يقدم المؤرخ المفكر عبد الله العروي، ضمن كتابه "مجمل تاريخ المغرب"، مؤشرا علائقيا متميزا حدده كعامل مهم في القاعدة الاقتصادية التي اعتمدها سلاطين المغرب بعد المولى الرشيد؛ فقد اهتم هؤلاء السلاطين بضبط العلاقات التجارية مع الخارج كخطوة أساسية لضمان وحدة البلاد الترابية. يربط العروي الفكرة التي ألح على "جديتها"، حسب عبارته، بعدم انتظام تلك العلاقات ونقصد خلال ذات الفترة المضطربة من تاريخ البلاد، طريق التجارة وما يتبعه من تدفق السلاح وإغراء المال؛ وهو الضبط الذي ساعد السلاطين العلويين على توحيد البلاد، لفترة طويلة من الزمن. هذه الفرضية المؤسسة منهجيا اقترحها العروي بعد تقديمه بشكل مختزل لحدث بدء التجارة الفرنسية (الجنينية آنذاك في مغرب أواسط القرن السابع عشر) وعلاقتها بالمولى الرشيد الذي كان في تلك الفترة العصيبة بصدد خوض صراع مرير في مواجهة قوى سياسية ودينية وقبلية مختلفة، قبل مد نفوذه إلى فاس. وقد تزامنت الحقبة التاريخية مع الحكم المطلق للويس الرابع عشر في فرنسا (خاصة بعد وفاة الوصي عليه ما زاران (Mazarin كما كانت باقي القوى الأوروبية تعيش مخاضات متعددة كإنجلترا التي كانت عينها على مناطق مغربية ومصالح تجارية بالبلاد، إنجلترا التي خرجت بالكاد من الحروب الدينية وديكتاتورية كرومويل وإرهاصات ما سمي بالثورة الإنجليزية الدستورية. المعروف أن ملك فرنسا لويس الرابع عشر وضع بجانبه الخبير الشهير كولبيرColbert كمفتش عام لماليته وكاتب دولته في البحرية، وهو من سعى إلى توسيع نفوذ فرنسا التجاري، ليس في مستعمراتها الحديثة فقط كالهند وكندا آنذاك (والتي ستفقدهما بشكل مفجع بعد هزيمتها مع النمسا في حرب السبع سنوات ضد إنجلترا المتحالفة مع بروسيا 1756 – 1763)، ولكن أيضا مد النفوذ الفرنسي إلى إفريقيا الشمالية في مواجهة القوى الأخرى وعلى رأسها بريطانيا. وعلى الرغم من تعثر الوزير المعني في بعض توجهاته ومشاريعه، فقد تحدث المؤرخون في الوثائق الفرنسية خاصة عن الرحلة التجارية الدبلوماسية للمفاوض و"مبعوث " الملك لويس الرابع عشر المنتمي إلى مدينة مرساي رولان فريجوس باسم شركة تجارية أطلق عليها "شركة الخزامى" أو "كمبانية الحسيمة"، وهو عنوان فريد من نوعه؛ لأن تلك الشركة تحمل الاسم الأصلي لمدينة الحسيمة المغربية (المشتق من كلمة الخزامى العربية وتترجم إلى اللاتينية Hyacinthus والتي تدل على نوع من النبات وهناك أيضا اسم "المزمة" وهي مدينة قديمة / عاصمة النكور كانت توجد قرب الحسيمة الحالية) أسسها بمعية أخيه ميشل. لا شك في أن تلك المحاولة ذات الطابع الدبلوماسي والتجاري كانت من أولى الخطوات الفرنسية التي تمت في وقت مبكر نسبيا تجاه المغرب والمولى الرشيد المنعوت في الأرشيف نفسه ب"ملك تافيلالت"، علما بأن محاولات إنجليزية سبقت الفرنسية كتنقلات السفير الإنجليزي جان هاريسون Jean Harrisson الذي قام بثماني رحلات إلى المغرب بين عامي 1610 و1632، فضلا عن الرحالين المؤرخين وكتاباتهم ذات الطابع