكن أن يؤثر على الجميع دون تمييزٍ، وهذا هو هدي الإسلام". ثمة نازلة أخرى تمحور موضوعها حول جواز تقديم الشبان المسلمين الأطعمة للأطقم الطبية غير المسلمة التي تشتغل في مستشفيات مدية برمنجهام. وقد أباحت مؤسسة المجلس الأوروبي للإفتاء جواز ذلك بناء على المرجعيات القرآنية والحديثية، لما تعكسه المبادرة من روح التضامن، خاصة في هذه المرحلة الصعبة التي تصل فيه الأطقم الطبية بياض النهار بسواد الليل، حفاظا على صحة المرضى، وعدم إمكانية الرجوع لبيوتهم. وتعكس النازلة الثالثة أيضا ليونة الفتاوى تجاه التداعيات التي تسببت فيها جائحة كورونا؛ إذ ورد على هيئة الفتوى في بريطانيا سؤال من أحد الأطباء المسلمين حول جواز التوقيع على إذن بحرق جثث مرضى قضوا نحبهم بسبب كورونا، قبل نقلها إلى المحرقة، وأن حرق الجثة لا يسبب تلوثا للطبيعة. وقد صدرت في هذا الشأن فتوى عن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث تحت رقم 28 (8/2) بجواز ذلك، لأن الطبيب المسلم غير مسؤول عن الحرق، وأن شهادته تخص عدم تلويث البيئة فحسب. أما النازلة الرابعة فيدور فحواها حول جواز شهود جنازة غير المسلمين ودفنهم. وقد وردت على هيئة الفتوى في بريطانيا من عامل في الإسعافات الطبية، يقول فيه: "أنا أعمل في الإسعاف في قسم الطوارئ بالمستشفى في إحدى القرى الصغيرة في بريطانيا، وفي ظل تفشي أزمة كورونا فإننا نضطر أحيانا لشهود جنازة الموتى المسنّين من غير المسلمين ودفنهم؛ نظرا لأن الكنيسة مغلقة للسبب نفسه، وهي التي كانت تقوم بهذا الدور في الأيام العادية، فهل في ذلك حرجٌ؟". وقد صدر قرار المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث حول هذه النازلة تحت رقم22 (4/6) بجواز القيام بدفن الموتى غير المسلمين وشهود جنازتهم، على أن لا يشارك في الصلوات والأدعية التي تقال إن كان معه أحد. 2. خفوت خطاب الإسلاموفوبيا بأوروبا: لم تقتصر علاقة الجالية الإسلامية ببيئتها الأوروبية على التفاعل الفقهي، وتطوير" فقه نوازلي وبائي" متعايش مع الآخر في زمن كورونا فحسب، بل تخطته إلى تحولّ خطابات العنصرية المقيتة، وشبح الإسلاموفوبيا بدورها نحو خطابات تآلفية تضامنية، وتسامح ديني لا تخطئ العين السليمة في رؤيته، وهو ما نقوى على بيانه من خلال عدة مشاهد نذكر منها: - المبادرات التطوعية للجاليات الإسلامية في أوروبا، حيث تمّ جمع التبرعات المالية بهدف تقديمها للمستشفيات التي يتم فيها علاج ضحايا فيروس كورونا، بغض النظر عن جنسيتهم أو دينهم أو معتقداتهم. ففي الأزمات والكوارث، عادة ما تغيب المرجعيات الإثنية والمحرّكات الدينية والقبلية، ليصبح وجود الإنسان هو حجر الزاوية ومحور الاهتمام. - وفي الاتجاه ذاته، حضرت مبادرات أرباب المطاعم العربية بأوروبا ضمن مشاهد التضامن والتآزر؛ ولا غرو فقد أخذ هؤلاء على عاتقهم مهمة التكفّل بتحضير الأغذية للأطباء والممرضين الذين لم تسعفهم ضغوطات وقت العلاج للخروج من المستشفيات، وتقديمها لهم دون مقابل، بغض النظر عن ديانتهم وجنسياتهم، عربونا على التعاضد والتلاحم من أجل حماية أرواح المصابين مسلمين وغير مسلمين. - وأمام استفحال وباء كورونا، وزيادة ضحاياه في هولندا، تمّ حسب ما ورد في بعض التقارير الصحافية والكتابات، وضع أحد مساجد أمستردام رهن إشارة السلطات الصحية الهولندية لاستخدامه مأوى للطوارئ، للتخفيف من الاكتظاظ البشري على المستشفيات بسبب ارتفاع عدد المصابين بالوباء. - وخلافا للصورة النمطية لمرحلة ما قبل كورونا، صار الأذان في المساجد يرفع جهارا عبر مكبرات الصوت في عدد من المدن الأوروبية. ففي هولندا، وخاصة عند بداية انتشار فيروس كورونا، أصبح أذان الجمعة يسمع من بعيد في المساجد رغم فراغها من المصلين. وفي العاصمة الألمانية برلين، غدا صوت المؤذن يصدح من مئذنة مسجد السلام، والشيء نفسه يقال عن مسجد أبي بكر الصديق في فرانكفورت. ولم تحد الدول الأوروبية الأخرى عن هذا المسار التسامحي الذي خلفه وباء كورونا، ففي قلب بروكسيل، حاضرة الدولة البلجيكية، علا صوت الأذان من إحدى المساجد لأول مرة عبر مكبرات الصوت. وفي المسجد الكبير بمدينة ليون الفرنسية، تمّ سماع الأذان لأول مرة كذلك بمكبرات الصوت عند صلاة المغرب. أما في إسبانيا، فقد تمّ رفع الأذان من مسجد بمدينة غرناطة لأول مرة بعد مرحلة تاريخية دامت أكثر من خمسة قرون. وحتى في ظل الإغلاق الذي طال المساجد بأوروبا، بثت إحدى فيديوهات يوتيوب مشهد فتح كنيسة مارتا ببرلين أبوابها استثناء لصلاة المسلمين يوم الجمعة، مع اتخاذ كافة الاحتياطات الصحية كحصر عدد المصلين والتعقيم والتباعد. وفي ألمانيا ذاتها، صدر في هذه الأيام قرار مهم بمنح عطلة بمناسبة عيد الفطر لكافة الجاليات الإسلامية، وهو سلوك إيجابي ينطق بروح التسامح والتقارب. والحاصل أن هذه المشاهد من التسامح التي حظيت بها شعائر العبادة لدى الجاليات الإسلامية بأوروبا، والفتاوى الفقهية المنفتحة والمتأقلمة مع الواقع الأوروبي، تؤكد تأثير الأوبئة في السلوك العام وفي المواقف والذهنيات والمشاعر وتبيّن كيف أن وباء كوفيد19، وهو العدو المشترك، وحّد المشاعر والأحاسيس بين الأوروبيين والأقليات الإسلامية رغم الاختلافات العرقية والدينية، وساعد على إبداع "فقه أزمة" منفتح ومتفاعل، يصبو إلى استنبات بذور التعايش بين الإسلام والغرب، ولو في المرحلة الحالية-مرحلة كورونا-في انتظار معرفة الوجهة التي سيتجه إليها شراع السفينة التي تقلّهما معا وسط هذا البحر متلاطم الأمواج.