المجالي الجغرافي كليون الإفريقي ومارمول كاربخال Mármol Carvajal Léon L'Africain -. المقصود هنا سواحل الحسيمة (وعلى الأخص نواحي واد النكور)، التي أصبحت في هذه الفترة موضع استهداف تجاري في محاولة أولى- حسب شارل أندري جوليان – من طرف الشيخ أعراص تجاه الإنجليز والذي واجهه الرشيد في البداية، حتى هزمه وعاد إلى تازة مجددا والتي اتخذها عاصمة له علما بأن هزيمة الشيخ أعراص هي التي مهدت - دون مؤشر موجه أو قصد معين- لتدخل المبعوث الفرنسي رولان فريجوس. وبما أن تنافس إنجلترا مع فرنسا في هذا الميدان خلال هذه الفترة المضطربة وتحوز الإنجليز بميناء طنجة وتعاونهم مع الخضر غيلان عناصر ساهمت في تفاصيل الحدث التاريخي، فإن كل هذا أثار حفيظة الفرنسيين حيث وجدوها فرصة سانحة وتحت ضغط سياسة لويس الرابع عشر ذات الطابع الميركنتيلي. يبدو أن رغبة كل من لويس الرابع عشر ملك فرنسا والأمير العلوي المولى الرشيد قد التقت بقصد أو غير قصد في تحقيق مصالح مشتركة للطرفين، فبعد القضاء على حركة الشيخ أعراص الذي كان يتحكم في بعض قبائل الريف في مارس 1666 وتحول العلاقة مع الرشيد إلى تقارب بل وتصاهر أيضا، أصبح في إمكان الأمير العلوي الصاعد فتح التجارة في الشواطئ المغربية بالريف، واضعا بذلك حدا لأنشطة الإنجليز التجارية، أي منافسي فرنسا، ولا سيما بعد تفويت طنجة هدية (.....) من البرتغال إلى إنجلترا وسيطرة هذه الأخيرة على التجارة بالمنطقة وعبر دعم الخضر غيلان الذي كان هو الآخر يسعى إلى مد نفوذه بالريف وباقي مناطق جبالة في عمق البلاد. كل معلومات هذه الرحلة التجارية والدبلوماسية التي انتهت إلى ما انتهت إليه كما سنرى استقاها الباحثون وعموم دارسي تاريخ المغرب من المصادر الأجنبية وخاصة الفرنسية بالطبع، مع الإشارة إلى مظان مغربية متأخرة وكتابات معاصرة. ومن الوثائق الفرنسية ما كتبه رولان فريجوس نفسه حول تلك الرحلة وما صاحبها من رسائل متبادلة بين عاهلي فرنسا والمغرب ووصف مثير مختزل لأطوارها ولمدينة تازة عاصمة الرشيد في هذا الفصل المبكر من الدولة العلوية الناشئة، وكذا يمكن الاعتداد في توثيق هذا الحدث ذي الطابع الدبلوماسي والتجاري والاستطلاعي أيضا بعدد من جريدة لاكازيت دوفرانس La gazette de France تضمن قرارا لمجلس الدولة الفرنسي بمنح امتياز التجارة مع "المزمة" أي الحسيمة إلى الإخوة فريجوس من مارسيليا بتاريخ 20 ماي 1664، سنتين قبل الرحلة المعلومة إلى المغرب وبالضبط نحو مدينة تازة معقل المولى الرشيد آنذاك. والمعروف أن أقرب سواحل الريف إلى تازة هي تلك الممتدة عبر شواطئ النكور والحسيمة، حيث تتسامق المدينتان في الخريطة بشكل عمودي عبر عمق جبال الريف المغربي. وكانت قبائل تازة خلال هذا الطور من تاريخ المغرب قد قدمت بيعتها للمولى الرشيد بعد مخاض مرير شهد تعاقب ممثلي المجاهد العياشي ثم أولياء الدلائيين فزعامات محلية مستبدة، تبعتها المدينة أو وقعت تحت تأثيرها وبينها إمارة ابن مشعل. مبادرة مجلس الدولة الفرنسي إذن تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن رغبة الفرنسيين كانت جامحة لربط مثل هذه العلاقات التجارية مع المغرب ومع الأمير العلوي أكثر بكثير من رغبة هذا الأخير، وإن كانت المصلحة وظروف الاحتياج إلى السلاح اللازم أساسا وراء قبول الرشيد لطلب الملك الفرنسي بتاريخ 19 نونبر 1665. سبق أن أشار باحثون فرنسيون إلى وجود علاقات تجارية ودبلوماسية بين المغرب (مملكة فاس ثم مملكة مراكش) قبل هذه الفترة عن طريق القناصل أو الطبابة أو بعض العمليات التجارية المحسوبة والحذرة في السواحل خاصة؛ لكن رحلة رولان فريجوس وأخيه ميشل أسالت مدادا لا يستهان به لأسباب عديدة فيما نتصور، أبرزها الطموح الفرنسي عموما للتوسع فيما وراء البحار مع بدايات ظهور البورجوازية الصناعية والتجارية وسعيها إلى البحث عن المواد الأولية والأسواق من جهة، وكذا التصدي للنفوذ البريطاني الآخذ في التصاعد والذي كان من أبرز مشاهده الفوز بطنجة من لدن البرتغال سنة 1661 عبر صفقة صداق وزواج بين إمبريالية آفلة وأخرى صاعدة، إلى أن حررها المغاربة في عهد السلطان المولى إسماعيل سنة 1684. وفي المقابل، كان من شروط نجاح وانتصار المولى الرشيد الحصول على البضائع الأوروبية، ولاسيما الأسلحة وسلع أخرى؛ فقد أورد فريجوس في مقابلة لا شك تمت بمدينة تازة مع المولى الرشيد حين تحدث قائلا إنه يكون "مدينا لهذا التاجر بكل معروف إن حمل له البارود والرماح والسيوف وأقمشة الجوخ والكتان"، وأنه "يؤدي في ثمن الكل بما يطيب للتاجر من السعر، وإن بلغ عشرين ألف أسكودس (وحدة نقدية في تلك الفترة)"؛ مما يؤكد انتفاء طابع المقايضة عن مشروع هذه الصفقة، وأنها عبارة عن عملية تسويق سلعة محددة من طرف معين واقتناء من طرف آخر مقابل المال.. وتسجل مصادر الفترة أنشطة تجارية (كان الفقهاء يسمون النشاط التصديري بالوسق) تم خلالها تبادل المواد الفيلالية والسودانية على الشاطئ الريفي بالبارود والأسلحة، بما في ذلك بنادق الأركيبوز أو المكاحل Arquebuses وهو ما ساهم في مواصلة مشوار المولى الرشيد أي توحيد البلاد وإقرار الأمن والسلام ودعم الجهاد البحري.. ولأنه أيضا في هذه الفترة، لم يكن قد تمكن من الساحل الأطلسي بعد، فالمصالح منذ البدء متبادلة كما نلحظ بوضوح. وعلاوة على الأسلحة، كان الرشيد بحاجة إلى بضاعة أخرى ذكرها في مقابلته للتاجر الفرنسي، ومن المواد التي كان يصدرها التجار المغاربة في هذه الفترة إلى أوروبا (في ظل لحظات الاستقرار القصيرة) الجلود والشمع والنحاس والصوف. ومن العوامل التي أدت إلى ذيوع هذه الرحلة تشوق الأوروبيين عامة، والفرنسيين منهم على وجه الخصوص، إلى اكتشاف المناطق الداخلية للمغرب؛ ذلك أن صاحبها، من خلال تقريره المعنون ب" Relation d'un voyage fait aux royaume du Maroc et de Fes " Paris 1682 - - ، قد تقمص بمهارة في البداية دور التاجر والمبعوث الدبلوماسي، ولكن أيضا الرحالة والمستكشف بدليل أنه حاول في تقريره أو وثيقته تصحيح نظرة الأوروبيين عامة والفرنسيين خاصة حول المغاربة "les berbères "من خلال محاولة النفوذ إلى مناطقه الداخلية واستكشافها، وسبر بعض أغوارها المعتمة، معتبرا المغاربة (خاصة ممن رافقوه) أناسا معتدلين أصحاب خلق وضيافة. ولعل الصورة الشائعة والشائهة وقتئذ أن تكون ناتجة عن خطإ تعميمي لدى الأوروبيين من خلال فتوحات وغزوات الأتراك العثمانيين والتي امتدت عبر أغلب مناطق حوض المتوسط، وما صاحبها من قهر وفتك وتعصب ديني وانتصار وانهزام تخص الطرفين أي الأتراك والأوربيين على حد سواء. بعد رسالة فريجوس يومه 19 أبريل 1666 من لدن ملكه إلى المولى الرشيد وموافقة هذا الأخير على اقتبال المبعوث الفرنسي بالصفة "الدبلوماسية" والتجارية معا، شرع فريجوس في مغامرته بدءا من شاطئ نكور وولوجا إلى داخل البلاد، علما مع ذلك بأن كلمة مغامرة هي أقل ما يمكن لوصف رحلته، لأن الأوروبيين كانوا بقدر ما يتحاشون المغرب بقدر ما يبدون الرغبة في استطلاعه واكتشاف خباياه وبشره وحجره، علما بأن عمق المغرب اعتُبر (دون الشواطئ وبعض مناطق جبالة وموغادور وسوس وسهل الغرب) إلى حدود الفترة المعنية متاهة مجهولة على وجه العموم وكان الرحالون والمستكشفون يتخفون تحت مسميات شتى، فريجوس شفعت له رفقة أحد شيوخ الريف عمر التمسماني وكذلك كونه مبعوثا إلى صاحب "شوكة" ونقصد الأمير العلوي ومرافقة أحد اليهود له وهو المدعو جاكوب باريونت Jacob Pariente. انتقل فريجوس عبر طريقه إلى تازة عاصمة المولى الرشيد من النكور عبر بني يعقوب ثم تافريست وأراضي المطالسة وجزناية، ثم عرج باتجاه مسون (25 كلم عن تازة)، ومن هناك دخل إلى تازة شرقا، ولا ندري لماذا لم يسلك طريق جزناية فصنهاجة ثم البرانس ومكناسة على نحو عمودي مباشر وصولا إلى تازة، وفي الغالب يُحتمل أنها كانت مسلكا غير آمن، فاختار مدبرو الرحلة طريقا آمنا أطول مسافة وإن كان أسهل مسلكا على نحو نسبي. استقبل الرشيد التاجر والمبعوث الفرنسي بدءا من 25 أبريل 1666 مرتين وبكل ما يليق من الحفاوة، وسلمه رسالة ملكه، حسب نفس تقريره المشتمل على سبعين صفحة ووفق ما كتبه الفرنسيون أنفسهم. وقد وصف فريجوس الطبيعة الخلابة وكان الفصل ربيعا والتي أخذت بلبه، ولم ينس أن يضفي صفات معينة من الغرائبية على ساكنة تازة في هذه الفترة، التي تجمهرت بشكل مثير كي تتطلع إل ىهذا التاجر الأجنبي (المحسوب مبدئيا على دار الكفر) حتى ضاقت الدروب والأزقة بهم وتدخل عشرون من الحرس السلطاني لإفساح الطريق أمام الضيف الفرنسي. يذهب باحثون أجانب إلى أن الصفقة التجارية بين الرشيد وفريجوس تمت فعلا؛ ولكن الوثائق الفرنسية في مجملها تبقي هذه المسألة ضمن حيز غامض ملتبس، باستثناء فوانو الذي ذكر بوضوح أن الشركة المعنية زودت الرشيد فعلا بالأسلحة وليس البارود فقط، وهناك إشارات إلى مدافع وذخيرة قد يكون الرشيد حصل عليها عن طريق الصفقة المعنية، ما دعم جيشه ومناصريه بشكل جيد ففتح فاس في 04 يونيو 1666، ثم توالت انتصاراته هنا وهناك وحتى السوس والصحراء، وبذلك تمكن من توحيد البلاد وتأمينها في وقت وجيز لم يتجاوز السبع سنوات. نعود إلى رحلة فريجوس فقد سلمه الرشيد بدوره رسالة جوابية من مقره بتازة إلى لويس الرابع عشر وودعه بتاريخ فاتح ماي 1666م، وغالبا على أساس أن تبدأ أنشطة الشركة مباشرة بعد ذلك، فأخذ التاجر الفرنسي ومرافقوه طريق العودة إلى نفس شواطئ الريف (ومن ثمة إلى بلده فرنسا) التي وصلها عبر ذات المسالك والطرق يوم 21 ماي، بعد أن خلفت هذه الزيارة أو الرحلة أثرا كبيرا في مملكة فاس (فوانو) علما بأن رسالة شكر وامتنان بعثها بعد ذلك الملك لويس الرابع عشر بدوره إلى المولى الرشيد يثمن فيها الأثر الطيب لتلك الرحلة ويلتمس منه مساعدة فريجوس وشركته ويهنئه في نفس الوقت بانتصاره على الخضر غيلان وهي محررة بقصر سان جيرمان بباريس يوم 08 دجنبر 1666 ثم يرجو فيها من الأمير العلوي استمرار وتطوير علاقات مملكته مع فرنسا (الملكية خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر). على الرغم من الوصف الذي أضفاه هنري تيراس على رولان فريجوس بكونه شخصا سخيفا/ Ridicule ، فإنه نعت تقريره الذي قدمه بعد الرحلة ب"المتميز"، لكن غيوما داكنة سرعان ما عكرت صفو الصفقة من أساسها، فجل الباحثين والمؤرخين يسجلون أن جهود هذه الشركة أي كمبانية الحسيمة لم تستمر طويلا بفعل الالتباسات والشكوك بل حتى الشبهات التي بدأت تطاردها مع صاحبها طيلة تلك السنين، أي بين 1666 و1670 حيث انتهى بها الأمر إلى الإفلاس، بل وتذهب المصادر إلى أن المولى الرشيد ألقى القبض على فريجوس وفي إشارة تاريخية أخرى أنه طرده من البلاد، ويبرر المؤرخ شارل أندري جوليان بافتقاد فريجوس إلى اللباقة مما خيب ظن مخاطبيه وعلى رأسهم الرشيد. وعلى العكس، فإن مبالغات فريجوس في تقريره تكشف بالخصوص عن قوة الأمير العلوي، أكثر بكثير قياسا إلى مكر فريجوس ونيته المبطنة . وتفيد الوثائق أيضا بأن من أسباب انقلاب الرشيد ونفوره المفاجئ نوعا ما تجاه فريجوس أن التاجر الفرنسي اقترح عليه الإذن بتأسيس شركة جديدة وهذه المرة بفاس العاصمة التاريخية والروحية للمملكة، تتاجر في المواد المغربية كالجلد والشمع والنحاس والصوف ومسحوق الذهب وتصدرها نحو فرنسا وأوروبا، الشيء الذي أكد شكوك المولى الرشيد حول الأهداف الحقيقية للرجل ورحلته ككل؛ فنفض العاهل العلوي يديه ليس فقط من هذا الاقتراح الجديد ولكن أيضا من الصفقة الأولى التي أصبح في حل منها، بل وألغى كذلك مشروع صفقة مماثل تقدم به الهولنديون. ولعل إحساسه بمسؤوليته عن دار الإسلام قد هول لديه أبعاد التجارة مع أجانب مختلفين ليس فقط في الديانة والعقيدة والأفكار؛ ولكن أيضا في النوايا والخطط التي قد تذهب بعيدا إلى الغزو والاحتلال بمفهومنا الحالي. لكن هناك عامل آخر واقعي أقوى فيما نتصور؛ وهو انتصار المولى الرشيد على الدلائيين، انطلاقا من معركة بطن الرمان ووصولا إلى سقوط معقل الزاوية بيده في 18 يونيو 1668. ومن ثمة، مد نفوذه إلى الساحل الأطلسي، والنتيجة أنه أصبح في غنى عن الساحل المتوسطي، خاصة أن جمهورية سلا الموريسكية احتضنت حركة نشيطة لما سمي تاريخيا بالجهاد البحري، عززها المجاهد العياشي على الرغم من الصراع الذي حصل وانتهى باستنجاد الموريسكيين بالدلائيين. وتبعا لتحرشات وحصارات بعض القطع البحرية الأوروبية، فقد احتضنها السلطان الرشيد لدوافع دينية ومادية، إذ كان يستخلص من القراصنة ومجاهدي البحر إتاوات معلومة مقابل عدم مضايقة حركة الجهاد تلك. سرعان ما اكتشف المولى الرشيد حقيقة الرجل المتخفي في ثياب التاجر الدبلوماسي، فقد تسربت إلى الرشيد (في ظروف ملتبسة) رسالة عبارة عن قصاصة ورقية على الأرجح، تضمنت مشروعا لبناء قلعة فرنسية على صخرة النكور تشابه ما تم بشرق الإيالة الجزائرية تحت حكم الآغوات ، الشيء الذي دفع الرشيد إلى إجراء استباقي تمثل في الإشراف على بناء تلك القلعة بالذات على يد الشيخين محمد بن عمر ويحيى أعراص؛ وهما من أبرز أعيان القبائل الريفية اتقاء لشر غزو وأجنبي محتمل نتيجة هذا المشروع الخطير. كان الرشيد يعتقد كأمير صاعد لدار الإسلام أن أمر فريجوس لا يتعدى خير المسلمين أي التجارة وجلب المنافع، فلما اكتشف أن مشروع بناء قلعة ذا طابع "استعماري" يروم احتلال جزء من دار الإسلام تحول موقفه بشكل كامل علاوة على العوامل التي ذكرنا سابقا، ويحتمل أنه صرف الرجل برفق نحو الحسيمة في أفق عودته إلى بلده، لكن فريجوس ظل هناك يبيع ما توفر له من سلع. ولما بلغ الأمر إلى الرشيد الذي كان قد اعتقد خطأ أن فريجوس التحق ببلده لم يعد له أي شك في العملية والصفقة ككل، فألغاها وطلب منه المغادرة في الحين، وأوقف كل الرسائل الجوابية سنة 1671 خاصة بعد إفلاس الشركة سنة قبل ذلك. ويمكن توصيف هذه الوضعية أخيرا بأنها انقلبت رأسا على عقب من مظهر دبلوماسي تجاري إلى مشهد قريب من روح الهيمنة والاحتلال. وفي كل الأحوال، استغل الإسبان حدث وفاة الأمير العلوي، فاحتلوا الحسيمة سنة 1673. أخيرا، فإن تضايق الرشيد لم يكن مرده إلى مشروع القلعة فقط بل إلى تداعيات الرحلة عموما، وما استهدفته من اطلاع على أحوال السلطان والبلد وأحوال المسلمين، أي ببساطة كانت الشركة إياها عبارة عن خلية تجسسية تفتح الباب على مصراعيه للفرنسيين قصد إيجاد موطئ قدم لهم بالإمبراطورية الشريفة (ش أندري جوليان). وقد أكدت المعلومات الدقيقة والمثيرة التي وصل إليها المستكشفون والرحالون الأجانب بعد ذلك، حول مختلف المناطق المغربية وأحوال الحكام والمحكومين، هذا الافتراض التاريخي، على الرغم من الحذر المنهجي الذي يمكن أن يطرح نفسه دون تهافت أو تسرع في الأحكام، لتداخل المعلومات ذات الطابع الإثنوغرافي والاجتماعي والسياسي أحيانا في تلك الكتابات المهمة مع ذلك، ونقصد هنا أسماء معينة كالسفير شينييه Louis de Chénier والرحالة علي باي العباسي Domingo Badia y Leblich والراهب الكاثوليكي شارل دوفوكوCharles De Foucauld والماركيز دوزيكونزاك Le Marquis De Segonzac وغيرهم . (يتبع) *رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث